الداء والدواء
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
للدكتور فضلو حيدر
محاضرة ألقاها في منتدى البردوني
مهما اختلفت مشاربنا السياسية واعتقاداتنا الدينية ومعارفنا العلمية فأهداف الإنسان واحدة تنحصر كلها بحفظ الذات وضمانة الحياة والتمتع بمقام اجتماعي مرموق.
ويحول دون الوصول إلى هذه الأهداف عقبات جمة أقواها وأضرها الجهل. فجهل المرأة مثلا يعني جهل النشء وانحطاط التربية والثقافة في الأمة.
ويصح أن تكون ثقافة المرأة قياسا للمدنيات نظراً لما للأم من التأثير في نشوء الأمم. ومن الأمثلة التي توضح جهل الجماعات معدل العمر في الشعوب.
لقد كان معدل عمر الأوربي في القرون الوسطى تسع عشرة سنة تقريبا.
أما اليوم فقد ناهز السبعين من السنين.
أما في الشرق الأدنى فلا يزال معدل عمر الإنسان نحو الثلاثين.
وكلنا نعلم بأن هذا الاختلاف المخيف في الأعمار بين الغرب والشرق، أي بين السبعين والثلاثين، لا ينطبق تماما على قول الشاعر العربي: يقرب حب الموت آجالنا لنا ...
وتكرهه آجالهم فتطول بل بعود إلى الوعي الصحي في الأمة وإلى المعارف الطبية.
فليقدر كل منا الخسارة الهائلة التي يضرب بها الشرق بموت أطفاله وشبابه قبل الأوان. وبما أن وقت المحاضرة محدود فسأحصر حديثي الليلة في المعارف الصحية فماذا يجب أن يعلم كل منا عن العيلة؟ العيلة أساس المدنيات.
وغايتها القصوى ضمانة النسل وحقوق الأولاد الاجتماعية وتربيتهم تربية صحيحة صحيا وسلوكيا ومعرفيا. ولذلك يجب أن بفحص الطالب قبل زواجه ضماناً لحياته وسلامة للنسل.
ومع أن روابط العيلة مقدسة في الأديان وتضمنها نظامات اجتماعية في الأمم المتمدنة، فإن العيلة لن تثبت واقعيا على أسس متينة إن لم ترتكز على صفات نفسانية مغروسة غرساً صالحا بالتربية الراقية والواعية.
وذلك يشير إلى تربية الأنانية والجنسية.
أي يجب أن نحول الأنانية والجنسية من نوازعها الفطرية إلى الحب والاحترام بين الجنسين.
فتوجه الأنانية من (ليتك تموتين قبلما أعطس أنا) إلى عاطفة التعاون والمشاركة وإنكار الذات ضنا بسلامة العيلة وسعادتها وتقديسها لغايتها القصوى.
فكسف يمكن أن تثبت العيلة في المجتمع إذا كان هم كل من الشريكين محصوراً في فرض سلطته وإبراز رأيه.
وكم من الشبان يجهلون غاية الزواج وماهية الأب والأم في العيلة والمجتمع.
وكم ينتج عن هذا الجهل من التعاسة والإجرام في المجتمع. ومن أقدس واجبات الوالدين تنبيه أبنائهم وتدريبهم على الأساليب الصحيحة النافعة في الحياة، ورعايتهم إلى أن تصبح تلك الأساليب عادات ثابتة يسير النشء بموجبها بديهيا كالغرائز لمنفعته الصحية والاجتماعية والعملية.
فاتقاء الأمراض مثلا يصبح بالتربية عادة تعمل يوميا بدون تفكير أو تفسير.
.
كغسل اليدين قبل الطعام وبعده، وتنظيف الفم بعد الأكل وقبل النوم، والاستحمام يوميا، وقس على ذلك كل العادات والتقاليد من اجتماعية ودينية، والأعمال والحرف اليومية كسياقه السيارة وآداب المائدة والرق والموسيقى والمحافظة على النظام والمواعيد واحترام حقوق الغير - كلها تكمل متى أصبحت عادة. ومن واجبات الوالدين الاهتمام بحواس الأولاد كالسمح والبصر لأنها مداخل المعرفة، وأي نقص فيها يؤدي إلى تأخر الولد في نموه العقلي والسلوكي في البيت والمدرسة والمجتمع.
وكذلك يجب أن يعالج أي تشوش كان في النطق والحركة وهي سبيل النجاح في البيئة كي لا يصبح الولد أضحوكة بين رفاقه. وعلى الوالدين أن ينتبهوا إلى سلوك البنين في اللعب والدرس والعمل؛ إذ كم من المرات يكون فشل الولد وبكاؤه وكسله وحزنه ناتجا عن ضعف صحته أو نقص غذائه أو فقر دمه أو تشوش في حواسه. واعوجاج السلوك يستوجب علاج النفس بسبل علمية، لا بالانتهار والقصاص والضرب، لأن هذه العلاجات تؤدي إلى زيادة إدماء الوجدان واعوجاج السلوك في الكبر. وضروري أن يفحص الولد طببا في فترات متعددة وطبعا كلما دعت حالته الصحية، كي لا يداوي ألم البطن بشربة وهو من التهاب الزائدة، ولا القيء بلزقة وهو من مرض السحايا الدماغية (مننجيت). ويفحص الطفل في الحول الأول مرة كل شهر يدون فيها وزنه ونموه الجسدي والعقلي والعاطفي. فالتربية أي السلوك الحسن والقبيح هي حظنا في الحياة من لطفاء أو ثقلاء، وناجحين أو حابطين.
وفي الصغر يمكننا أن نربي مثلا ورح التعاون بتعويد الأولاد أن يلعبوا ويعملوا جماعات أو العكس بالعكس، أو أن نربي الخوف بزيادة الإرهاب والتعذيب، أو أن نربي الخمول والقناعة في التفكير والتفسير بانتهار الولد كلما سأل مستعلما، وبإعطائه تفسيرا سخيفاً يغلق في ذهنه باب الحشرية، والتطاول بدلا من إنعاش روح اشك والبحث والتحري بحسن التفسير والتشويق والمكافأة والتشجيع والمساعدة.
وقس على ذلك تربية طابع الحسد والغيرة والنقمة، أو خلق عمل الواجب واحترام حقوق الجماعة وكلها أمور فعالة في مستقبل النشء ونجاحه أو إخفاقه. والخلاصة أن صفاتنا من حسنة أو قبيحة ومعارفنا من عالية أو سافلة لم تولد معنا.
وما يتبجح به المتمدن من ثقافة راقية على الهمجي والأمي لم يولد معه؛ بل اكتسبه في البيت والمدرسة والمجتمع. وسأنتقل الآن بكم من الصغار إلى الكبار.
فماذا يجب أن يعلم كل منكم عن إطالة العمر. (1) الأمراض السارية لا مفر من الموت.
ولكن من الممكنات أن يعيش الإنسان مدة قرن متمتعا بصحة جسدية وعقلية ونفسانية لا بأس بها بقد كانت الأمراض السارية كالطاعون والجدري والكوليرا والسل في الماضي القريب من أكثر مسببات الوفيات.
أما اليوم فقد تغلب عليها الطب تقريباً في كل العالم.
فبعضها قد زال والبعض الآخر قد ضعف فتكه.
كذلك قد زالت تقريباً أمراض الأطفال التي كانت تحصد الأرواح في السنين الأولى من العمر بفضل انتشار المعارف الصحية بين الشعب، وتقدم العلوم الطبية في الغذاء والدواء والوقاية. والوقاية خير من العلاج.
فالوقاية العمومية من واجبات الحكومات ومنها الحجر الصحي وتجفيف المستنقعات وتصفية مياه الشرب وتقنية المراحيض وتعقيم أو حرق فضلات المدينة فالوقاية العمومية أراحت الإنسان المتمدن من البرغش والذباب والهواء وغيرها من ناقلات المكروبات؛ وبفضلها تلاشت في العالم الملاريا والحمى الصفراء والكولرا والتيفوئيد. ومن سبل الوقاية في بعض الأمراض القتالة التطعيم؛ فهو يولد في الجسم مناعة تامة في الجدري والكلَب، وجزئية ومؤقتة في الخناق (ديفتريا) والتيفؤيد والشهقة وغير مقررة في السل ومن طرق الوقاية العابرة حقن المصول في الخناق والكزاز، ونقل دم الإنسان الصحيح أو مصل دمه أو غلوبيولينه إلى الأولاد المعرضين في حميات الأطفال القتالة كالشاهوق الخبيث والحميرة السوداء. ومن سبل الوقاية المؤقتة الابتعاد عن المرضى.
ولرب سائل يقول: هل الأفضل إبعاد الأولاد عن إخوانهم المرضى في (مواسم) الحميات أو تركهم على الطبيعة؟ أقول: إن الأفضل تركهم إلا إذا كان الوافد شديد الوطأة.
وعدا ذلك لا خوف على حياتهم.
فلا فائدة من الإبعاد لأن تلك الأمراض ستعودهم كباراً حيث تكون أشد خطراً كالحميرة الألمانية مثلا؛ فإنه مرض بسيط للغاية في الصغار ولكنه في الحبالي يسبب أحيانا تغيرات عصبية في الجنين تظهر فيه بعدئذ عاهات عقلية.
وكذلك مرض أبو كعيب فإنه سهل في الأولاد وكلنه يسبب في البالغين أحيانا العقم والاختلاطات الدماغية والكلوية. ولا يزال السل من الأمراض القتالة بالرغم من (الستربتومسين) و (الباز) ومركبات (الايزونكتنيكو) كا (ليميفون) و (النيدرازيل) والجراحة.
والوقاية منه تكون بحسن التغذية والحياة الصحية والتطعيم.
ومن الضروري اكتشافه باكرا لمنع العدوى وسهولة الشفاء.
ولذلك كان من الواجب فحص التلاميذ والعمال با (لتيوبركولين) والأشعة والفحص الطبي العادي مرة كل سنة على الأقل في الأحوال الصحية. (2) السرطان وماذا أخبركم عن السرطان؟ فقد زاد عدد ضحاياه في هذا العصر.
ومع أننا نجهل سببه فإننا نعلم شيئا عن بعض العوامل التي تهيئ حدوثه أو تحبذه كالتحريش المزمن (مثلا بين اللسان والأضراس النخرة) والالتهابات المزمنة، والقروح القديمة والبثور الطويلة العهد.
ويزعم بعض الأطباء أن اختلالا ما في إفرازات الغدد التناسلية يوقظ بعض الخلايا العادية أو الامبريولوجية فيسرطنها. والوقاية منه تكون بمنع الأسباب المحبذة حدوثه، كمعالجة الأسنان النخرة، والالتهابات المزمنة والثآليل المعرضة لفرك والاحتكاك، وباتباع نظام صحي بأن يزور الإنسان طبيبه مرتين سنويا بعد الخمسين من العمر في حالته الصحية. والسرطان قابل الشفاء إذ اكتشف باكرا؛ أي عندما يكون محصوراً أي قبلما ينتشر بالأنسجة المجاورة أو البعيدة.
والسرطان الخارجي - الجلدي مثلا - يشفى بمعدل 90 بالمائة لسهولة اكتشافه.
وكلما بعد وقت تشخصيه نقص، لسوء الحظ، الأمل بشفائه. وأهم علاجاته إلى اليوم الجراحة والأشعة والمعادن المشعة ونزع الغدد التناسلية (الخصى الجراحي) وحقن الخلاصات التناسلية من جنس مخالف لجنس المريض.
وعلماء السرطان تبحثه ليل نهار، وأملنا كبير بأنهم سينتصرون قريباً على هذه الآفة القتالة. (3) الشيخوخة وهنالك مصائب غير الأمراض المعدية والسرطان تقرب الأجل؛ تحدث من تغيرات عضوية في القلب والشرايين والكبد والكلى ندعوها أمراض الشيخوخة. ومع أن طول العمر وراثي فإنه يتراوح فزيولوجيا حول المائة من السنين.
ولكن لا يصل الإنسان عادة إلى هذا الحد لأسباب طارئة من متاعب الحياة فتتبخر السنون قبل أوانها.
فكيف نتمكن من إبعاد حلول الشيخوخة. للكلام بقية فضلو حيدر