منهج ابن كثير في الدعوة إلى المعاملات
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
منهج ابن كثير في الدعوة إلى المعاملاتالمعامَلات جمع معامَلة على وزن مفاعلة، وهي مصدر بصيغة (فاعل مفاعلة)، التي من معانيها المشاركةُ في الفعل بين اثنين أو أكثر، وعامَلَه بمعنى تصرَّف معه في بيع أو نحوه[1].
واصطلاحًا: الأحكام الشرعية المتعلِّقة بأمر الدنيا؛ كالبيع والشراء والإجارة[2].
والمسلم - لا سيما الداعية إلى الله - بأمسِّ الحاجة إلى معرفة أحكام المعاملات التي تكون بينه وبين الناس؛ مثل "البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم كالأكل والشرب واللباس، فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرَّمتْ منها ما فيه فساد، وأوجَبتْ ما لا بد منه، وكَرِهتْ ما لا ينبغي، واستحسنتْ ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها[3].
والأصل في المعاملات الإباحةُ وعدم الحظر، فلا يُحظَر منها إلا ما حظَرَه الله سبحانه وتعالى، فالناس يتبايَعون ويَستأجرون كيف شاؤوا مالم تُحرِّمْه الشريعة، بخلاف العبادات التي أوجَبَها الله أو أحَبَّها، فالأصل فيها الحظر، فلا يثبُتُ الأمر بها إلا بالشرع[4]، وابن كثير رحمه الله بيَّن في تفسيره كثيرًا من هذه الأحكام، نذكر بعضًا منها على سبيل الإيجاز:
1- النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، فقال رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]: "نهى تبارك وتعالى عبادَه المؤمنين أن يأكلوا أموالَ بعضهم بعضًا بالباطل؛ أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية؛ كأنواع الربا والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحِيَل، وإن ظهَرتْ في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الرِّبا"[5].
2- النهي عن أكل الربا، وأن الله سبحانه وتعالى يَمْحَقُ المُرابِيَ ويَحْرِمه بركة ماله، كما قال سبحانه: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276]، يقول ابن كثير: "يُخبِر تعالى أنه يَمْحَقُ الربا؛ أي: يُذهِبُه بالكليَّة من يد صاحبه، أو يَحْرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذِّبه به في الدنيا، ويعاقِبه عليه يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾ [المائدة: 100]، وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود، ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾؛ أي: لا يحب كَفُورَ القلب، آثِمَ القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابيَ لا يرضى بما قسَمَ الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب بالمباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جَحُودٌ لما عليه من النعمة، ظَلُومٌ آثِمٌ، يأكل أموال الناس بالباطل"[6].
3- إنظار المعسر حتى يتيسَّر حاله، فقال رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280]: "يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاءً، فقـال: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾،لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمَدِينِه إذا حَلَّ عليه الدَّينُ: إما أن تقضيَ، وإما أن تربيَ"[7].
4- الأمر بكتابة البيع إذا كان دَيْنًا؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282]، يقول ابن كثير: "هذا إرشادٌ منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تَعامَلوا بمعاملات مؤجَّلة أن يكتُبوها؛ ليكون ذلك أحفَظَ لمقدارها وميقاتها، وأضبَط للشاهد فيها..
فأُمِروا أمرَ إرشادٍ، لا أمرَ إيجاب كما ذهب بعضهم"[8].
وغير ذلك من أحكام المعاملات ووسائلها وصورها المتعددة التي ذكرها ابن كثير في تفسيره، وبيَّن الجائز منها والممنوع، مستخدمًا المنهج العاطفيَّ في التحذير من أكل أموال الناس بالباطل، وأن ذلك سببٌ في مَحْقِ بركة المال، أو حرمان صاحبه منه بالكليَّة، أو المنهج العقلي في إشارته إلى عدم تساوي المال الخبيث والمال الطيب ولو أعجَبَ الإنسانَ كثرةُ الخبيث؛ لأنه سيُحاسَب عليه يوم القيامة ويُعذَّب؛ لأن هذا من باب المقابلة بنقيض المقصود، وكذلك إشارته رحمه الله إلى ختم آية الرِّبا بقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276]، فالمرابي جَحُودٌ لما عليه من النعمة، ظَلُوم آثِمٌ، يأكل أموال الناس بالباطل، وكذلك المنهج الحسي بكتابة البيع إذا كان دَيْنًا.
[1] انظر شذا العرف في فن الصرف لاحمد المحلاوي ص 24 مصطفى البابي الحلبي 1382هـ، والمعجم الوسيط ص 628.
[2] المرجع نفسه ص 628.
[3] الفتاوى لابن تيمية 29 /18.
[4] انظر الفتاوى 29 /16-18.
[5] انظر تفسير القرآن العظيم 1 /586 وانظر المرجع نفسه 1/280 عند تفسير الآية: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ [البقرة: 188].
[6] انظر تفسير القرآن العظيم 1 /405 -407 وانظر المرجع نفسه 1 /403 عند تفسير الآية: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ ﴾ [البقرة: 275]، وكذلك 1 /403 عند تفسير الآية: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، وكذلك 1 /404.
[7] المرجع نفسه 1 /408.
[8] انظر تفسير القرآن العظيم 1 /412.