حديث جابر في صفة حج النبي [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فقبل أن نشرع في شرح المتن، نبين مسألة من مسائل التلبية وهي حكم التلبية، ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن التلبية سنة.

وذهب أبو حنيفة رحمه الله -وهو اختيار أبي العباس بن تيمية- إلى أنه يلزم مع النية إما التلبية أو سوق الهدي. جمهور أهل العلم يرون أن الإنسان يكتفي بمجرد نيته لدخوله في النسك أياً كان هذا النسك.

أما قول أبي حنيفة وهو اختيار ابن تيمية أنه يلزم مع النية التلبية أو سوق الهدي, واستدلوا على ذلك بأن قالوا: إن لم يحرم من حين خروجه من بيته إلى البيت الحرام فهو ناوٍ للنسك, فلا بد من أمر زائد يخرج هذه النية إلى نية زائدة أخرى.

أما جمهور أهل العلم فإنهم يقولون: نية الخروج من البيت إلى البيت الحرام هي نية إرادة فعل النسك, أما الدخول في النسك فهي نية الدخول في فعل النسك, وفرق بين الأمرين, إذا خرج الإنسان من بيته فهو يريد أن يفعل النسك, أما إذا دخل في النسك فهو يريد فعل النسك في الحال.

وأما استدلال أبي حنيفة على الوجوب بما رواه خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن جبريل أمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية ), فقوله: (أمرني) ليس دليلاً على الوجوب؛ ذلك أن الأمر في الحديث إنما هو برفع الصوت, وقد أجمع أهل العلم على أن رفع الصوت بالتلبية مستحب, فلا يسلم الاستدلال بهذا الحديث.

والأقرب -كما مر معنا- أن التلبية سنة, والمرأة تلبي كالرجل.

أما رفع الصوت فقد ذهب عامة الفقهاء إلى أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية, وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك, واستدلوا بما رواه البيهقي من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه قال: المرأة لا تصعد بين الصفا والمروة ولا ترفع صوتها بالتلبية, وهذا إسناد صحيح لا يخفى, وهو أقرب والله أعلم.

القول الثاني: مذهب ابن حزم وقد ذهب إلى أنه يشرع رفع الصوت بالتلبية حتى من النساء, واستدل على ذلك بما رواه ابن أبي شيبة أن معاوية خرج ليلة النفر فسمع صوت تلبية فقال: من هذا؟ قالوا: عائشة اعتمرت من التنعيم فذكر ذلك لـعائشة فقالت: لو سألني لأخبرته, قالوا: فهذا يدل على أن عائشة رفعت صوتها، وهذا الحديث وإن كان إسناده جيد لكن حمله على ما ذهب إليه ابن حزم فيه نظر، وذلك لأمور:

الأمر الأول: أنه سمع صوت تلبية ولا يلزم أن تكون هذه التلبية من عائشة , فإن عبد الرحمن بن أبي بكر ذهب بـعائشة فأعمرها من التنعيم, فجائز أن يكون من الرجال ممن كان مع عائشة من رفع صوته بالتلبية, وأما قولهم: عائشة اعتمرت من التنعيم؛ ليبين هذا الأمر؛ ما سبب هذه التلبية؟ أن عائشة اعتمرت من التنعيم وناس معها يلبون.

الأمر الثاني: أن عائشة رضي الله عنها ربما تكون رفعت صوتها يسيراً وكانت قريبة من معاوية رضي الله عنها فسمع معاوية هذا الصوت واستفسر عنه, وتكون عائشة ممن لبت قريباً من جارتها ومن معها.

قال: (قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة, حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً, ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125], فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول -ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم-: كان يقرأ في الركعتين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1], و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1], ثم رجع إلى الركن فاستلمه, ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ).

يقول جابر رضي الله عنه: (لسنا ننوي إلا الحج) يعني: بذلك الإفراد, وذلك أن قريشاً ترى أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس أنه قال: ( كانت قريش ترى العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض, ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر ), ومعنى ذلك أنهم يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض, ويقولون: إذا برأ الدبر, ومعنى برأ الدبر: أن الإبل كانت تحمل لأقتابها وأحمالها أحمال الحجاج فتتأثر جلودها بسبب الحمل, فيقولون: إذا برأ هذا الجرح الناتج عن الحمل، وبعد برئه يعفا الأثر, يعني: أحياناً الجرح يتأثر فيشفى فيبقى أثره, فيزول هذا الأثر أيضاً, وانسلخ صفر؛ لأن محرم يرون أنه من الأشهر التي تنسى كما لا يخفى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37], فيرون أنهم لا يعتمرون في محرم حتى يخرج وينسلخ صفر، فإذا انسلخ حلت العمرة لمن اعتمر, (فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة رابعة فأمرهم أن يحلوا من إحرامهم, فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: الحل كله)؛ ولهذا قال جابر: (لسنا ننوي إلا الحج), يعني: ليس من عادتهم أن يأخذوا عمرة في أشهر الحج, وليسوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيل عن الصحابة وقريش هذا الاعتقاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتميز بعقيدته وعمله وفعله, فقال جابر : (لسنا ننوي إلا الحج), والحج هنا يريد به الإفراد, (لسنا نعرف العمرة), ومعنى (لسنا نعرف العمرة) لم يقصد أنهم لا يعرفون عمل العمرة حاشاهم, فقد اعتمروا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما في صلح الحديبية السنة السادسة والسابعة, ولكنه يقول: (لسنا نعرف أداء العمرة وقت الحج), فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليبين لهم التمتع.

العمرة في أشهر الحج وغيرها مستحبة بالإجماع في جميع السنة, وأما قول بعض الفضلاء أنها لا تشرع أيام النحر فهذا يحتاج إلى دليل ولا دليل, بل إن عمر رضي الله عنه -كما روى مالك في موطئه- حينما لم يقف هبار بن الأسود بعرفة حتى خرج وقتها أمره أن يتحلل بعمرة, وذلك ليلة العيد أو صبيحة العيد.

المسألة الأخرى: حكم العمرة هل هي واجبة كما هي في وجوب الحج أم لا؟

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: هو مذهب الشافعية والحنابلة وعليه الفتوى من مشايخنا كشيخنا عبد العزيز بن باز واللجنة الدائمة قالوا بوجوب العمرة, واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة لعلي أوجزها؛ لأن المقام ليس مقام بسط.

الأول: حديث الصبي بن معبد كما رواه الترمذي و أحمد وغيرهما أنه قال: أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين! إني أسلمت وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما, فقال عمر : هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم, فقوله: مكتوبان عليّ دليل على أنه رأى أن العمرة مكتوبة كالحج, فقال عمر : هديت لسنة نبيك.

الدليل الثاني: ما رواه شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة, قال: حج عن أبيك واعتمر ), وهذا الحديث إسناده صحيح, بل قال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله: لا أعلم حديثاً أجود إسناداً ولا أصح في وجوب العمرة من حديث أبي رزين , فإن شعبة جوده ولم يجوده أحد كـشعبة .

الدليل الثالث: أنه فتوى الصحابة رضي الله عنهم والأئمة من بعدهم رضي الله عنهم وأرضاهم, فقد روى البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في العمرة: إنها لقرينة الحج في كتاب الله, وروي أيضاً معلقاً بصيغة الجزم، ورواه موصولاً ابن خزيمة وغيره عن ابن عمر من طريق ابن جريج حدثني نافع عن ابن عمر أنه قال: ليس أحد من خلق الله إلا وعليه عمرة في عمره, وروى ابن خزيمة وغيره بسند صحيح أيضاً عن ابن عمر أنه قال: إن الحج والعمرة فريضتان, وروى الدارقطني و ابن خزيمة عن جابر أنه قال: ليس من خلق الله أحد إلا وعليه عمرة في عمره, فهذا قول ثلاثة من الصحابة, وهذا الأقرب والله أعلم.

أما القول الثاني: وهو قول أبي حنيفة و مالك واختيار ابن تيمية رحمه الله قالوا: لا تجب العمرة في حق المسلم، وهنا قاعدة: أنه لا يصح في إثبات أن العمرة تطوع حديث, وما حديث أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ قال: ( لا, وأن تعتمر خيراً لك ), هذا حديث ضعيف, ولا يصح في تطوع العمرة حديث, وهذا الأقرب.

وهل العمرة واجبة في حق المكي؟ روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه قال: يا أهل مكة ! ليس عليكم أن تعتمروا بالبيت, إنما عمرتكم الطواف بالبيت, وهذه رواية عن الإمام أحمد قواها أبو العباس بن تيمية , والأقرب والله أعلم أن المكي وغيره في الحكم سواء ما لم يرد نص بذلك, ولعل قول ابن عباس رضي الله عنه: يا أهل مكة ليس عليكم أن تعتمروا عمراً كثيرة؛ لأن عمرتكم الطواف بالبيت, لا أنه يثبت أنه لا تجب عليهم ابتداء العمرة, وهذا له حظ من النظر.

المفاضلة بين الإفراد والتمتع والقران

قوله: (لسنا ننوي إلا الحج), هذا أحد الأنساك؛ ولهذا ذهب المالكية والشافعية إلى أن الإفراد أفضل الأنساك؛ لقول جابر : (لسنا ننوي إلا الحج)؛ ولقول ابن عمر كما في صحيح مسلم قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل بالحج), ولما رواه مسلم من حديث عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرد الحج), قالوا: فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج, فدل ذلك على أن الإفراد أفضل.

وذهب الإمام أحمد رحمه الله في المشهور عنه إلى أن التمتع أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه كما في صحيح البخاري و مسلم من حديث جابر : ( طوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالاً, قالوا: أي الحل؟ قال: الحل كله ), قال جابر : (فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب), وفي رواية مسلم : (ولم يكن بيننا وبين عرفة إلا أربعة ليال). وهذا القول أقرب من القول بالإفراد.

وأما حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج أو أهل بالحج وكذا حديث عائشة فإن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا بإفراد الحج أي: عمل عمل المفرد في الحج, ولم يقصدوا أنه أهل مفرداً, ودليل ذلك أن ابن عمر الذي قال أفرد الحج هو الذي روى بإسناد صحيح كالشمس من طريق سالم عن ابن عمر أنه قال: ( تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ), ويدل على هذا أن ابن عمر صرح فقال: ( وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالحج ثم أهل بالعمرة ), فهذا يدل على أن ابن عمر إنما أراد بقوله أفرد بالحج يعني: بذلك عمل عمل المفرد, ولا شك أن القارن والمفرد عملهما في الحج سواء, ويختلفان في الهدي وفي النية, حيث إن نية القارن الحج والعمرة جميعاً ونية المفرد الحج وحده.

ثم قال الحنابلة: بعد التمتع الإفراد ثم بعد الإفراد القران لمن لم يسق الهدي.

وذهب أبو العباس بن تيمية إلى أن أفضل الأنساك هو القران مع سوق الهدي, فإن لم يسق الهدي فالأفضل التمتع, فإن لم يكن فالإفراد فإن لم يكن فالقران من غير سوق هدي, وهذا القول أظهر كما مر معنا بالأمس؛ لأن الله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهل بالعمرة والحج فقال: ( أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة ), وقد ساق الهدي ولم يكن ربك ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم وخليله إلا ما هو الأفضل, وهذا أظهر والله أعلم.

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت الذي أمرتكم به ), فهذا من باب جبر خواطر الصحابة, فكأنه أراد أن يبين لهم أن العمرة في أشهر الحج أفضل أو خير لكم من بقائكم, وذلك لما استشكل الصحابة العمرة في أشهر الحج حتى جاء في رواية البخاري حديث علي أنهم قالوا: ( يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله, قالوا: تقطر مذاكيرنا ثم نهل بالحج؟ قال: افعلوا ما آمركم فإني لو لم أسق الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ), وهذا أظهر، والله أعلم.

كيفية سوق الهدي للقارن

السؤال الذي يشكل على كثير من الإخوة, كيف يكون سوق الهدي؟ سوق الهدي أن تشتري من الرياض أو من أي منطقة خارج الميقات فتقول لصاحب الغنم: أريد أن تدخل هذا الهدي في منى وتذبحه، ثم تقلده بأن تأتي بخيوط أو كما يسمونه العوام كلعان أو غير ذلك وتربطها وتكون هدياً, وهذا يحسن، وقد كانت هذه السنة ميتة إلا أنها حييت ولله الحمد منذ ثلاث سنوات أو أربع سنوات.

صفة التمتع

المسألة الأخرى: ما هي صفة التمتع؟

صفة التمتع أن يهل بالعمرة في أشهر الحج ثم يفرغ منها في عامه ثم يهل بالحج من عامه, هذا هو التمتع, وقول الفقهاء: أنه يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فلو أنه أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج وبقي في مكة حتى يوم التروية فأهل بالحج, فإنه يكون مفرداً باتفاق الفقهاء, ولو أهل بالعمرة في أشهر الحج ولم يستطع أن يفرغ منها حتى كان يوم عرفة, فإنه يدخل الحج على العمرة ليكون قارناً كما صنعت عائشة رضي الله عنها.

صفة الإفراد

المسألة الثانية: صفة الإفراد، الإفراد هو أن يهل بالحج ويبقى على إحرامه حتى يوم العيد, أو إن شئت فقل: حتى يتحلل منها بعد رمي جمرة العقبة والحلق.

صفة القران

المسألة الثالثة: القران, وللقران صورتان متفق عليهما وصورة ثالثة مختلف فيها.

الصورة الأولى: أن يهل بالعمرة والحج جميعاً فيقول: لبيك عمرة وحجاً, لبيك عمرة وحجاً.

الصورة الثانية: أن يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج, وبعضهم يزيد قبل الطواف, فيقول: لبيك عمرة، مثلما صنعت عائشة , فإذا أدخل عليها الحج صار قارناً.

الصورة الثالثة: أن يهل بالحج فيقول: لبيك حجاً ثم يدخل العمرة عليها فيكون قارناً, فجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة واختيار ابن تيمية قالوا: لا يجوز له ذلك؛ لأنه لا يستفيد بإدخال العمرة على الحج شيئاً؛ لأن الإفراد أفضل من القران.

وذهب أبو حنيفة إلى جواز أن يدخل العمرة على الحج ليكون قارناً.

طيب السؤال: لماذا جوز أبو حنيفة أن يدخل العمرة على الحج والجمهور يقولون: لا يستفيد من ذلك شيئاً؟ والجواب: لأن أبا حنيفة يرى أن القارن عليه سعيان وعليه طوافان, فلأجل هذا قال: إنه يجوز أن يدخل العمرة على الحج فيستفيد بذلك.

قوله: (لسنا ننوي إلا الحج), هذا أحد الأنساك؛ ولهذا ذهب المالكية والشافعية إلى أن الإفراد أفضل الأنساك؛ لقول جابر : (لسنا ننوي إلا الحج)؛ ولقول ابن عمر كما في صحيح مسلم قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل بالحج), ولما رواه مسلم من حديث عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرد الحج), قالوا: فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج, فدل ذلك على أن الإفراد أفضل.

وذهب الإمام أحمد رحمه الله في المشهور عنه إلى أن التمتع أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه كما في صحيح البخاري و مسلم من حديث جابر : ( طوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالاً, قالوا: أي الحل؟ قال: الحل كله ), قال جابر : (فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب), وفي رواية مسلم : (ولم يكن بيننا وبين عرفة إلا أربعة ليال). وهذا القول أقرب من القول بالإفراد.

وأما حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج أو أهل بالحج وكذا حديث عائشة فإن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا بإفراد الحج أي: عمل عمل المفرد في الحج, ولم يقصدوا أنه أهل مفرداً, ودليل ذلك أن ابن عمر الذي قال أفرد الحج هو الذي روى بإسناد صحيح كالشمس من طريق سالم عن ابن عمر أنه قال: ( تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ), ويدل على هذا أن ابن عمر صرح فقال: ( وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالحج ثم أهل بالعمرة ), فهذا يدل على أن ابن عمر إنما أراد بقوله أفرد بالحج يعني: بذلك عمل عمل المفرد, ولا شك أن القارن والمفرد عملهما في الحج سواء, ويختلفان في الهدي وفي النية, حيث إن نية القارن الحج والعمرة جميعاً ونية المفرد الحج وحده.

ثم قال الحنابلة: بعد التمتع الإفراد ثم بعد الإفراد القران لمن لم يسق الهدي.

وذهب أبو العباس بن تيمية إلى أن أفضل الأنساك هو القران مع سوق الهدي, فإن لم يسق الهدي فالأفضل التمتع, فإن لم يكن فالإفراد فإن لم يكن فالقران من غير سوق هدي, وهذا القول أظهر كما مر معنا بالأمس؛ لأن الله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهل بالعمرة والحج فقال: ( أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة ), وقد ساق الهدي ولم يكن ربك ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم وخليله إلا ما هو الأفضل, وهذا أظهر والله أعلم.

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت الذي أمرتكم به ), فهذا من باب جبر خواطر الصحابة, فكأنه أراد أن يبين لهم أن العمرة في أشهر الحج أفضل أو خير لكم من بقائكم, وذلك لما استشكل الصحابة العمرة في أشهر الحج حتى جاء في رواية البخاري حديث علي أنهم قالوا: ( يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله, قالوا: تقطر مذاكيرنا ثم نهل بالحج؟ قال: افعلوا ما آمركم فإني لو لم أسق الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ), وهذا أظهر، والله أعلم.

السؤال الذي يشكل على كثير من الإخوة, كيف يكون سوق الهدي؟ سوق الهدي أن تشتري من الرياض أو من أي منطقة خارج الميقات فتقول لصاحب الغنم: أريد أن تدخل هذا الهدي في منى وتذبحه، ثم تقلده بأن تأتي بخيوط أو كما يسمونه العوام كلعان أو غير ذلك وتربطها وتكون هدياً, وهذا يحسن، وقد كانت هذه السنة ميتة إلا أنها حييت ولله الحمد منذ ثلاث سنوات أو أربع سنوات.