مجمل أصول أهل السنة - الجماعة والإمامة


الحلقة مفرغة

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وآله، ورضي الله عن صحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

يقول المؤلف حفظه الله تعالى: [ سابعاً: الجماعة والإمامة.

أولاً: الجماعة في هذا الباب هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، المتمسكون بآثارهم إلى يوم القيامة، وهم الفرقة الناجية .

وكل من التزم بمنهجهم فهو من الجماعة، وإن أخطأ في بعض الجزئيات.

ثانياً: لا يجوز التفرق في الدين، ولا الفتنة بين المسلمين، ويجب رد ما اختلف فيه المسلمون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح.

ثالثاً: من خرج عن الجماعة وجب نصحه ودعوته ومجادلته بالتي هي أحسن، وإقامة الحجة عليه، فإن تاب وإلا عوقب بما يستحق شرعاً.

رابعاً: إنما يجب حمل الناس على الجمل الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، ولا يجوز امتحان عامة المسلمين في الأمور الدقيقة، والمعاني العميقة .

خامساً: الأصل في جميع المسلمين سلامة القصد والمعتقد حتى يظهر خلاف ذلك، والأصل حمل كلامهم على المحمل الحسن، ومن ظهر عناده وسوء قصده فلا يجوز تكلف التأويلات له.

سادساً: فرق أهل القبلة الخارجة عن السنة متوعدون بالهلاك والنار، وحكمهم حكم عامة أهل الوعيد، إلا من كان منهم كافراً في الباطن، أو كان خلافه في أصول العقيدة التي أجمع عليها السلف، والفرق الخارجة عن الإسلام كفار في الجملة، وحكمهم حكم المرتدين.

سابعاً: الجمعة والجماعة من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة، والصلاة خلف مستور الحال من المسلمين صحيحة، وتركها بدعوى جهالة حالة بدعة.

ثامناً: لا تجوز الصلاة خلف من يظهر البدعة أو الفجور من المسلمين مع إمكانها خلف غيره، وإن وقعت صحت، ويأثم فاعلها إلا إذا قصد دفع مفسدة أعظم، فإن لم يوجد إلا مثله أو شر منه؛ جازت خلفه، ولا يجوز تركها ، ومن حكم بكفره فلا تصح الصلاة خلفه.

تاسعاً: الإمامة الكبرى تثبت بإجماع الأمة، أو بيعة ذوي الحل والعقد منهم، ومن تغلب حتى اجتمعت عليه الكلمة وجبت طاعته بالمعروف ومناصحته، وحرم الخروج عليه إلا إذا ظهر منه كفر بواح فيه من الله برهان].

هذه الأصول من ضمن منهج السنة والجماعة الذي رسمه الإسلام من خلال نصوص القرآن ومن خلال سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، ومن خلال سنة الخلفاء الراشدين، ونهج السلف الصالح.

وهذه الأحكام تعتبر من أصول الدين ومسلماته، وهي مناهج الدين التطبيقية العملية فيما يتعلق بالأحكام العامة والمصالح العظمي والمصالح الكبرى، وذلك أن أمور العقيدة على أنواع:

الأول: أمور علمية اعتقادية كأصول الإيمان الستة.

الثاني: أمور عملية تتعلق بالعبادات والشعائر، كأركان الإسلام الخمسة.

الثالث: أمور عملية تتعلق بمناهج الدين وتطبيقاته فيما يتعلق بالجماعة وصورها في التعامل بين المسلمين، وفي تعامل المسلمين مع المخالفين منهم، وتعامل المسلمين مع غيرهم من الكفار، وهذا يدخل فيه أمران:

الأمر الأول: الجماعة والإمامة وأحكامها.

الأمر الثاني: ما يتعلق بخصائص أهل السنة وسماتهم، وهي المحك العملي في تعاملهم مع بعضهم ومع الآخرين.

الجماعة وما يتعلق بها من أحكام

الجماعة إذا ورد ذكرها في القرآن والسنة وفي منهج السلف فلها عدة إطلاقات، والذي يهمنا هنا هو الإطلاق العام والكبير، الجماعة التي هي من مسلمات الدين ومن ثوابت الدين ومن أصوله ومن قواطعه.

فجماعة المسلمين المقصود بها هي التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر خصائصها، وتتميز بسمات رسمها الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح.

فجماعة المسلمين هي المستمسكة بالحق والمستمسكة بالسنة، وهي من ناحية تاريخية مرت بصور:

الصورة الأولى: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين قبل ظهور الافتراق حيث كان المسلمون كلهم على الجماعة، وكانت تتوافر فيهم صفات الجماعة المسلمة من جميع الخصائص والسمات، وإن وجد عند بعض الأفراد شذوذ، فإن الشذوذ في تصرفات الأفراد أو الفئات القليلة لا تخرق قاعدة أن الجماعة موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا على الإسلام والسنة ولم يظهر افتراق.

وفي آخر عهد الخلفاء الراشدين ظهر الافتراق، ثم في القرن الأول تنامى الافتراق حتى آخر القرن الأول، فكثرت الفرق وكثر أتباعها، فمن هنا رجع السلف إلى تمييز الجماعة بالوصف التي وصفها به النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فلما نظروا إلى ما عليه المسلمون من الفرقة والاختلاف؛ وجدوا أهل السنة والجماعة هم الذين بقوا على هذا المنهج، وسموا أهل السنة والجماعة بناء على وصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالجماعة في نصوص كثيرة تصل إلى حد التواتر المعنوي: (عليكم بالجماعة).. (إياكم والفرقة).. (يد الله مع الجماعة)، إلى غيرها من النصوص الكثيرة التي توصي بالجماعة وتجعلها الموئل للمسلم عندما يكثر الافتراق وتكثر الأهواء.

فالجماعة المعنية من حيث تطبيقاتها: هم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والتابعون لهم بإحسان الذين أحسنوا التبعية من غير تقليد، إنما اتباع باهتداء واقتداء.

وهم المستمسكون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وآثار السلف الصالح إلى يوم القيامة، ولذلك سموا بالفرقة الناجية، وهذه التسمية لم تكن من صنع الناس، وإنما هي مأخوذة من وصف النبي صلى الله عليه وسلم.

فكل من التزم بمنهج السنة ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين؛ فهو من الجماعة في العقيدة والمواقف والمصالح العظمى، فمن التزم هذا النهج فهو من الجماعة، وإن أخطأ في بعض الجزئيات.

فمن وقع منه خطأ من علماء المسلمين أو من عامتهم فإن كان الخطأ يتعلق بأمر جزئي اجتهادي؛ فلا يضره ذلك ولا يخرجه من الإيمان.

وكذلك إذا كان الخطأ عن تأول أو عن جهل، فإن الإنسان لا يخرج من الجماعة حتى تقام عليه الحجة، وعلى هذا فإن المسلم -عالماً كان أو غير عالم- لا يخرج من مفهوم هذه الجماعة الشرعية إلى قيام الساعة إذا التزم نهج المسلمين في العقيدة والمواقف والمصالح، ولا يخرج بذلك من الجماعة إلا بأمرين أو بأحدهما:

الأمر الأول: إذا خالف في أصل من الأصول القطعية أو ثابت من ثوابت الدين العلمية أو العملية؛ فإنه يخرج من الجماعة وإن لم يخرج من الإسلام، بولا يلزم أن يكون خرج من الملة، لكن خرج من السنة والجماعة.

الأمر الثاني: إذا تكاثرت البدع عند شخص بأن تكون هي سمته وهديه بحيث يكون في شكله الظاهر ومعاملاته وعباداته وشعائر الدين على غير نهج أهل السنة والجماعة، وليس في أمر أو أمرين أو ثلاثة، لكن في سائر سمته. وفي سائر هديه على منهج أهل البدع؛ فإنه بذلك يخرج من مفهوم الجماعة.

تحريم الفرقة في الدين والفتنة بين المسلمين

ينبني على هذا أنه ما دام أن الله عز وجل أمر بالجماعة، وأوصى بها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فعلى هذا وبموجب النصوص فإنه لا يجوز التفرق في الدين، والتفرق في الدين غير الاختلاف في الاجتهاديات، لأن التفرق في الدين هو التنازع الذي نهى الله عنه، قال عز وجل: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، فالتفرق في الدين هو التنازع الذي يرجع إلى الافتراق في الأصول القطعية والمسلمات والمناهج العامة والمصالح العظمى وهذا لا يجوز.

وقوله: (ولا الفتنة بين المسلمين) حتى ولو لم يكن عن تفرق، فإذا أصر الإنسان على رأي من الآراء وإن كان اجتهادياً، ولكنه أراد أن يفرضه بالقوة، أو غالى فيه حتى يخرج به عن الجماعة والإمامة والسلطان؛ فإنه بذلك يكون وقع في الفرقة ولو كان سليم العقيدة، وهذه مسألة يغفل عنها كثير من الناس، وقد يكون بعض الناس من الناحية النظرية معتقده سليماً، لكنه يخرج بأمر يقتضي شق عصا الطاعة، وشق الجماعة والخروج عن تبعية العلماء، والخروج عن تبعية أهل الحل والعقد؛ فمن هنا يكون وقع في الفتنة بين المسلمين التي هي نوع من الفرقة، ومن هنا فإنه يجب رده إلى الحق بإقامة الحجة عليه وبنصحه، وما اختلف فيه المسلمون في هذه الأمور سواء كانت اجتهاديات أو غير اجتهاديات فإنه يجب رده إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال الرجوع إلى العلماء الذين يستنبطون، وإلا فكل سيدعي أنه يأخذ من الكتاب والسنة، لكن ضوابط الكتاب والسنة اجتهادية فيرجع فيما اختلف فيه المسلمون إلى الكتاب والسنة من خلال العلماء، وما كان عليه السلف الصالح من المنهج؛ فهذا هو المحتكم.

الواجب تجاه الخارج عن جماعة المسلمين

ثم من خرج عن الجماعة إما بالفرقة أو بالفتنة بين المسلمين أو بغيرها لاعتقاد أو فعل أو موقف أو منهج، أو خرج في مصلحة عظمى بأن ارتكب مفاسد كبرى؛ وجب نصحه من ولي الأمر ومن العلماء ومن عامة المسلمين، وكل بما يستطيعه، من له ولاية عليه ومن ليس له ولاية، يجب نصحه ودعوته إلى الحق وإلى الجماعة، ومجادلته بالتي هي أحسن، وإقامة الحجة عليه، فإن عاند تبين له الحجة.

ويستنفذ معه الواجب شرعاً من حيث النصح والحجة، فإن تاب ورجع إلى الحق وترك الفرقة والفتنة بين المسلمين وإلا عوقب بما يستحق شرعاً، وهذا له قواعده المعروفة عند الفقهاء والعلماء.

وجوب حمل الناس على الكتاب والسنة وعدم امتحانهم في التفاصيل

أما ما يتعلق بتوجيه المسلمين في تعليمهم أمور دينهم، سواء في العقيدة أو الأحكام القطعية أو غيرها، أو عباداتهم أو غيرها، فإنه يجب حمل الناس في ذلك على المحامل العامة والجمل الثابتة بالكتاب والسنة، فعموم المسلمين يجب ألا نمتحنهم في دقائق الأمور، بل حتى بعض العلماء الذين ليس من اختصاصهم بعض المسائل العقدية المتعمقة يجب ألا نمتحنهم فيها، ولا نثير عليهم هذه القضايا؛ لأنها قد تؤدي إلى الفرقة والإثم.

والمسلمون عموماً بحسب مستوياتهم يجب أن نعلمهم مجملات الدين، ثم تفاصيل الدين بحسب حاجتهم في الأحكام أو العقيدة، وأيضاً بحسب قدراتهم، فبعض الناس يستطيع أن يترسخ في العلم؛ فهذا يطالب به، لكن فيما نطالب به المسلم نطالبه بالمجملات العامة: أركان الإيمان.. أركان الإسلام.. فرائض الدين.. أصول الأخلاق.. أصول التعامل فيما بينه وبين ربه عز وجل، والتعامل فيما بينه وبين من حوله من المسلمين، والتعامل فيما بينه وبين الكفار، يعلم المسلم كيف يتعامل بالمنهج الشرعي السليم الذي يقوم على الاعتدال والعدل، لكن لا نمتحن الناس في دقائق الأمور التي لا يدركونها.

فمثلاً: لا ينبغي أن يفاجئ المسلم بسؤال عن عالم أخطأ، ونقول: ما رأيك في فلان من الناس؟ أو كما يحدث من امتحان الناس ببعض المفكرين؛ لأن هذا من الفتنة، وأغلب الناس خالي الذهن، لا يدري كيف يزن الناس، بل لا يكلف شرعاً في أن يتتبع زلات الخلق ثم يعطي كل واحد حكماً، فهذا ليس من اختصاص عامة المسلمين، ولا طلاب العلم.

وكذلك دقائق العقيدة، كرؤية الله عز وجل، فقد ثبت أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وهذه المسألة من المسائل التي قد تخفى على كثير من عامة المسلمين؛ فيجب أن يعلموا، لكن لا يمتحنوا بها؛ لأنه قد تفاجأ به؛ لأنه ما عرف؛ فقد يقع في الكفر بسببك.

كذلك سؤال: أين الله؟ والنبي صلى الله عليه وسلم سأل هذا السؤال، ولكن لا يسأل دائماً لكل مسلم غافل إلا عند موجبه كما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ما سأل مثل هذا السؤال: أين الله؟ إلا ليوجب، وسؤال واحد فقط، فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمتحن الناس في مجالسهم وفي المساجد والمشاهد العامة بهذا السؤال كما حدث من بعض المفتونين في بعض الفترات.

فهذا فيه فتنة، ولأن الناس قد لا يدركون الجواب الصحيح في هذا الأمر.

سلامة القصد والمعتقد لدى المسلمين

ثم الأصل في جميع المسلمين أن نحملهم على حسن الظن، وعلى سلامة القصد والمعتقد؛ لأن الأصل في المسلمين أنهم على الفطرة، وما دام ما بان لنا من أحد منهم إصرار على بدعة، أو إصرار على ضلالة، أو ترك فرائض الدين؛ فالأصل فيه السلامة، ولا تفتش عنه لغير موجب، كأن تجالسه، أو تتلقى عنه العلم، أو تريد أن تزوجه مثلاً، وإلا فلا تفتش بغير موجب، لأن الأصل في جميع المسلمين السلامة والفطرة والمحمل الحسن وحسن الظن، إلا إذا ظهر من أحد منهم أو فئة أو جماعة أو فرقة خلاف ذلك، فمن هنا تزن الأمور بميزان الشرع وذلك بالرجوع إلى أهل الاختصاص؛ لأن هذه زلات توقع في الإثم والغيبة، بل ربما توقع في الحالقة والفرقة في الدين، والكلام في أعراض الخلق، فالأصل حمل جميع كلام المسلمين وما يصدر عنهم من أقوال وأفعال على المحمل الحسن، إلا من ظهر منه بدعة وأصر عليها، أو ظهر عناده وسوء قصده؛ فلا يجوز أن نتكلف له التأويلات، بمعنى أن القاعدة تنعكس فيمن ظهر منه خلاف ما ذكرته، فالأمور بظواهرها.

حكم فرق أهل القبلة الخارجة عن السنة والجماعة

ثم فرق أهل القبلة جميعاً المقصود بها: الذين افترقوا عن السنة والجماعة، وليس الذين خرجوا عن الدين، وهذه من المسائل التي يخلط فيها الناس، بل بعض المنتسبين للعلم الشرعي يتوهمون أن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر الافتراق وأحوال المفترقين وأوصافهم ووعيدهم أنهم خرجوا من الإسلام، وقد اتفق السلف على أن المقصود بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الافتراق ووعيد أهل الافتراق، وذكر الفرق في الأمة، وأنها ثلاث وسبعون فرقة كلها هالكة وكلها في النار إلا واحدة، لا يقصد بذلك أنهم خارجون من الملة، ولا أنهم من أهل الخلود في النار، إنما هذا من باب الوعيد، كما توعد الله السارق والزاني وآكل الربا بالنار، فكذلك هؤلاء توعدوا بالنار من باب الوعيد، ومصيرهم الجنة حتماً بموجب قواطع النصوص.

إذاً: فرق أهل القبلة الذين خرجوا عن السنة مسلمون، لكنهم وقعوا في البدعة وخالفوا السنة؛ فهم متوعدون بنصوص الوعيد بالهلاك والنار، وحكمهم حكم أهل الوعيد.. وأهل الكبائر، إلا من كان منهم كافراً في الباطن، وهذا أمر لا يعلمه إلا الله عز وجل ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه يعرف باطن هذا أو ذاك، فالباطن لا يعلمه إلا الله، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أطلعه الله على بعض المنافقين أسر ذلك؛ لئلا يقع المسلمون في فتنة، فيحاولون الاطلاع على أحوال المنافقين، فبقي سراً ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم إلا لواحد من الصحابة، والمنافقون خلص.

إذاً: من كان منهم كافر في الباطن فهذا نستثنيه ولكن لا نستطيع أن نعينه بعينه، أو كان خلافه في الدين في أمر يتعلق بأمر ردة يخرجه من مقتضى الدين، أو في أصل من أصول العقيدة التي اتفق عليها سلف الأمة، كأن وقع في الردة كالباطنية، أو الذين أشركوا من المنتسبين للأمة؛ فهؤلاء لا يدخلون في فرق أهل القبلة، ولذلك لما عد بعض السلف في وقتهم كـابن المبارك ويوسف بن أسباط فرق المسلمين الثنتين والسبعين والتي يرون أنها متوعدة بالهلاك؛ قيل لهم: والجهمية، فقالوا: ليست من فرق المسلمين والمقصود غلاة الجهمية الذين أنكروا قواطع الدين.

ثم بعد ذلك لما ظهرت الباطنية أجمع سلف الأمة على أنها ليست من فرق المسلمين وإن ادعت الإسلام.

أما بقية الفرق سواء كانت فرق القدرية غير الغالية، أو فرق الشيعة غير الغالية، أو فرق المرجئة غير الغالية، أو فرق المتكلمين الجهمية التي لم تغل، أو فرق المعتزلة التي لم تقع في الغلو، أو فرق المتكلمين التي لم تقع في الغلو؛ كلها من فرق المسلمين، ويعامل أهلها معاملة المسلمين في كثير من الأمور، وقد يكون لهم نوع من المعاملة لكف شرهم، وبيان خطرهم على عقائد الأمة، لكن هذه أمور يقررها علماء الأمة في كل وقت بحسب الظروف والمكان والزمان والأحوال، لأن قواعد التعامل مع أهل البدع ليست ثابتة، إنما هي قواعد متغيرة بحسب أحوال الأمة وبحسب المصالح ودرء المفاسد.

وقوله: (والفرق الخارجة عن الإسلام حكمهم حكم المرتدين) أي: لا يعاملون معاملة المسلمين.

الجمعة والجماعة من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة

الجماعة والجمعة ويدخل فيها شعائر الإسلام الظاهرة: كصلاة العيدين وصلاة الاستسقاء وصلاة الكسوف والخسوف وصلاة الجنائز، والأذان؛ كلها من أعظم شعائر الإسلام وهي علامات الإسلام الظاهرة.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم على أهل البلاد إذا ما رفعوا شعيرة الأذان بأنهم غير مسلمين؛ لأن الشعيرة الظاهرة التي تعلن بصوت مرتفع في كل بلد مسلم هي الأذان، فإذا لم يرفع الأذان فمعنى هذا أن البلد ليس له حكم دار الإسلام، وإن وجد فيه مسلمون؛ لأنه لا تظهر فيه شعائر الإسلام، فإذا ما أظهر الأذان؛ فمن الطبيعي ألا تظهر الصلاة ولا الجمعة ولا الجماعات.

إذاً: الجمعة والجماعات من أعظم شعائر دين الإسلام الظاهرة، ويدخل في ذلك أن الصلاة خلف مستور الحال ومن لا تعلم عنه شيئاً مشروعة، ومعنى ذلك: أن لا توقع نفسك والمسلمين في الوسواس، تقول: أنا لا أصلي خلف هذا الرجل حتى أتثبت من حاله، فهذا لا يجوز؛ لأن الأصل في المسلمين هو السلامة، فيجب على كل مسلم أن يصلي خلف من لا يعرف حاله، ولا يجوز تركها بدعوى أنه مجهول، أو بدعوى وجود قرائن غير ثابتة تدل على أنها لا تجوز الصلاة خلفه، بل إن التوقف في الصلاة خلف أئمة المسلمين من غير بينة يعتبر من البدع والوسواس الذي لا يجوز.

حكم الصلاة خلف من يظهر البدعة والفجور

قوله: (لا تجوز الصلاة خلف من يظهر البدعة) لكنها تصح، وأكثر الناس لا يفرق بين كلمة: (لا تجوز) وبين كلمة: (لا تصح).

فقولنا: (لا تجوز) مثل الراجح في الصلاة في الأرض المغصوبة، يقال: لا تجوز الصلاة في الأرض المغصوبة، لكن لا يعني أنها لا تصح بل تصح على الراجح، فكذلك الصلاة خلف من يظهر البدعة أو الفجور من المسلمين لا تجوز، إلا إذا لم يمكن الصلاة خلف غيره، فإذا كان أمامك إمام صاحب بدعة وآخر ليس صاحب بدعة، ولا يترتب على ترك المبتدع فتنة ولا مفسدة؛ فيجب أن تصلي خلف الأسلم، لكن لا يعني ذلك أنك لو صليت خلف المبتدع أنها لا تصح صلاتك، بل تصح ما دام مسلماً، وإن كان مبتدعاً أو صاحب هوى أو فرقة كما هو معروف.

إذاً: لا تجوز الصلاة خلف من يظهر البدعة أو الفجور من المسلمين مع إمكانها خلف غيره، أما إذا لم تمكن؛ فإنه لا بأس بها، وإن وقعت صحت ويأثم فاعلها، إلا إذا قصد دفع مفسدة أعظم.

مثال ذلك: إذا كان الإمام المبتدع سلطان المسلمين، فتصلي خلفه؛ ولذلك كان الإمام أحمد أيام المحنة والمأمون ليس مبتدعاً فقط، بل كان داعية إلى بدعته، وكان يفرض البدعة بقوة السلطان، ومع ذلك كان الإمام أحمد يصلي خلفه؛ لأن ترك الصلاة خلفه يؤدي إلى مفسدة أعظم، لأن حدثاء الأسنان لو ما صلى الإمام أحمد خلف المأمون لكفروا المأمون وخرجوا عليه، فهذا فقه يجب أن يعلمه الناس ويفقهه طلاب العلم خاصة.

فإن لم يوجد إلا مثله أو شرٌّ منه جازت خلفه، ولا يجوز ترك الجماعة بمعاذير أن في الأئمة أخطاء أو بدعاً أو فسقاً أو نحو ذلك.

وقوله: (من حكم) بكفره كفر ردة (فلا تصح الصلاة خلفه) لكن من الذي يحكم بأن فلاناً من الناس كفر كفراً يوقعه في الردة إلا العلماء، وإلا فإذا فتحنا هذا الباب لكل إنسان حتى وإن كان طالب علم وقعت فتنة، لأن الناس تختلف اجتهاداتهم، إذاً: فالأمر عظيم.

طرق إثبات الإمامة الكبرى

الإمامة الكبرى، وهي إمامة المسلمين: السلطان.. الملك.. الخلافة.. الرئاسة التي هي حكم البلاد، سواء كانت بلاد المسلمين بعمومها، أو جزءاً من بلاد المسلمين لما تجزأت بلاد المسلمين، وبعض الناس يجهل ويظن أن تجزؤ بلاد المسلمين أمر حادث! لا، بلاد المسلمين تجزأت حتى في عهد الخلفاء الراشدين، وكانت السلطة هنا وهنا وكلها شرعية، كان هناك أناس يتبعون بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفئة من المسلمين لا يزالون تحت إمامة وبيعة معاوية بن أبي سفيان ، وكل له أحكامه.

إذاً: الإمامة الكبرى تكون بحسب وضع البلد وتثبت بعدة طرق:

الطريقة الأولى: إجماع الأمة بالشورى، فإذا أجمع المسلمون ويمثلهم أهل الحل والعقد؛ فتثبت على إمام أو سلطان أو ملك؛ فيكون بذلك له حق السلطة والإمامة.

الطريقة الثانية: بيعة أهل الحل والعقد ممن لهم شأن في الأمة من العلماء ورؤساء العشائر وأهل الرأي وذوي التأثير في الأمة، ولو كانوا قلة، فبايعوا سلطاناً لزمت بيعته على الجميع، وصار إماماً تجب له حقوق الإمامة بغير معصية الله.

الطريقة الثالثة: الإمامة بالتغلب، كأن يتنازع سلاطين على الحكم ولكن غلب واحد، فإذا غلب وجبت بيعته واستتب له الحكم وصار له حكم إمام المسلمين وإن لم يكن هو الأفضل، وإن كان فاجراً أو ظالماً كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث.

الطريقة الرابعة: الوصية، وقد حدثت حتى في عهد الخلفاء الراشدين، أبو بكر رضي الله عنه أوصى من بعده لـعمر بن الخطاب ، والوصية قد تكون مثل صورة ما حدث من أبي بكر رضي الله عنه، وقد تكون مثل صورة ولاية العهد كما حدث من معاوية رضي الله عنه حينما طلب البيعة لـيزيد ، فيما يسمى بولاية العهد، وهي نوع من الوصية.

وهذه الأمور وغيرها يتمكن فيها المسلم من الحكم في بلد من بلاد المسلمين ويستتب له الأمن والأمر؛ وتجب بيعته وطاعته بالمعروف من غير معصية الله.

فمن تحققت له السلطة وجبت طاعته بالمعروف ومناصحته، وحرم الخروج عليه إلا إذا ظهر منه كفر بواح فيه من الله برهان يقول به الراسخون في العلم وأهل الحل والعقد.

أداء شعائر الإسلام الظاهرة مع أئمة الجور

وقوله: (الصلاة والحج والجهاد واجبة مع أئمة المسلمين وإن جاروا).

الصلاة من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة، وكذلك الحج وهو ركن الإسلام، والجهاد وهو ذروة سنام الإسلام؛ كل هذه من أصول الدين الواجبة مع سلاطين المسلمين، ومع أمراء المسلمين، أبراراً كانوا أو فجاراً، وهذه وصية الله، وهي أيضاً نهج رسوله صلى الله عليه وسلم وما أوصى به.

وقد يقول قائل: لكن كيف نصلي ونحج ونجاهد مع الولاة غير الصالحين، ومع الفجار والظلمة؟

ونقول: لأنه قد ينصر الله بهم الدين وإن كان فيهم ظلم، وكونهم وقعوا في مثل هذه الأخطاء الكبيرة لا يعني أنه لا يجوز طاعتهم؛ لأن طاعتهم لمقامهم لا لأشخاصهم، المقام الذي تسلموه وهو قيادة الأمة، وحفظ كيانها، وحفظ أمنها الذي لا تقوم مصالح الأمة إلا به، فدين المسلمين ودماؤهم وأعراضهم وأموالهم وحرياتهم لا يمكن أن تستقيم إلا بسلطان، براً كان أو فاجراً.

فإذا أقام الإمام الصلاة نصلي خلفه، وإذا حج نحج معه، وإذا جاهد نجاهد معه؛ لأن هذا مما يحفظ كيان الدين والأمة، وذنبه عليه، لكن مع استمرار النصح له.

وهذه -مهما كان الأمر ومهما اختلفنا عليه- وصية من الناصح الأمين، وهي أثمن وصية من النبي صلى الله عليه وسلم.

تحريم القتال بين المسلمين

ثم بعد ذلك يحرم القتال بين المسلمين، مهما كانت مبرراته ما لم يكن القتال من أهل الحل والعقد، من الجماعة والسلطان ضد البغاة، وضد المفسدين، فهذا لا يسمى قتالاً بين المسلمين، بل هو كف الشرِّ، ولكن القتال الذي منزعه التنازع على الدنيا، أو التنازع على السلطان، أو الحمية الجاهلية، أو العصبية، أو أي غرض لا يقصد به نصر الدين، أو قصد به نصر الدين على وجه غير مشروع؛ فإنه يعتبر من أكبر الكبائر، والمشروع أن يقاتل من يعم فساده، سواء كان فساداً في العقيدة كأهل البدع الذين يفتنون المسلمين، فإذا ما كفوا عن فتنتهم للمسلمين، وما كفوا عن خروجهم عن السلطان إلا بالقتال؛ فإنهم يقاتلون، وأهل البدع والفساد والبغي وأشباههم يقاتلون إذا صار شرهم يتعدى ولم يكفوا بالطرق السلمية، ولم يمكن دفعهم بأقل من القتال فإنه يجوز لإمام المسلمين وأهل الحل والعقد أن يقاتلوهم بحسب الحال والمصلحة ما لم يكن هناك مفاسد كبرى.

الصحابة أفضل هذه الأمة

ثم عرَّج أهل السنة والجماعة بعد هذه الأصول على أن من الجماعة فئة هي الفئة النموذجية والقدوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، ورأس الجماعة هم الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، وأولها والنموذج الأول، هم القدوة الأوائل، الذين رسموا سبيل المؤمنين، وهم الصحابة الكرام، وكلهم عدول في الدين، فالعدالة لا تعني أنه لا يرتكب أحد منهم أخطاء أو فسقاً أو نحو ذلك، إنما العدالة في نقل الدين؛ لأن الله عز وجل تكفل بحفظ الدين، وكان مما تكفل الله به أن عهد النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الدين على الصحابة، فنقلوه، حتى من كان عنده شيء من الخطأ أو المعصية، والصحابة ليسوا معصومين، لكن مع ذلك فهم عدول في نقل الدين.

وقوله: (والشهادة لهم بالإيمان والفضل أصل قطعي معلوم من الدين بالضرورة) لقواطع النصوص والإجماع، ولأن هذا من ضرورات الدين؛ ولأن الطاعن في الصحابة يطعن في الدين، لأنه من الذي نقل لنا الدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟

فالطعن فيهم لا بد أن يرجع إلى الطعن في قلب الأمة. وفي ضمير الأمة، وأشد الطعون على الأمة هو فيما يتعلق بمطاعن أهل الأهواء في خيار الأمة، ولا يوجد مسلم عنده عقل يسمح لأحد أن يفتري ويطعن على الخيار.

ثم بعد ذلك محبتهم دين وإيمان؛ لأن الله أمر به، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى به، فهو من الإيمان، ونتقرب إلى الله بذلك، وبالعكس بغضهم كفر ونفاق بحسب درجة البغض، مع وجوب الكف عما شجر بينهم؛ لأنهم حدثت بينهم أحداث وخلافات، فيجب الكف عما شجر بينهم؛ لأن أغلب ما روي فيما حدث بينهم من أحداث وخلافات لا يصح، بل الصحيح المسند نزر يسير جداً، فمن هنا لا يجوز أن نعول على روايات التاريخ فيما شجر بينهم، ونترك الخوض فيما يقدح في قدرهم.

ومن ناحية التفضيل هناك أشياء قطعية في تفضيلها، وهناك أشياء اجتهادية، أما تفضيل الخلفاء الأربعة بترتيبهم والعشرة المبشرين بالجنة وأهل بيعة الرضوان وأمهات المؤمنين وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا أمر مجمع عليه.

ثم يأتي عموم المهاجرين وعموم الأنصار والسابقون الأولون قبل الفتح وبعده إلى آخره، وكلهم مع ذلك صحابة، وكلهم رضي الله عنهم، والخلفاء الراشدون الأربعة ترتيبهم بحسب خلافتهم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين بموجب النصوص أيضاً، ولو استقرأنا نصوص النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الخلافة وفي ذكر الفضل؛ لوجدنا أنه بدأهم بهذا الترتيب، إلا في نزر يسير من الروايات التي قدمت علياً على عثمان ، وربما يكون هذا وهماً من الرواة، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى هذا في القليل، لكن الحكم على الأغلب، ولا يتسع المجال لسرد النصوص القطعية في ترتيب الصحابة على هذا النحو.

محبة آل رسول الله وتوليهم وتوقيرهم

ومن الدين الذي يجب أن يدين به المسلم: محبة آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وتوليهم وتوقيرهم، سواء السابقين منهم أو من جاء بعدهم، فكل ما ثبت عندنا أنه من آل البيت، ولا يزال على طريق السنة لم يغير ولم يبدل؛ فله حق علينا، ويجب أن نوقره ونظهر له الاحترام.

وبعض الناس ربما يعامل آل البيت بشيء من الجفوة وهو لا يدري، ولكن من كان صالحاً من آل البيت من الموجودين فضلاً عن الأموات الذين حقهم معروف ومصون، فيجب أن نوقرهم ونقدرهم، وكذلك نعظم ونقدر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ونعرف لهن فضلهن، ونحب أئمة السلف من التابعين وتابعيهم بإحسان، ولا نسلك ولا نتودد تودداً يؤدي إلى تضييع العقيدة مع أهل الأهواء والبدع والافتراق، إلا من باب النصح لهم والرفق بهم والإشفاق عليهم، وإقامة الحجة، ومعاملتهم بالعدل من غير عدوان.

الجهاد ذروة سنام الإسلام

وقوله: (الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام) بمعنى أنه سنة حفظ الدين، الذي يحفظ الدين للأمة ويحفظ كيانها هو الجهاد، وبعض الناس ربما يظن أن الجهاد مرحلي، أو أنه لا تنطبق فيه شروط الجهاد الحقيقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وهذا غير صحيح لأنه متى توافرت شروط الجهاد عند المسلمين على مقتضى اجتهاد الراسخين في العلم وأهل الحل والعقد، ووجدت راية ذات سلطان؛ فلا بد من الجهاد.

والجهاد له مبرراته الشرعية والمنهجية، فإذا قامت مبررات الجهاد وجب أن يقوم، والعجيب أن دساتير كل الأمم في الدنيا والعصر الحاضر تتطلب هذا الأمر، فتجد في دساتير بعض الدول حتى العظمى منها ما يصنف الناس إلى عدو قد نحتاج إلى قتاله، وإلى صديق مسالم، وهذا موجود في دساتيرهم، لكن القضية هي اختلاف الصياغات والتعابير، ولذلك رفعت بعض الدول عندما خشيت من العدوان عليها شعاراً: (من لم يكن معنا فهو ضدنا)، وهذا أمر تقتضيه فطرة البشر، وما من أمة قوية أو ضعيفة إلا ويكون عندها استعداد وقوة وجيوش، ولذلك لا توجد دولة ذات استقلال وسيادة في العالم وما عندها جيوش حماية لها. والجهاد نوعان:

جهاد دفاع، وجهاد طلب إذا توافرت شروطه كما هي مقررة عند أهل العلم.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك على ما توجبه الشريعة، وهو من القضايا الموجودة عند كل أمة، لكن بحسب القيم في الأمم، لأن بعض الأمم قيمها ضعيفة فلا تجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندها قوياً، وبعض الأمم قيمها قوية فتجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له مسمى آخر.

والآن قلَّ أن توجد دولة في العالم إلا وعندها (بوليس آداب)، ونحن عندنا مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعظم وأتقن من مجرد (بوليس آداب)، بأنه رقابة في ضمير كل مسلم.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة بقواعد الشرع من أعظم شعائر الإسلام إذا توافرت شروطه وأحكامه، وهو من أسباب حفظ جماعة المسلمين، بل إن وجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند بعض بلاد المسلمين هو من أسباب دفع البلاء عنها.

ومن ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

أن يكون بفقه، وأن يكون برفق، وأن يكون بحكمة، وأن يكون بالنصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منه ما هو واجب على ولي الأمر، وكثير من صور إنكار المنكرات بالقوة لا تكون إلا للدولة، إما بالحبس والتعزير وغيرها لا تكون إلا للدولة وللقضاء الشرعي.

وهناك صور من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبة على كل مسلم بحسبه، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي يدل على العموم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)، وهذا فيه صيغة عموم، لكن كل إنسان بقدره وبفقهه وباستطاعته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

الجماعة إذا ورد ذكرها في القرآن والسنة وفي منهج السلف فلها عدة إطلاقات، والذي يهمنا هنا هو الإطلاق العام والكبير، الجماعة التي هي من مسلمات الدين ومن ثوابت الدين ومن أصوله ومن قواطعه.

فجماعة المسلمين المقصود بها هي التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر خصائصها، وتتميز بسمات رسمها الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح.

فجماعة المسلمين هي المستمسكة بالحق والمستمسكة بالسنة، وهي من ناحية تاريخية مرت بصور:

الصورة الأولى: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين قبل ظهور الافتراق حيث كان المسلمون كلهم على الجماعة، وكانت تتوافر فيهم صفات الجماعة المسلمة من جميع الخصائص والسمات، وإن وجد عند بعض الأفراد شذوذ، فإن الشذوذ في تصرفات الأفراد أو الفئات القليلة لا تخرق قاعدة أن الجماعة موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا على الإسلام والسنة ولم يظهر افتراق.

وفي آخر عهد الخلفاء الراشدين ظهر الافتراق، ثم في القرن الأول تنامى الافتراق حتى آخر القرن الأول، فكثرت الفرق وكثر أتباعها، فمن هنا رجع السلف إلى تمييز الجماعة بالوصف التي وصفها به النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فلما نظروا إلى ما عليه المسلمون من الفرقة والاختلاف؛ وجدوا أهل السنة والجماعة هم الذين بقوا على هذا المنهج، وسموا أهل السنة والجماعة بناء على وصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالجماعة في نصوص كثيرة تصل إلى حد التواتر المعنوي: (عليكم بالجماعة).. (إياكم والفرقة).. (يد الله مع الجماعة)، إلى غيرها من النصوص الكثيرة التي توصي بالجماعة وتجعلها الموئل للمسلم عندما يكثر الافتراق وتكثر الأهواء.

فالجماعة المعنية من حيث تطبيقاتها: هم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والتابعون لهم بإحسان الذين أحسنوا التبعية من غير تقليد، إنما اتباع باهتداء واقتداء.

وهم المستمسكون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وآثار السلف الصالح إلى يوم القيامة، ولذلك سموا بالفرقة الناجية، وهذه التسمية لم تكن من صنع الناس، وإنما هي مأخوذة من وصف النبي صلى الله عليه وسلم.

فكل من التزم بمنهج السنة ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين؛ فهو من الجماعة في العقيدة والمواقف والمصالح العظمى، فمن التزم هذا النهج فهو من الجماعة، وإن أخطأ في بعض الجزئيات.

فمن وقع منه خطأ من علماء المسلمين أو من عامتهم فإن كان الخطأ يتعلق بأمر جزئي اجتهادي؛ فلا يضره ذلك ولا يخرجه من الإيمان.

وكذلك إذا كان الخطأ عن تأول أو عن جهل، فإن الإنسان لا يخرج من الجماعة حتى تقام عليه الحجة، وعلى هذا فإن المسلم -عالماً كان أو غير عالم- لا يخرج من مفهوم هذه الجماعة الشرعية إلى قيام الساعة إذا التزم نهج المسلمين في العقيدة والمواقف والمصالح، ولا يخرج بذلك من الجماعة إلا بأمرين أو بأحدهما:

الأمر الأول: إذا خالف في أصل من الأصول القطعية أو ثابت من ثوابت الدين العلمية أو العملية؛ فإنه يخرج من الجماعة وإن لم يخرج من الإسلام، بولا يلزم أن يكون خرج من الملة، لكن خرج من السنة والجماعة.

الأمر الثاني: إذا تكاثرت البدع عند شخص بأن تكون هي سمته وهديه بحيث يكون في شكله الظاهر ومعاملاته وعباداته وشعائر الدين على غير نهج أهل السنة والجماعة، وليس في أمر أو أمرين أو ثلاثة، لكن في سائر سمته. وفي سائر هديه على منهج أهل البدع؛ فإنه بذلك يخرج من مفهوم الجماعة.

ينبني على هذا أنه ما دام أن الله عز وجل أمر بالجماعة، وأوصى بها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فعلى هذا وبموجب النصوص فإنه لا يجوز التفرق في الدين، والتفرق في الدين غير الاختلاف في الاجتهاديات، لأن التفرق في الدين هو التنازع الذي نهى الله عنه، قال عز وجل: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، فالتفرق في الدين هو التنازع الذي يرجع إلى الافتراق في الأصول القطعية والمسلمات والمناهج العامة والمصالح العظمى وهذا لا يجوز.

وقوله: (ولا الفتنة بين المسلمين) حتى ولو لم يكن عن تفرق، فإذا أصر الإنسان على رأي من الآراء وإن كان اجتهادياً، ولكنه أراد أن يفرضه بالقوة، أو غالى فيه حتى يخرج به عن الجماعة والإمامة والسلطان؛ فإنه بذلك يكون وقع في الفرقة ولو كان سليم العقيدة، وهذه مسألة يغفل عنها كثير من الناس، وقد يكون بعض الناس من الناحية النظرية معتقده سليماً، لكنه يخرج بأمر يقتضي شق عصا الطاعة، وشق الجماعة والخروج عن تبعية العلماء، والخروج عن تبعية أهل الحل والعقد؛ فمن هنا يكون وقع في الفتنة بين المسلمين التي هي نوع من الفرقة، ومن هنا فإنه يجب رده إلى الحق بإقامة الحجة عليه وبنصحه، وما اختلف فيه المسلمون في هذه الأمور سواء كانت اجتهاديات أو غير اجتهاديات فإنه يجب رده إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال الرجوع إلى العلماء الذين يستنبطون، وإلا فكل سيدعي أنه يأخذ من الكتاب والسنة، لكن ضوابط الكتاب والسنة اجتهادية فيرجع فيما اختلف فيه المسلمون إلى الكتاب والسنة من خلال العلماء، وما كان عليه السلف الصالح من المنهج؛ فهذا هو المحتكم.