مجمل أصول أهل السنة - الإيمان بالغيب


الحلقة مفرغة

الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وآله، ورضي الله عن صحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد.

يقول المؤلف حفظه الله تعالى: [ عاشراً: الإيمان بما صح الدليل عليه من الغيبيات، كالعرش والكرسي، والجنة والنار، ونعيم القبر وعذابه، والصراط والميزان وغيرها دون تأويل شيء من ذلك ].

هذه قاعدة الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يدخل فيه: الإيمان بالله وملائكته؛ لأن الملائكة غيب، وكذلك اليوم الآخر وسائر المغيبات، أي: أن أركان الإيمان الستة تضمنت أصولاً عظيمة من أصول الغيب، لكن الإيمان بالغيب لا ينحصر في أركان الإيمان أو في بعض أركان الإيمان، بل الغيب يشمل كل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من الأمور المغيبة، والأمور المغيبة على نوعين:

النوع الأول: أمور مغيبة تحدث في الدنيا.. من أمور مستقبلية أو حتى ماضية، لكن انقطعت أخبارها عن الخلق مثل ما جاء في قصص كثير من النبيين على الوجه السليم الصادق، لا على ما روي في التاريخ مما دخله من حكايات وكذب.

إذاً: النوع الأول: هو الغيبيات التي غابت عنا في الدنيا من أخبار السالفين وأيضاً من الأخبار المستقبلية ومنها أشراط الساعة.

النوع الثاني: الغيب الذي هو غائب عن الدنيا، أو لا يتعلق بحياة البشر، وهو على صنفين:

الصنف الأول: ما يتعلق بالغيبيات الكونية الكبرى التي لا علاقة لها مباشرة بحياة الإنسان، مثل ما يتعلق بأخبار السماوات وأخبار العرش والكرسي، والأمور التي هي موجودة حالياً في الدنيا لكنها فوق مدارك البشر ولا تتعلق بحياة البشر المباشرة.

الصنف الثاني: الغيبيات التي تتعلق باليوم الآخر، وهذه الأمور كلها تسمى الإيمان بالغيب؛ لأنها غائبة عن المدارك، بل حتى تفصيلاتها غائبة عن العقول، وعن جميع المدارك .. فالحواس الخمس وغير الحواس لا تدركها حتى الوسائل العلمية الحديثة، ولذلك وسأستعجل هذه المسألة لأهميتها، لذلك ظن بعض الناس أن ما أدركته العلوم والكشوف العلمية الحديثة مما هو غائب عن البشر أنه نوع من الاطلاع على الغيب، وهذا خلاف القاعدة الشرعية، فكل ما أدركه البشر وما سيدركونه في مداركهم العلمية التجريبية الحسية أو غير الحسية التي تنبني على قطعيات.. هذه أمور كلها مما لم يكن غيب في علم الله عز وجل، لكنه غائب عن بعض البشر، ولم يكن غائباً عن آخرين، غائب عمن سبقونا واكتشفه المعاصرون وربما تحدث كشوف أخرى كثيرة جداً لا تخرق الإيمان بالغيب، بل هي نوع مما أطلع الله عليه عباده، لكن الغيب الخالص لا يمكن الاطلاع عليه، ولذلك جاءت هذه القاعدة، وهي أنه يجب على المسلم أن يسلم ابتداء بأنه مؤمن ومصدق بكل ما صح به الدليل.

والدليل نوعان:

أولاً: القرآن.

ثانياً: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم منه ما يصح ومنه ما لا يصح، فما صح بأسانيد صحيحة صار من الدليل الذي يجب الإيمان بمدلوله.

إذاً: ما صح به الدليل هو القرآن، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح من جميع الغيبيات المذكورة في السابق واللاحق في الدنيا والآخرة، في الأرض وفي ملكوت السماوات، وما أخبر الله به مما هو فوق ذلك؛ لأن الله عز وجل أخبر عن الغيبيات بما هو فوق السماوات كالكرسي والعرش وهي مخلوقة، ولذلك جاء ضرب المثل بالعرش، فالعرش أعظم المخلوقات التي جاء خبرها عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو أعظم المخلوقات، وهو محيط بالمخلوقات، وهو عرش المخلوقات، والله عز وجل أشار إلى العرش بإشارات كثيرة، منها ما يتعلق بصفات الله عز وجل وهو قوله سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] واستواء الله يكون على ما يليق بجلاله، وينبغي ألا يفسر بلوازم المحدثات والمخلوقات، وقد خاض الناس في مسألة الاستواء بغير علم، واستواء الله عز وجل على عرشه على ما يليق بجلاله، فالعرش مخلوق، والله عز وجل ليس بحاجة إلى المخلوق، فاستواء الله على ما يليق بجلاله، والكرسي دون ذلك، وهو أيضاً محيط بالسماوات.

وهذا بالنسبة للغيبيات التي هي عوالم من عوالم الكون ومخلوقات من مخلوقات الكون موجودة، وليست تتعلق بالمستقبليات، وهناك نوع آخر من الغيبيات المستقبلية ومنها الجنة والنار، ولها حالان:

الحالة الأولى: وجودهما الآن، فلا شك أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن، لكن ليس على الهيئة الكاملة التي تكون عليها يوم القيامة، وبعد أن ينقسم الخلق إلى سعيد في الجنة نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم، وإلى شقي في النار، وقبل أن ينقسم الخلق فالنار والجنة موجودتان الآن وبعد الآن.

وكذلك مما يمثل به على الغيبيات ما يتعلق بالحياة التي بين حياتين: حياة الإنسان إذا مات، وتسمى الحياة البرزخية وقبل أن يبعث، هذه تسمى الحياة البرزخية؛ لأن البرزخ هو الموقع الذي يكون بين شيئين كالجسر، والحياة البرزخية تتمثل بالقبر، والقبر فيه غيبيات كثيرة وأحوال عجيبة جداً ومشاهد مروعة ومن ذلك نعيم القبر نسأل الله أن يجعلنا من المنعّمين وجميع المسلمين، فالنعيم له أحوال ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب الإيمان بها كما وردت دون عرضها على مقاييس البشر ولا على مقررات العقول؛ لأن العقول لا تعقل إلا مدركاتها، وأحوال البرزخ خارجة عن مدركات العقول، فنعيم القبر جاء فيه تفاصيل يجب الإيمان بها، وعذاب القبر نسأل الله العافية كذلك جاء فيه تفاصيل، وكل ميت لا بد أن يخضع لإحدى هاتين الحالين اللهم إلا ما ورد في الشهداء، وهذا فيه خلاف: هل يعني ذلك أنهم لا يعيشون البرزخ في أنهم في حواصل طير في الجنة؟ أو أنهم يعيشون حياة البرزخ لكن لهم حال أعظم وأسعد من غيرهم، الله أعلم، وهذا أمر غيبي ما جاء فيه فيما أعلم ما يقطع به.

إذاً: البشر كلهم خاضعون لهذه الاعتبارات وهذه الغيبيات، ثم بعد ذلك ما بعد القبر، وهو داخل في الإيمان باليوم الآخر وهو النفخة الأولى والنفخة الثانية، والصعق والبعث، والنشور، والحساب، ويتخلل الحساب الصحف والميزان، ثم بعد ذلك الصراط وحوض نبينا صلى الله عليه وسلم نسأل الله أن يجعلنا جميعاً ممن يردونه، ونحو ذلك.

كل ما ورد من غيبيات يجب الإيمان بها، ثم مما ينبغي معرفته أن هناك قواعد الإيمان بالغيبيات:

القاعدة الأولى: أن نعلم أنها حقائق وليست مجرد أمثلة أو تخييلات أو مجرد تصوير أو تمثيل، وأن هذه الحقائق غائبة عن المدركات، ولا يمكن أن تقاس بغيرها من المدركات ولا يقاس بها غيرها، ولذلك فإن الذين استعملوا القياس في الغيبيات هلكوا، وهم صنف من الخرّاصين الذين ذكرهم الله عز وجل وتوعدهم بقوله: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:10-11] بل القول في الغيبيات بغير ما ثبت به الدليل هو قول على الله بغير علم، والله عز وجل نهى عن ذلك، وأرشدنا بقوله سبحانه: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36]، بل يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما تجادل بعض الصحابة في بعض الآيات التي تتعلق بالغيب والقدر، قال: (أبهذا بعثتم؟ أبهذا أمرتم؟ تضربون آيات الله بعضها ببعض، قال: فما علمتم منه -أي: الدين- فاعملوا به، وما لم تعلموا فردوه إلى عالمه وقولوا: الله أعلم) ولذلك ميّز الله المؤمنين بالغيب؛ لأنهم سلّموا تسليم المذعن لله المسلّم الموقن والمصدّق بخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم تسليم المبصر لا تسليم الأعمى؛ لأن الذي يسلم التسليم الأعمى هو الذي يقلد الآخرين من المخلوقين، أما الذي يسلّم لله عز وجل فهذه هي البصيرة، وبعض المفتونين أو من عندهم شبهات يظنون أن التسليم للغيبيات نوع من الحجر على العقل، وأنه نوع من التقليد والتسليم غير الرشيد، وهذا كله وهم، والتسليم للمخلوقين فيما لا علم لهم به نوع من التقليد الأعمى المذموم، لكن التسليم لله عز وجل والتسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في خبره، هذا هو الإيمان الذي امتدح الله به، بل هو الإيمان بالغيب الذي امتدح الله به المؤمنين، وميّزهم عن غيرهم، فالمؤمنون بالغيب مُيّزوا عن غيرهم ومن أعظم ما مُيّزوا به الإيمان بالغيب، ثم بعد ذلك فإن هذه الأمور يجب الإيمان بها دون تأويل ولا تحريف، والتأويل هو البحث عن معانٍ يصرفها عن حقائقها، ومن مقتضى التصديق لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أن نعلم أن كلام الله حق، وأن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، وأن هذه الغيبيات حق على حقيقتها على حسب علم الله عز وجل فيها، وكيفياتها مما لا يعلمه إلا الله، فهي حق، وإذا كانت حقاً فهي لا تقبل التأويل؛ لأن التأويل هو صرف لمعاني الألفاظ والكلمات من حقيقتها المباشرة إلى حقائق أخرى متوهمة أو متصورة أو يلجأ إليها عندما يصطدم الإنسان بحقائق الواقع، بينما أمور الغيب لا تصطدم بحقائق الواقع، فلا يحتاج فيها إلى تأويل، إذاً: (لا تأوّل) أي: لا تصرف معانيها إلى معانٍ مظنونة محتملة كما يفعل أهل التأويل، فمثلاً: الله عز وجل أخبر عن نفسه سبحانه بأنه على العرش استوى، ونحن نؤمن بهذا وأنه حق على ما يليق بجلال الله عز وجل ولا نزيد عما ورد في الشرع، فلا يجوز للواحد أن يتوهم أن الاستواء نظراً لأنه متعلق بالعرش والعرش مخلوق إذاً لابد أن نؤوّله بأن نقول: الاستواء هو الاستيلاء وهو الهيمنة أو السلطان! نعم، هذه المعاني من لوازم الاستواء، ولا شك أن الله عز وجل مهيمن ورب ومالك سبحانه، لكن لا بد أن نؤمن أن الاستواء لله عز وجل على عرشه حقيقة تليق بجلاله وكماله وليست كاستواء المخلوق، ومن هنا نؤمن بالحق كما ورد ونخلص من أنظار التأويل التي هي نوع من القول على الله بغير علم، بل نوع من الوقوع فيما نهى الله عنه من القول على الله بغير علم إلى آخره مما هو من اللوازم الباطلة للتأويل.

أيضاً: كما أن الغيبيات حق على حقائقها فلا يعني ذلك أننا لا نؤمن بلوازمها، وبعض الناس يظن أن السلف وأهل السنة إذا قالوا بحقائق صفات الله عز وجل وأسمائه كما يليق بجلال الله وحقائق الغيبيات أنهم يجمدون على النص، ولا يؤمنون باللوازم والمعاني التي تدل عليها السياقات والتي جاء إثباتها من كل ورود النص! لا، يؤمنون بهذا وذاك، ويثبتون حقيقة الغيبيات وما يلزم ذلك من اللوازم الضرورية التي تلزم من الإيمان بهذه الأمور.

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ الحادي عشر: الإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم يوم القيامة، كما جاء تفصيله في الأدلة الصحيحة ].

هذا تفصيل بعد الإجمال، لأن الشفاعة من الغيبيات، ويغلط بعض الناس جين يظن أن الشفاعة من الحقائق الاجتهادية العلمية القابلة للبحث والنظر؛ بل الشفاعة قضية غيبية جاء بها الخبر ولها شروط جاءت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، والمقصود بالشفاعة أن هناك أناساً ينتفعون يوم القيامة بوساطة الغير.

شروط الشفاعة

والشفاعة لها شروط الأول: أن يأذن الله عز وجل للشافع أياً كان، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الخلق وأزكاهم وأفضلهم لا يمكن أن يشفع إلا بعد أن يستأذن ربه عز وجل، ثم يؤذن له وكذلك البقية.

الثاني: أن يكون المشفوع له ممن تقررت له الشفاعة، فلا شفاعة لغير مسلم؛ لأن الله عز وجل ذكر عن غير المسلمين أنه لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وهذه قاعدة قطعية مجمع عليها.

وقد ترد صورة واحدة جاء بها النص وليست شفاعة كاملة وإنما شفاعة جزئية، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب وهو مشرك بأن يخفف عنه من عذاب جهنم نعوذ بالله من جهنم.

أنواع الشفاعة

أولها: شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم، وتدخل فيها صور، أولها: شفاعته للخلائق يوم القيامة بأن يفصل الله بينهم للقضاء، وهذا ورد فيه حديث طويل في الصحيح تضمن من مشاهد القيامة ما يوقظ القلوب الحية، كما امتلأت الأحاديث في ذلك بالعبر والعظات والتي تجعل العبد قريباً من الله عز وجل وأن يحبه ويتقيه ويخشاه، فهذه الشفاعة العظمى والكبرى هي أعظم الشفاعات، لأن البشر يوم القيامة يُحشرون طويلاً في يوم عصيب تدنو منهم الشمس، ويرون جهنم تزفر أمامهم، ويشاهدون من المشاهد المروعة ما لولا أن الله كتب عليهم ألا يموتوا لماتوا، ويكون الحشر طويلاً جداً، ثم بعد ذلك يموج بعضهم في بعض ويبحثون عمن يشفع لهم أمام الله عز وجل؛ لأن الباري سبحانه يغضب ذلك اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، فالبشر أمام الله عز وجل حينما استبانت لهم الحقيقة ورأوا أنهم فرطوا في دنياهم بأعمالهم لم يكن لهم على الله عز وجل حجة أن يقولوا أو أن يطلبوا، فذهبوا يطلبون ممن هم أقرب إلى الله، فظنوا أن آدم لأنه أبو البشر فهو الذي يشفع لهم إلى الله، فذهبوا إليه فاعتذر، ثم ذهبوا إلى نوح فاعتذر، ثم ذهبوا إلى إبراهيم وموسى فاعتذرا ثم إلى عيسى عليه السلام، فقال لهم: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهنا يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية، لأن العبودية لله عز وجل ليست ذلة، لكن العبودية للخلق إذلال، أما العبودية لله فهي تمام العز، ولذلك فأعظم مقام شرّف الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هو عبوديته لله العبودية الكاملة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله لم ينس حق ربه عز وجل، بل استشعر هيبة الله وعظمة الله فذهب يدعو طويلاً يستأذن ربه عز وجل في أن يأذن له بالشفاعة، فيسجد تحت العرش ويدعو طويلاً طويلاً، ويدعو الله بمحامد يلهمه الله إياها، حتى يقول له الله عز وجل: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفّع، وهذا والله هو المقام العظيم والوسيلة التي وعد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، هذا المقام المحمود مع أنه قد يدخل فيه غيره أيضاً، فالشاهد أن هذه أعظم شفاعة، وهي أن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم للخلائق في أن يفصل الله بينهم للقضاء، ثم بعد ذلك تتوالى شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم مثل شفاعته لأهل الكبائر، وشفاعاته لبعض أهل الجنة أن تعظّم درجاتهم فيها، وشفاعاته لناس استوت حسناتهم وسيئاتهم إلى آخره، فالنبي صلى الله عليه وسلم له شفاعات حسب ما ثبت في النصوص، ثم بعد ذلك يشفع النبيون، ويشفع الملائكة، ويشفع الصالحون والمؤمنون، وورد لبعض أفراد الناس شفاعات، فالقرآن له شفاعة لأصحابه ولقرّائه، والصيام له شفاعة، وكذلك الشهداء -إن ثبت النص- لهم شفاعة، وأطفال المؤمنين لهم نوع شفاعة.

إذاً: الشفاعات تكون لمن أذن الله لهم ولا تكون إلا لمؤمنين صالحين وكما جاء تفصيله في الأدلة الصحيحة، ولا يجوز أن ندعي شفاعة لم يرد بها الشرع؛ لأن الشفاعة هي إذن من الله عز وجل، ولا يمكن أن نفترض شفاعة من أنفسنا أو نقول على الله بغير علم، أو ندّعي أن هناك لأحد من الخلق شفاعات لم تثبت، نعم! الشفاعات المطلقة ثابتة، أما كيف تكون فالله أعلم، فمثلاً: شفاعات المؤمنين كيف تكون؟ الله أعلم، وشفاعات الصالحين كيف تكون؟ الله أعلم، فلا نفترض لها صوراً؛ لأنها غيبية وتحدث يوم القيامة.

ثم إن هذه الشفاعات يجب ألا تفتح باباً للمخلوقين في الحياة الدنيا أحياءً أو أمواتاً؛ لأن الشفاعات إنما تكون يوم القيامة.

والشفاعة لها شروط الأول: أن يأذن الله عز وجل للشافع أياً كان، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الخلق وأزكاهم وأفضلهم لا يمكن أن يشفع إلا بعد أن يستأذن ربه عز وجل، ثم يؤذن له وكذلك البقية.

الثاني: أن يكون المشفوع له ممن تقررت له الشفاعة، فلا شفاعة لغير مسلم؛ لأن الله عز وجل ذكر عن غير المسلمين أنه لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وهذه قاعدة قطعية مجمع عليها.

وقد ترد صورة واحدة جاء بها النص وليست شفاعة كاملة وإنما شفاعة جزئية، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب وهو مشرك بأن يخفف عنه من عذاب جهنم نعوذ بالله من جهنم.

أولها: شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم، وتدخل فيها صور، أولها: شفاعته للخلائق يوم القيامة بأن يفصل الله بينهم للقضاء، وهذا ورد فيه حديث طويل في الصحيح تضمن من مشاهد القيامة ما يوقظ القلوب الحية، كما امتلأت الأحاديث في ذلك بالعبر والعظات والتي تجعل العبد قريباً من الله عز وجل وأن يحبه ويتقيه ويخشاه، فهذه الشفاعة العظمى والكبرى هي أعظم الشفاعات، لأن البشر يوم القيامة يُحشرون طويلاً في يوم عصيب تدنو منهم الشمس، ويرون جهنم تزفر أمامهم، ويشاهدون من المشاهد المروعة ما لولا أن الله كتب عليهم ألا يموتوا لماتوا، ويكون الحشر طويلاً جداً، ثم بعد ذلك يموج بعضهم في بعض ويبحثون عمن يشفع لهم أمام الله عز وجل؛ لأن الباري سبحانه يغضب ذلك اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، فالبشر أمام الله عز وجل حينما استبانت لهم الحقيقة ورأوا أنهم فرطوا في دنياهم بأعمالهم لم يكن لهم على الله عز وجل حجة أن يقولوا أو أن يطلبوا، فذهبوا يطلبون ممن هم أقرب إلى الله، فظنوا أن آدم لأنه أبو البشر فهو الذي يشفع لهم إلى الله، فذهبوا إليه فاعتذر، ثم ذهبوا إلى نوح فاعتذر، ثم ذهبوا إلى إبراهيم وموسى فاعتذرا ثم إلى عيسى عليه السلام، فقال لهم: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهنا يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية، لأن العبودية لله عز وجل ليست ذلة، لكن العبودية للخلق إذلال، أما العبودية لله فهي تمام العز، ولذلك فأعظم مقام شرّف الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هو عبوديته لله العبودية الكاملة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله لم ينس حق ربه عز وجل، بل استشعر هيبة الله وعظمة الله فذهب يدعو طويلاً يستأذن ربه عز وجل في أن يأذن له بالشفاعة، فيسجد تحت العرش ويدعو طويلاً طويلاً، ويدعو الله بمحامد يلهمه الله إياها، حتى يقول له الله عز وجل: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفّع، وهذا والله هو المقام العظيم والوسيلة التي وعد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، هذا المقام المحمود مع أنه قد يدخل فيه غيره أيضاً، فالشاهد أن هذه أعظم شفاعة، وهي أن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم للخلائق في أن يفصل الله بينهم للقضاء، ثم بعد ذلك تتوالى شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم مثل شفاعته لأهل الكبائر، وشفاعاته لبعض أهل الجنة أن تعظّم درجاتهم فيها، وشفاعاته لناس استوت حسناتهم وسيئاتهم إلى آخره، فالنبي صلى الله عليه وسلم له شفاعات حسب ما ثبت في النصوص، ثم بعد ذلك يشفع النبيون، ويشفع الملائكة، ويشفع الصالحون والمؤمنون، وورد لبعض أفراد الناس شفاعات، فالقرآن له شفاعة لأصحابه ولقرّائه، والصيام له شفاعة، وكذلك الشهداء -إن ثبت النص- لهم شفاعة، وأطفال المؤمنين لهم نوع شفاعة.

إذاً: الشفاعات تكون لمن أذن الله لهم ولا تكون إلا لمؤمنين صالحين وكما جاء تفصيله في الأدلة الصحيحة، ولا يجوز أن ندعي شفاعة لم يرد بها الشرع؛ لأن الشفاعة هي إذن من الله عز وجل، ولا يمكن أن نفترض شفاعة من أنفسنا أو نقول على الله بغير علم، أو ندّعي أن هناك لأحد من الخلق شفاعات لم تثبت، نعم! الشفاعات المطلقة ثابتة، أما كيف تكون فالله أعلم، فمثلاً: شفاعات المؤمنين كيف تكون؟ الله أعلم، وشفاعات الصالحين كيف تكون؟ الله أعلم، فلا نفترض لها صوراً؛ لأنها غيبية وتحدث يوم القيامة.

ثم إن هذه الشفاعات يجب ألا تفتح باباً للمخلوقين في الحياة الدنيا أحياءً أو أمواتاً؛ لأن الشفاعات إنما تكون يوم القيامة.

قال المؤلف حفظه الله تعالى: [ الثاني عشر: رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة في الجنة وفي المحشر حق، ومن أنكرها أو أولها فهو زائغ ضال، وهي لن تقع لأحد في الدنيا ].

هذه من المقامات العظيمة التي يتطلع إليها المؤمن ويتشوق إليها، وهي من الأمور الغيبية التي يجب ألا نزيد فيها عما ورد في الشرع، وهي أعظم النعيم الذي وعد الله به عباده، رؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأبصارهم كما يليق بجلال الله عز وجل نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بذلك.

الرؤية في الجنة

رؤية المؤمنين لربهم أعظم النعيم، ولا يدانيها شيء؛ لأن الله عز وجل وصفها بذلك وهي معلوم أمرها بالضرورة، فلا يعقل أن يتصور أحد أن هناك أعظم نعيم من التمتع برؤية الله عز وجل، ولذلك وصفها الله عز وجل بمثل هذه الأوصاف، قال سبحانه عن المؤمنين الذين يدخلون الجنة: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] فلا تحد بحد، بل كل ما يمكن أن يتمناه المؤمن في الجنة من النعيم يدركه ويحدث له.

ثم بعد ذلك قال الله عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وقال سبحانه ممتناً على المؤمنين: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] أي: يعني بهية مستبشرة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] بعد أن نضرت بأعمالها الصالحة ونجت وزكت متعها الله بالنظر إلى وجهه الكريم، نسأل الله أن يجعلنا ممن يتمتعون بذلك.

فرؤية المؤمنين لربهم في الجنة من الحقائق التي تواترت بها النصوص، وهي غيبية، ولذلك فإن الذين استعملوا عقولهم في الخوض في هذه الأمور وقعوا في هلكة؛ لأنهم خاضوا في أمور هم في عافية منها، وقاسوا رؤية الخالق عز وجل برؤية المخلوقين، وقالوا: لأنه يترتب على الرؤية كذا ويلزم منها إثبات الجهة لله عز وجل، مع أن الجهة لا نجعلها وصفاً لله ولا نقول بها حتى نفصّل، فإن قصدتم بالجهة العلو فالمؤمنون يرون ربهم من فوقهم كما هو نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلماذا تنزعجون من الحق، وإلا لماذا تقولون: هذا يلزم منه جهة العلو والعلو كمال؟ وكل عاقل يدرك بعقله، وفكره وفطرته وبالحس والمشاهدة أن العلو كمال، إذاً: لماذا يتهيبون من إثبات العلو لله عز وجل، ولذلك نفوا الرؤية زعماً منهم أنه يلزم منها الجهة، وهربوا من إثبات العلو لله عز وجل.

إذاً: الرؤية حق، لكن ولا نتكلم فيها بأكثر مما ورد به النص، كيف تكون؟ وهل كذا..؟ هذه أمور لا يجوز أن نخوض فيها؛ لأنها تطلع إلى الغيب المحجوب، ومما لا يعلمه إلا الله عز وجل خاصة فيما يتعلق بالله، فما يتعلق بالله عز وجل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله والرؤية.. هذه أمور متعلقة بالله يجب على المسلم أن يتهيب ويتورع عن أن يخوض فيها أو يفتح لنفسه باب الأسئلة والإشكالات، فإن جاءته وساوس أو خواطر عارضة سيدفعها الإيمان بإذن الله، وإلا فإنه يسأل أهل العلم عل الله عز وجل يفتح عليه جواباً ينقذه من الوساوس، أما أن يبتدئ بالتوهمات فهذا من الغلط.

الرؤية في أرض المحشر

وقوله: ( وفي المحشر ) الرؤية يوم القيامة نوعان: الأولى: الرؤية في الجنة.

الثانية: رؤية جاءت مجملة ولم تفصلها النصوص، فهذه تبقى هكذا ونؤمن بها إجمالاً، وهي أن الناس يرون ربهم في المحشر كما ثبت ذلك في النصوص، أما التفصيل في الرؤية في المحشر فلم يرد كما ورد من التفصيل في الرؤية في الجنة، ولذلك نقف على النصوص.

ومما يجب معرفته أن الرؤية لا تكون إلا يوم القيامة، سواء في المحشر أو في الجنة، وعلى هذا لا يجوز ولا يعقل ولا يمكن أن أحداً يرى ربه بعينه في الدنيا، ولذلك حينما طلب موسى من الله عز وجل الرؤية، قال له الله عز وجل: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] تأبيد الحياة، ولا يعني ذلك تأبيد إلى ما بعد الحياة الدنيا، فلن للتأبيد في الحياة الدنيا؛ لأن الله عز وجل لا يحكم سننه الكونية ما بعد الدنيا، إنما هذه العبارات تحكم حياة الناس والزمان الذي نعيش فيه إلى قيام الساعة لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، وكذلك كل الخلق، لا يمكن أن أحداً يرى ربه بعين رأسه، قد يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما عُرج به هل رأى ربه بعين رأسه، إن كان رأى فهذه خصوصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصه الله عز وجل بأمور كثيرة لا تكون لغيره، لكن الراجح أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعين رأسه إنما رآه رؤية قلبية فؤادية الله أعلم بها.

رؤية الله في المنام

وهنا مسألة وهي: هل يمكن لأحد أن يرى ربه في المنام؟

أولاً: الرؤية الحقيقية لا يمكن أن تكون لا في المنام ولا في اليقظة في الدنيا، لكن رؤية أحلام، بمعنى أن الإنسان يرى شيئاً يأتيه في الحلم أنه رأى ربه، فهذا حلم وليس بحقيقة.

ثانياً: أن هذه أمثال تضرب، ولذلك فإن الناس إذا بالغوا في أمر غير حقيقي قالوا: هذا حلم، ويقصدون أنه وغير واقع وغير حقيقي، فلذلك إذا ادعى أحد أنه رأى في المنام شيئاً ظن أنه الله، فنقول: لن ترى الله على الحقيقة إنما هي أمثال ضُربت لك وأحلام، وليست رؤيا؛ لأن الرؤيا الصادقة لا تكون إلا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأيت ربي البارحة} وهذه خاصة به، أما ما يراه البقية من الناس فهي أحلام وأمثال تُضرب والأحلام ليست حقيقة، ولذلك لا نستطيع أن نحجر على أحد أنه إذا توهم في حلم من الليل أنه رأى شيئاً ظن أنه ربه.

رؤية المؤمنين لربهم أعظم النعيم، ولا يدانيها شيء؛ لأن الله عز وجل وصفها بذلك وهي معلوم أمرها بالضرورة، فلا يعقل أن يتصور أحد أن هناك أعظم نعيم من التمتع برؤية الله عز وجل، ولذلك وصفها الله عز وجل بمثل هذه الأوصاف، قال سبحانه عن المؤمنين الذين يدخلون الجنة: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] فلا تحد بحد، بل كل ما يمكن أن يتمناه المؤمن في الجنة من النعيم يدركه ويحدث له.

ثم بعد ذلك قال الله عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وقال سبحانه ممتناً على المؤمنين: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] أي: يعني بهية مستبشرة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] بعد أن نضرت بأعمالها الصالحة ونجت وزكت متعها الله بالنظر إلى وجهه الكريم، نسأل الله أن يجعلنا ممن يتمتعون بذلك.

فرؤية المؤمنين لربهم في الجنة من الحقائق التي تواترت بها النصوص، وهي غيبية، ولذلك فإن الذين استعملوا عقولهم في الخوض في هذه الأمور وقعوا في هلكة؛ لأنهم خاضوا في أمور هم في عافية منها، وقاسوا رؤية الخالق عز وجل برؤية المخلوقين، وقالوا: لأنه يترتب على الرؤية كذا ويلزم منها إثبات الجهة لله عز وجل، مع أن الجهة لا نجعلها وصفاً لله ولا نقول بها حتى نفصّل، فإن قصدتم بالجهة العلو فالمؤمنون يرون ربهم من فوقهم كما هو نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلماذا تنزعجون من الحق، وإلا لماذا تقولون: هذا يلزم منه جهة العلو والعلو كمال؟ وكل عاقل يدرك بعقله، وفكره وفطرته وبالحس والمشاهدة أن العلو كمال، إذاً: لماذا يتهيبون من إثبات العلو لله عز وجل، ولذلك نفوا الرؤية زعماً منهم أنه يلزم منها الجهة، وهربوا من إثبات العلو لله عز وجل.

إذاً: الرؤية حق، لكن ولا نتكلم فيها بأكثر مما ورد به النص، كيف تكون؟ وهل كذا..؟ هذه أمور لا يجوز أن نخوض فيها؛ لأنها تطلع إلى الغيب المحجوب، ومما لا يعلمه إلا الله عز وجل خاصة فيما يتعلق بالله، فما يتعلق بالله عز وجل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله والرؤية.. هذه أمور متعلقة بالله يجب على المسلم أن يتهيب ويتورع عن أن يخوض فيها أو يفتح لنفسه باب الأسئلة والإشكالات، فإن جاءته وساوس أو خواطر عارضة سيدفعها الإيمان بإذن الله، وإلا فإنه يسأل أهل العلم عل الله عز وجل يفتح عليه جواباً ينقذه من الوساوس، أما أن يبتدئ بالتوهمات فهذا من الغلط.