حديث جابر في صفة حج النبي [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا كريم, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

وبعد:

أحبتي الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا المجلس مجلس خير وبركة، تحفنا فيه ملائكته وتغشانا فيه الرحمة، وأن يذكرنا الله سبحانه وتعالى في من عنده.

أحبتي الكرام! حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم فيه مزايا:

المزية الأولى: أنك لا تكاد تجد صحابياً قد حوى صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما حوى جابر , وجابر رضي الله عنه امتاز على غيره من الصحابة أنه كان يسرد الأحاديث سرداً بطولها, وقل أن تجد هذا في الصحابة أمثال جابر رضي الله عنه, فلو تأملت في فضائل جابر رضي الله عنه لرأيته يسرد الأحاديث الطويلة، مثل ذكره لفضائل النبي صلى الله عليه وسلم ومخاطبته للشجر, وبركته عليه الصلاة والسلام في الماء, ومثل ذلك غزوة ذات قرد, وغير ذلك من الغزوات والفضائل التي تميز جابر بسرد أحاديثها دون غيره من الصحابة, فإن الصحابة رضي الله عنهم كان الغالب أنهم لا يذكرون إلا وجه الشاهد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو قوله أو تقريره.

المزية الثانية: أنه ذكر من خروج النبي صلى الله عليه وسلم ومن إهلاله بالميقات حتى انتهى من حجه رضي الله عنه؛ ولهذا اهتم بها الأئمة أيما اهتمام, وألفوا فيها التصانيف والأجزاء, وقد ذكر ابن المنذر أنه ألف جزءًا في حديث جابر وأخرج منه نحواً من مائة وخمسين فائدة, وبعد التأمل تصل إلى أكثر من مائتين بدلالة التضمن والالتزام.

على كل حال حديث جابر فضله لا ينسى؛ ولذا اهتم به العلماء في القديم والحديث, ويصعب علينا أحبتي الكرام أن نذكر كل مسائل حديث جابر, سواء كان في المسائل السلوكية أو المسائل الفقهية غير مسائل الحج, ولعل البعض يعذرني حين لا أذكر إلا المسائل المتعلقة بالحج, وليست كل مسائل الحج أيضاً, بل إننا سوف نكتفي بإشارات علنا أن ننهي هذا المتن بأيامه المحدودة وهي أربعة أيام.

قال الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه: [ حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إلي, فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين فأهوى بيده إلى رأسي, فنزع زري الأعلى ثم نزع زري الأسفل, ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذٍ غلام شاب فقال: مرحباً بك يا ابن أخي! سل عما شئت, فسألته وهو أعمى, وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفاً بها، كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها, ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا ].

تلطف المعلم مع طلابه

قول المؤلف: (قال: فدخلنا على جابر بن عبد الله ), الراوي هو محمد بن علي بن الحسين , يقول: (دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إلي), وهذا فيه فائدة وهو أنه ينبغي للعالم أن يتلطف مع طلابه, وأن يسأل عن أحوالهم، وأن يكون قريباً منهم كما كان عليه الصلاة والسلام يصنع, واقتدى به أصحابه من بعده كما صنع ابن مسعود و ابن عباس و ابن عمر , فقد كانوا متلطفين مع أصحابهم وتلامذتهم, وكلما كان العالم متلطفاً مع الطالب كان ذلك أدعى في شحذ همة الطالب بأن يأخذ المزيد والمزيد؛ ولهذا كان سعيد بن المسيب رحمه الله يهتم بطلابه, حتى إن الطالب ليأتي من بلاد بعيدة فيسأل سعيداً عن مسائل قد يمل السامع منها، فيخرج الطالب بعد أيام وقد حوى علم سعيد بن المسيب كله! ولهذا جاء قتادة بن دعامة السدوسي فجلس عند سعيد بن المسيب ثلاثة أيام, فقال له: اذهب يا أعمى! فقد حويت كل علمي! وهذا لا يتأتى إلا مع السؤال والكد والاجتماع والملازمة، وهذا يدل على أن العالم ينبغي أن يتلطف.

إكرام صالحي آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: (حتى انتهى إلي, فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين ).

هو من آل البيت، وفي هذا دلالة على أن آل البيت يجب في الجملة أن يكرموا خاصة إذا كانوا من الأتقياء، وهذا أمر حث عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم, وهو أن نولي آل بيته عليه الصلاة والسلام المنزلة العلية, وأن ندعو لهم، وأن نقدرهم في المجالس وفي المناسبات.

فتح أزرار القميص وبيان أقسام أفعال النبي عليه الصلاة والسلام

قال: (فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى, ثم نزع زري الأسفل).

في هذا دلالة على أن محمد بن علي بن حسين لم ير في فتح الأزرار سنة, وقد ذهب بعض الصحابة إلى أن من عادتهم أنهم لا يفتحون أزرتهم كما روى ابن أبي شيبة من حديث ثابت بن عبيد قال: ما رأيت ابن عمر ولا ابن عباس فاتحي أزرارهما قط, وهذا لا يدل على الاستحباب؛ لأن هذا إنما هو على سبيل الجبلة وعادة القوم, وما جاء عند الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عروة بن عبد الله عن معاوية بن قرة أنه قال: ( أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في وسط وفد مزينة, ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلق الإزار, فأدخلت يدي على جيبه فرأيت خاتم النبوة ), هذا لا يدل على استحباب فتح الأزرة؛ لأمور:

الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من عادته بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام أن يفتح أزرته, إنما وقع ذلك اتفاقاً, وما جاء في الرواية عن عروة بن عبد الله قال: فما رأيت معاوية بن قرة ولا ابنه إلا وهم فاتحي أزرتهم, فهذا اجتهاد من معاوية , أما النبي فإنما فعل ذلك مرة.

الأمر الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام إنما فعل ذلك؛ لأنه ربما يكون حر أو قر وغير ذلك, فلا يمكن أن يستدل بمثل هذا خاصة أن أفعاله عليه الصلاة والسلام ليست على سبيل الاستحباب على الإطلاق, فإن أفعاله تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما فعله على سبيل الجبلة والخلقة, مثل النوم والأكل فهذا لا يدل على الاستحباب.

القسم الثاني: ما فعله على عادة قومه مثل لبس العمامة والإزار والرداء, فهذا أيضاً لا يدل على الاستحباب عند أكثر الفقهاء والأصوليين.

القسم الثالث: ما فعله عليه الصلاة والسلام على سبيل التشريع فهذا هو الذي حث وحظ بأبي هو وأمي على الاقتداء به فيه, وفعله الصحابة رضي الله عنهم, نعم كان ابن عمر رضي الله عنه يقتدي بأفعاله التي يفعلها على سبيل الجبلة, وقد كان عمر رضي الله عنه ينكر على ابن عمر ما يصنع, وابن عمر يثاب على هذه النية, أما على اقتداء الحالة فلا, وهنا مسائل كثيرة لكن لا داعي لأن نستطرد فيها.

أهمية التعليم بالفعل

يقول: (وحضر وقت الصلاة, فقام في نساجة ملتحفاً بها كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها).

جابر رضي الله عنه قام في نساجة, والنساجة هي: القميص أو اللحاف, وفي رواية أنه التحف به وجعله على هيئة الأزار ولم يغط منكبيه, وفي هذا فائدة وهي أنه أراد أن يتعلم طالب العلم بالفعل؛ لأن الطالب يتأثر بالفعل أكثر مما يتأثر بالقول؛ ولهذا كان أحد القوم معهم فقال: أتصلي في ثوب واحد ورداؤك على المشجب رحمك الله؟! قال جابر كما في بعض الروايات: أردت أن يعلم أحمق مثلك أنه لا بأس به!

وهذا يدل على أن الطالب ينبغي له أن يتلطف في السؤال, ولا يوبخ العالم إلا إذا كان له سند أو كان على هدى من قوله.

حكم التطوع جماعة

قال: (ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا).

وفي هذا دلالة على أنه لا بأس أن يتطوع الإنسان مع قومه جماعة إذا لم يعتادوه, أما إذا اعتادوه فهذا غير مشروع, وقد نقل أبو العباس بن تيمية في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم رواية عن أحمد أنه سئل عن جماعة يجتمعون فيصلون, قال: إذا لم يعتادوه فلا بأس, وجابر حينما دخل على أصحابه صلى بهم صلاة تطوع جماعة.

قول المؤلف: (قال: فدخلنا على جابر بن عبد الله ), الراوي هو محمد بن علي بن الحسين , يقول: (دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إلي), وهذا فيه فائدة وهو أنه ينبغي للعالم أن يتلطف مع طلابه, وأن يسأل عن أحوالهم، وأن يكون قريباً منهم كما كان عليه الصلاة والسلام يصنع, واقتدى به أصحابه من بعده كما صنع ابن مسعود و ابن عباس و ابن عمر , فقد كانوا متلطفين مع أصحابهم وتلامذتهم, وكلما كان العالم متلطفاً مع الطالب كان ذلك أدعى في شحذ همة الطالب بأن يأخذ المزيد والمزيد؛ ولهذا كان سعيد بن المسيب رحمه الله يهتم بطلابه, حتى إن الطالب ليأتي من بلاد بعيدة فيسأل سعيداً عن مسائل قد يمل السامع منها، فيخرج الطالب بعد أيام وقد حوى علم سعيد بن المسيب كله! ولهذا جاء قتادة بن دعامة السدوسي فجلس عند سعيد بن المسيب ثلاثة أيام, فقال له: اذهب يا أعمى! فقد حويت كل علمي! وهذا لا يتأتى إلا مع السؤال والكد والاجتماع والملازمة، وهذا يدل على أن العالم ينبغي أن يتلطف.

قال: (حتى انتهى إلي, فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين ).

هو من آل البيت، وفي هذا دلالة على أن آل البيت يجب في الجملة أن يكرموا خاصة إذا كانوا من الأتقياء، وهذا أمر حث عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم, وهو أن نولي آل بيته عليه الصلاة والسلام المنزلة العلية, وأن ندعو لهم، وأن نقدرهم في المجالس وفي المناسبات.

قال: (فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى, ثم نزع زري الأسفل).

في هذا دلالة على أن محمد بن علي بن حسين لم ير في فتح الأزرار سنة, وقد ذهب بعض الصحابة إلى أن من عادتهم أنهم لا يفتحون أزرتهم كما روى ابن أبي شيبة من حديث ثابت بن عبيد قال: ما رأيت ابن عمر ولا ابن عباس فاتحي أزرارهما قط, وهذا لا يدل على الاستحباب؛ لأن هذا إنما هو على سبيل الجبلة وعادة القوم, وما جاء عند الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عروة بن عبد الله عن معاوية بن قرة أنه قال: ( أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في وسط وفد مزينة, ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلق الإزار, فأدخلت يدي على جيبه فرأيت خاتم النبوة ), هذا لا يدل على استحباب فتح الأزرة؛ لأمور:

الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من عادته بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام أن يفتح أزرته, إنما وقع ذلك اتفاقاً, وما جاء في الرواية عن عروة بن عبد الله قال: فما رأيت معاوية بن قرة ولا ابنه إلا وهم فاتحي أزرتهم, فهذا اجتهاد من معاوية , أما النبي فإنما فعل ذلك مرة.

الأمر الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام إنما فعل ذلك؛ لأنه ربما يكون حر أو قر وغير ذلك, فلا يمكن أن يستدل بمثل هذا خاصة أن أفعاله عليه الصلاة والسلام ليست على سبيل الاستحباب على الإطلاق, فإن أفعاله تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما فعله على سبيل الجبلة والخلقة, مثل النوم والأكل فهذا لا يدل على الاستحباب.

القسم الثاني: ما فعله على عادة قومه مثل لبس العمامة والإزار والرداء, فهذا أيضاً لا يدل على الاستحباب عند أكثر الفقهاء والأصوليين.

القسم الثالث: ما فعله عليه الصلاة والسلام على سبيل التشريع فهذا هو الذي حث وحظ بأبي هو وأمي على الاقتداء به فيه, وفعله الصحابة رضي الله عنهم, نعم كان ابن عمر رضي الله عنه يقتدي بأفعاله التي يفعلها على سبيل الجبلة, وقد كان عمر رضي الله عنه ينكر على ابن عمر ما يصنع, وابن عمر يثاب على هذه النية, أما على اقتداء الحالة فلا, وهنا مسائل كثيرة لكن لا داعي لأن نستطرد فيها.

يقول: (وحضر وقت الصلاة, فقام في نساجة ملتحفاً بها كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها).

جابر رضي الله عنه قام في نساجة, والنساجة هي: القميص أو اللحاف, وفي رواية أنه التحف به وجعله على هيئة الأزار ولم يغط منكبيه, وفي هذا فائدة وهي أنه أراد أن يتعلم طالب العلم بالفعل؛ لأن الطالب يتأثر بالفعل أكثر مما يتأثر بالقول؛ ولهذا كان أحد القوم معهم فقال: أتصلي في ثوب واحد ورداؤك على المشجب رحمك الله؟! قال جابر كما في بعض الروايات: أردت أن يعلم أحمق مثلك أنه لا بأس به!

وهذا يدل على أن الطالب ينبغي له أن يتلطف في السؤال, ولا يوبخ العالم إلا إذا كان له سند أو كان على هدى من قوله.

قال: (ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا).

وفي هذا دلالة على أنه لا بأس أن يتطوع الإنسان مع قومه جماعة إذا لم يعتادوه, أما إذا اعتادوه فهذا غير مشروع, وقد نقل أبو العباس بن تيمية في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم رواية عن أحمد أنه سئل عن جماعة يجتمعون فيصلون, قال: إذا لم يعتادوه فلا بأس, وجابر حينما دخل على أصحابه صلى بهم صلاة تطوع جماعة.

(فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بيده فعقد تسعاً فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج, ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج, فقدم المدينة بشر كثير, كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله).

يقول: (أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم).

هذا سؤاله عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دلالة على أن الصحابة والتابعين كانوا يعلمون أن جابراً حوى في حجته ما لم يحو غيره من الصحابة, ولا بأس أن يكون طالب العلم يتميز في مسألة دون غيرها, فيرد الناس يستفيدون منه, وفي هذا أحاديث تبين أن الصحابة كانوا يتميزون في مسائل كما حصل لـأسماء بنت عميس حينما فضل النبي صلى الله عليه وسلم هجرتهم على هجرة غيرهم فقال: ( لك وأصحابك هجرتان, ولـعمر وأصحابه هجرة واحدة ), فقد كان الناس -الأشعريون وغيرهم- يدخلون على أسماء يسمعون منها هذا الحديث.

قال: (فعقد بيدي تسعاً).

هذا العقد عد كان العرب يصنعونه في أزمان ثم اندثر، وليس المراد بأنه ضم أصابعه الخمسة واليد الأخرى أربعة وأطلق أنمله أو أصبعاً، ولكن هذه صفة كانوا يصنعونها في عادتهم كما جاء في بعض الروايات: وعقد صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وخمسين حينما أراد أن يرفع أصبعه في التشهد وهو أن يعقد الخنصر والبنصر ويحلق بين الإبهام والوسطى, وهذه الصفة على طريقة ثلاث وخمسين, وأما تسعاً فلهم طرق بينها الحافظ ابن حجر في فتح الباري, وكذا الشوكاني في نيل الأوطار, والصنعاني في سبل السلام.

قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج).

قوله: (لم يحج) يعني: بعدما هاجر إلى المدينة لم يحج, أما قبل الهجرة أو قبل البعثة فقد اختلف العلماء هل حج النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يحج؟ والأقرب الذي لا إشكال فيه والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حج قبل الهجرة, لكن كم حج؟ بعض أهل العلم رأى أنه حج مرة أخرى, كما قال أبو إسحاق في صحيح مسلم : وحج في مكة حجة أخرى, وقال بعضهم: إنما حج حجتين كما جاء عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم ( حج حجتين ), وهذا الحديث ضعيف, قال الترمذي : هذا حديث غريب, والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل الهجرة أكثر من حجتين؛ لأنه كان يفد ويرد على العرب حينما كانوا في سوق عكاظ وماجنة, وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قد حج أكثر من مرتين بل لو قيل بأكثر من ذلك لم يكن بعيداً.

المسألة الأخرى: متى فرض الحج؟

اختلف العلماء في ذلك على عدة أقوال أهمها هو قول المالكية والحنفية والحنابلة وهو أن الحج إنما فرض في السنة التاسعة, ورجح هذا الإمام ابن القيم رحمه الله, واستدلوا على ذلك بأدلة منها:

قالوا: إن الآية التي في سورة آل عمران التي تدل على فرضية الحج وهي قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97], قالوا: إنما نزلت في سنة تسع, أو في ورود أهل الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأهل نجران وغيرهم, وقالوا: إن هذا الوفد إنما جاءوا سنة تسع, وفرضت عليهم الجزية, والجزية إنما فرضت في غزوة تبوك أو بعد غزوة تبوك في السنة التاسعة, وهذا الأقرب، والله أعلم.

والقول الثاني: قول الإمام الشافعي أن الحج إنما فرض في السنة السادسة, واستدل على ذلك بأن الله يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196], قال الإمام الشافعي : وهذه الآية إنما نزلت متعلقة بقوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: 196], وقد نزلت بالإجماع في حق كعب بن عجرة , و كعب بن عجرة إنما آذاه هوام رأسه سنة ستٍ من الهجرة زمن الحديبية, فقال الشافعي: إن هذه دليل على أن الحج كان سنة ست للهجرة، وأما ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أنه سئل عن المواقيت فقال: أحسبه قال: ومهل أهل العراق ذات عرق, فهذا إنما هو وهم من الرواة, وإلا فبعض الروايات ليس فيها وأحسبه إنما هو من قول جابر ، والله أعلم.

المواقيت المكانية أيها الإخوة! هي التي يجب على من مر عليها أو كان من أهلها أن يحرم من عندها, وهل له أن يتجاوز الميقات الأبعد إلى ميقات أقرب منه؟ نقول في هذه الحال ثلاثة أحوال:

الشامي إذا تجاوز ميقات المدينة إلى ميقاته

الحالة الأولى: الشامي إذا تجاوز ميقات المدينة إلى ميقاته وهو الجحفة, اختلف العلماء في ذلك على قولين:

ذهب الإمام أحمد و الشافعي إلى أنه لا يجوز له أن يتجاوز ميقاتاً قد مر عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر في الصحيحين: ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ), فالشامي إذا جاء إلى ميقات أهل المدينة, فيصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ).

وذهب الإمام أبو حنيفة و مالك واختاره أبو العباس بن تيمية كما في الاختيارات إلى أن للشامي أن يتعدى ميقات ذي الحليفة إلى ميقات الجحفة, وقالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام: ( هن لهن ), إنما معناه هن أي: المواقيت, لهن لأصحاب الأماكن, ( ولمن أتى عليهن ), أي: أتى عليهن ممن ليس له ميقات, قالوا: لأن قوله: ( ولمن أتى عليهن ) عام مخصوص بقوله: ( هن لهن ), فالشامي إذا جاء إلى ميقات المدينة فإنه مخاطب أن يحرم من ميقاته, فله أن يتجاوز ميقات المدينة ليحرم من ميقاته.

وأرى كما قال الإمام أحمد : الحديث واضح في ذلك, يعني: أنه يجب على الشامي إذا مر على ميقات ذي الحليفة أن يهل منه, نعم يجوز له ألا يمر على ميقات ذي الحليفة, فيأخذ طريق الساحل مثل الذين يأتون من ينبع ويأخذون طريق الساحل فيحرمون من الجحفة, كما صنع أبو قتادة في حجة النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا ساحل البحر, قال: ( خذوا ساحل البحر حتى تلقوني ), قال: فأهلوا جميعاً فأما أبو قتادة فإنه لم يهل, أو قال: فإنه لم يحرم.

تجاوز الميقات بدون إحرام إلى ميقات أهل بلده

المسألة الثانية: هل لمن مر على غير ميقاته أن يتجاوزه إلى ميقاته؟ مثل النجدي إذا جاء إلى المدينة وأخذ عمرة قبل الحج وأحب أن يهل بالحج, قال: أنا سوف أتعدى ميقات المدينة وأنا ناوٍ للحج والعمرة وسوف أحرم من الطائف, فهل له ذلك أم لا؟

في هذا احتمال, نقل ابن قدامة من الحنابلة وكذلك ابن الحاجب من المالكية الإجماع على أنه لا يجوز لمن مر على ميقات غير ميقات بلده أن يتجاوزه إلى ميقات بلده.

وقال العراقي في طرح التثريب: وظاهر صنيع ابن عبد البر أن هذه المسألة عامة في الشامي وغيره, يعني بذلك: أن كل من مر على ميقات غير ميقات بلده له أن يتجاوزه إلى ميقات بلده.

إذا رجحنا للشامي فسوف نرجح الثاني مثل ترجيحه للشامي.

تجاوز الميقات إلى ميقات أقرب منه

المسألة الثالثة: هل لمن مر على ميقات أن يتجاوزه إلى ميقات أقرب منه ولو كان غير ميقاته؟ أي: هل لمن مر على ميقات بعيد أن يتجاوزه إلى ميقات أقرب منه وهو غير ميقاته؟

حقيقة لم أجد في كتب أهل العلم من الأئمة الأربعة كلاماً في هذا, إنما ذكروا هل له أن يتجاوز ميقاتاً غير ميقاته إلى ميقاته, أما أن يختار فلم أر هذا عند أحد من أهل العلم, والذين قالوا: إن جدة ميقات قالوا: يجوز له ذلك, وهذا محل تأمل ونظر؛ لأن جدة ليست ميقاتاً، بل هي داخلة من ضمن المواقيت, نعم من جاء من طريق البحر وقد قصد جدة فهو لم يحاذ يلمم ولم يحاذ الجحفة, فيحرم من جدة, وهم من جاء من أهل سواكن من السودان, وقد ذكر ابن قدامة و ابن حجر في فتح الباري أن من مر على غير ميقاته فإنه يجعل بينه وبين مكة مرحلتين, وجدة بينها وبين مكة مرحلتان كما لا يخفى.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
حديث جابر في صفة حج النبي [3] 1683 استماع
حديث جابر في صفة حج النبي [4] 1588 استماع
حديث جابر في صفة حج النبي [2] 1451 استماع