حديث جابر في صفة حج النبي [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل.

وبعد:

قال جابر رضي الله عنه: ( حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة, فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد, وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم, فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل, ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا, قال فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة على الذي صنعت، مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: صدقت صدقت, ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدي فلا تحل ).

ترك الدعاء في آخر أشواط السعي

قال جابر: (حتى إذا كان آخر طوافه على المروة)، في هذا فوائد:

الفائدة الأولى: أن المستحب في حق المحرم الذي طاف بين الصفا والمروة في آخر طواف على المروة ألا يقول شيئاً، لا يدعو ولا يستقبل القبلة، وهذا بخلاف آخر شوط من الطواف بالبيت، فإنه يستقبل الحجر ويستلمه أو يشير إليه كما مر معنا، أما على المروة فإنه لا يدعو؛ لأن ظاهر الحديث أنه إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ).

علة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ حج القران

الفائدة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ), لم يكن هذا ابتداء ولكن جاءت روايات تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حينما أشكل عليهم أن يتحللوا من حجهم قال جابر : ( حتى إذا كنا على المروة قال النبي صلى الله عليه وسلم: طوفوا بالبيت ), يقول جابر : ( حتى إذا قدمنا البيت، قال: طوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا، وأقيموا حلالاً, فقالوا: أي الحل؟ قال: الحل كله, قالوا: يا رسول الله! تقطر مذاكيرنا، ثم نذهب إلى عرفة ), كما في رواية البخاري : قال: ( افعلوا ما آمركم به، فإني لولا أني سقت الهدي ), فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بفسخ الحج أو القران -لمن لم يسق الهدي- إلى عمرة، ليس دليلاً على أن فعلهم أفضل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك جبراً لخواطرهم، وللتأكيد بأن هذا شرع سوف يستمر إلى يوم الدين.

الحلق والتقصير في الحج

الفائدة الثالثة: لم يذكر جابر التقصير أو الحلق، والحلق هو ظاهر قوله: ( وأقيموا حلالاً ), وهذا يدل على أن الحلق قد اختلف العلماء فيه، هل هو نسك، أم محظور من محظورات الإحرام؟ أم هو محظور من محظورات الإحرام في وقت ونسك؟ ثلاث روايات كلها عند الإمام أحمد، أقربها -والله أعلم- أن الحلق محظور ونسك، محظور فلا يسوغ لامرئ أن يمس شيئاً من شعره في وقت الإحرام، ونسك في أنه يجب عليه أن يعمله, فإذا لم يعمله فإنه يجبره بدم، كما يحصل لبعض الناس حيث يطوف ويسعى، ثم يلبس ثيابه ويرجع إلى بلده، ويجلس شهراً أو أسبوعاً أو أسبوعين ثم يسأل.

فنقول: إن كان وقع بأهله، أو حلق من غير نية، أو طال الفصل بأن جلس شهرين أو ثلاثة أشهر، فإنه يجبره بدم، وإن كان الوقت قريباً فإننا نأمره أن يخلع ثياب المخيط ثم يقصر أو يحلق، ويكون بذلك قد تحلل، فإن فعل محظوراً من محظورات الإحرام جاهلاً أو ناسياً، سواء كان وطئاً أو غيره، فإنه لا حرج عليه، وهذا هو الأقرب، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله.

ومذهب الشافعي: أن الوطء إذا فعله الإنسان جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).

وقوله عليه الصلاة والسلام: ( وقصروا وأقيموا حلالاً ), مع أنه قال: ( اللهم اغفر للمحلقين، اللهم اغفر للمحلقين، اللهم اغفر للمحلقين ), قال أهل العلم: إذا كان بين العمرة والحج وقت قصير فإنه يستحب أن يقصر؛ لقوله: ( وقصروا وأقيموا حلالاً ), وإذا كان بين العمرة والحج وقت طويل بحيث ينبت شعر رأسه، فإن الأفضل في حقه الحلق؛ لعموم الأحاديث الدالة على أفضلية الحلق، هذا هو الأقرب والله أعلم.

فسخ القران أو الإفراد إلى عمرة

الفائدة الرابعة: قوله عليه الصلاة والسلام: ( وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ).

هذا يسمى عند العلماء فسخ القران والإفراد إلى عمرة، وهذا الفسخ ذهب المالكية والشافعية ومن وافقهم إلى أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإلا فمن أحرم بحج أو قران فلا يسوغ له أن يفسخه إلى عمرة، واستدلوا بما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: ( كانت العمرة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ), يعني بذلك: فسخ الحج والقران إلى عمرة.

والقول الثاني في المسألة، وهو مشهور مذهب الحنابلة أنه يجوز فسخ الإفراد أو القران إلى عمرة قبل الطواف بالبيت، فإن طاف بالبيت على أنه قارن أو مفرد قالوا: فلا يسوغ له أن يفسخه بعمرة، واستدلوا على ذلك بحديث جابر رضي الله عنه قال: ( حتى إذا قدمنا البيت قال: طوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وأقيموا حلالاً ), قالوا: فأمرهم بالفسخ قبل طوافهم بالبيت.

القول الثالث في المسألة، وهو الأقرب والله أعلم: أن فسخ القران والإفراد مستحب بأن يجعلها عمرة، وهذا هو مذهب أهل الحديث، وهو الذي نص عليه الإمام أحمد ، بل حينما قيل له: إن أبا ذر يقول: إنها لأصحاب النبي خاصة، قال: أو يقول هذا أحد, وهذا من غرائب الإمام أحمد أن يقول هذا، إلا أنه متأكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً، بل إن سلمة بن شبيب من تلامذة الإمام أحمد قال: يا أبا عبد الله! كل أمرك عندي حسن، إلا أنك قويت أهل الرفض؛ تقول بالمتعة، أو تقول بفسخ الحج إلى العمرة، فغضب الإمام أحمد وقال: يا سلمة ! كان الناس يقولون عنك: إنك أحمق، وكنت أدافع عنك، وما علمت أنك أحمق إلا هذه الساعة، عندي أحد عشر حديثاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتراني أدعها لقولك.

وهذه فائدة لطالب العلم أن أهل البدعة لو وافقونا في سنتنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فلا ضير، فما يدريك لعلهم يهتدون، فالإمام أحمد رحمه الله لم يبال بخلاف أحد حينما علم أن السنة واضحة في هذا.

قال أصحاب هذا القول: إنه يستحب الفسخ سواء كان قبل الطواف أو بعده، قالوا: أما قبل الطواف كما في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمرهم أن يتحللوا مرتين، قبل أن يطوفوا وبعد أن طافوا وسعوا ), أما قبل أن يطوفوا قال: (حتى إذا قدم إلى البيت قال: طوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا), هذا حديث رواه مسلم من حديث أبي موسى ، ورواه مسلم أيضاً من حديث جابر أنه قال: ( حتى إذا كان آخر طواف على المروة ), هذا يدل على أنه بعد الطواف والسعي، خلافاً لـابن قدامة رحمه الله حيث منع الفسخ بعد الطواف والسعي، قالوا: وهذا يدل على استحباب فسخ الحج أو القران إلى عمرة, إلا إذا خشي فوات الحج وهو عرفة, فإذا أمكن أن يتم عمرة قبل فوات عرفة، أو استحباب وقوفها في النهار أو بعد الزوال، فإنه يستحب له أن يفسخ.

القول الرابع: هو قول ابن حزم و ابن القيم ، ونسبوه إلى ابن عباس ، وفي نسبة القول إلى ابن عباس نظر كما سوف يتبين لك، قالوا بوجوب الفسخ وأن التمتع واجب، وقال ابن القيم في المجلد الثاني: ونحن نشهد الله على أنفسنا أنا لو أحرمنا بحج، لرأينا أن فرضاً علينا أن نفسخها إلى عمرة؛ تفادياً من غضب الله وغضب رسوله, فوالله ما نسخ الفسخ ولا جاء عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا القول قوي من ابن القيم رحمه الله، وإن كان الصواب هو جواز الأنساك الثلاثة كلها كما مر معنا, إلا أنا لم نذكر الخلاف هل هو واجب أو لا، وعلى هذا: فالصواب هو القول الثالث وهو اختيار ابن تيمية , أنه يستحب الفسخ قبل الطواف وبعد الطواف، وأن الأنساك الثلاثة كلها جائزة، خلافاً لـابن حزم و ابن القيم وبعض العلماء المعاصرين كالشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله.

ومما يبين لك أن الأنساك الثلاثة جائزة كلها:

أولاً: قول عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من شاء منكم أهل بعمرة، أو بعمرة وحج، أو بحج ), قالت عائشة : ( فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بعمرة وحج، ومنا من أهل بحج بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

الدليل الثاني: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم ), يعني: عيسى عليه الصلاة والسلام ( ليهلن ابن مريم بفج الروحاء, حاجاً أو معتمراً، أو ليثنينهما ), قوله (حاجاً) يعني: مفرداً (أو معتمراً), يعني: متمتعاً، (أو ليثنينهما), يعني: قارناً، ومعلوم أن عيسى بن مريم إذا نزل سوف ينزل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على بقاء التشريع النبوي.

أما نسبة هذا القول لـابن عباس , فـابن عباس رضي الله عنه يرى أن كل من طاف بالبيت فقد حل شاء أم أبى، فالمفرد والقارن لو أتيا البيت قبل عرفة فواجب عليهم أن يتحللوا من قرانهم أو من إفرادهم ليكونوا متحللين، أما لو أفردوا الحج أو صاروا قارنين ولم يأتوا البيت إلا بعد عرفة، فإنهم يكونون قارنين أو مفردين، وهذا هو الأقرب والله أعلم، فـابن عباس إنما منع أن يطوف الإنسان طواف القدوم فيجب عليه أن يتحلل؛ ولهذا قال: شاء أم أبى، وهذا القول لـابن عباس أظهر من تفسير ابن حزم و ابن القيم له، حيث إنهم يوجبون الفسخ مطلقاً.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: دخلت العمرة في الحج

المسألة الأخرى: قوله عليه الصلاة والسلام: ( دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد الأبد ).

معنى هذه العبارة ما قاله ابن القيم يعني: وجوب الفسخ، وقيل المعنى هو: ( أرأيت عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم لأبد الأبد ), فدل ذلك على أن السؤال: أرأيت مشروعية العمرة هنا لعامنا أم لأبد الأبد، فشبك بين أصابعه وقال: ( لأبد الأبد ), فهذا يدل على أن العمرة صارت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين، (بل لأبد أبد), فدل ذلك على استحباب الفسخ لا على وجوبه.

فإن قال قائل: ما تقولون في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة

نقول: كل من ساق الهدي يجب عليه أن يبقى على إحرامه حتى يتحلل منه يوم العيد؛ لما جاء في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سألته حفصة : ( ما بال الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر ), وعلى هذا فلو أهل بعمرة وقد ساق الهدي فيجب عليه أن يجعلها قراناً.

ولو أهل بإفراد وساق الهدي هل يكون قارناً أو مفرداً؟ الأقرب والله أعلم أنه يكون مفرداً.

أما قول بعض الشافعية وبعض الحنابلة: إن من ساق الهدي وهو متمتع جاز أن ينحر هديه قبل يوم العيد، فإن في هذا نظر، وإن كانوا قد استدلوا بأدلة منها: إذا جاز لمن لم يجد الهدي أن يصوم قبل يوم، فلأن يجوز أن ينحره من باب أولى؛ لأن البدل يأخذ حكم المبدل، والراجح: أنه لا يسوغ له أن ينحر هديه إلا إذا بلغ محله كما قال الله: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33], وهو يوم العيد، هذا هو الراجح.

وقت الصيام لمن لم يجد الهدي

المسألة الأخرى: من لم يجد الهدي، وعزم على الصوم فإن الحنابلة والحنفية ذهبوا إلى أن له أن يصوم من حين إحرامه بالعمرة؛ لقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196]، قالوا: فالعمرة سبب للتمتع، وإذا كان كذلك فيجوز تقديم السبب عن وقت الوجوب، ووقت الوجوب هو يوم العيد، قالوا: مثل النصاب سبب لوجوب الزكاة، ووقت وجوب الزكاة حين إتمام الحول، قالوا: وإذا بلغ نصاباً جاز أن يقدم الزكاة قبل الحول، فإذا وجد السبب جاز تقديمه عن وقت الوجوب، فكذلك قالوا في الحج، واستدلوا على هذا أيضاً كما قال ابن تيمية بأن عامة الصحابة الذين فسخوا الحج إلى عمرة أكثرهم ليس معه هدي، قال: وهم إنما أحرموا بالحج يوم الثامن, كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في صحيح مسلم ، قال جابر : ( فأهللنا بالبطحاء يوم الثامن ), قال: ومنهم من صام, فدل على أن صيامه قبل الحج، وقبل أن يحرم بالحج، وهذا القول أصح.

القول الثاني: قول الشافعية والمالكية لا يصوم حتى يحرم بالحج؛ لأن الله يقول: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:196]، فلا بد أن يكون صيامه في الحج. قالوا: وإذا كان كذلك فإذا لم يكن معه هدي فإنه يهل بالحج من اليوم الأول من ذي الحجة، أو يوم السابع قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، هكذا قال المالكية والشافعية، ولا شك أن هذا القول ليس بقوي كما قال ابن تيمية :

إن عامة الصحابة كانوا ليس معهم هدي، وأمروا بالصيام فصاموا، وإنما أهلوا بالحج يوم الثامن، فدل على أن صيامهم كان قبل إهلالهم بالحج.

عرفنا أن بداية الصيام من حين إحرامه بالعمرة، ومتى ينتهي؟

الأقرب والله أعلم هو قول الشافعية أن آخر يوم هو يوم التروية.

وإن كان الحنابلة يقولون: آخر يوم هو يوم عرفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح يوم عرفة مفطراً؛ لأنه أدعى لتورعه وإخباته وانكساره بين يدي الله.

لباس الزينة للمحرمة

يقول جابر: ( وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل, ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها ) هنا سؤال وهو: هل تمنع المرأة المحرمة من لباس معين؟

نقول: الأقرب والله أعلم أنه يجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت من أنواع الثياب، كما روى محمد بن إسحاق قال: حدثنا نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي موقوفاً عليه: أنه قال: ( ولتلبس -أي المحرمة- ما شاءت من خز وحلي ومعصفر وسراويل وخف ), فهذا يدل على أن المرأة لها أن تلبس أي شيء شاءت، وكذا رواه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( لا تتبرقع المحرمة، ولا تنتقب، ولا تتلثم, ولتلبس ما شاءت من معصفر وخز وحلي ), ولكن لا ينبغي للمرأة أن تلبس لباس زينة، لا لأنه محظور ولكن لأنه مكروه، فالأولى ألا تلبسه، ودليله هو قول علي : ( ولبست ثياباً صبيغاً ), يعني: متجملاً، فأنكر ذلك عليها، فقالت: ( أبي أمرني بذلك ), تعني: بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن المحرمة كانت ممنوعة من أن تتزين.

الكحل للمحرمة

وقوله: ( واكتحلت ), هل الكحل تمنع منه المحرمة أم لا؟

نقول: ينقسم الكحل إلى أقسام:

القسم الأول: ألا يكون بإثمد ولا بزينة يعني: ألا يكون كحلاً فيه طيب ولا يكون فيه زينة؛ بل يكون للدواء، وقد كانوا في الأول يضعونه بأن يضمدهما بالصبر يعني: للعلاج، يضع قطرة أو أي شيء على العين، هذا يسمى كحلاً، لكن ليس بلازم أن يصير كحلاً أسود، بل يمكن أن يكون أحمر، فهذا لا بأس به، كما روى عن عمر بن عبيد الله أنه اشتكى عينيه، فذهب إلى أبان بن عثمان فأمره أن يضمدهما بالصبر، وأخبره أن عثمان رضي الله عنه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( في المحرم يشتكى عينيه أن يضمدهما بالصبر ), وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وإن كان أبو حاتم أنكر سماع أبان بن عثمان من عثمان رضي الله عنه.

القسم الثاني: أن يضمدهما بالإثمد، فالإثمد إذا كان مطيباً فيمنع منه المحرم؛ لأن فيه طيباً، وإذا لم يكن فيه طيب فإن ذلك مكروه على الراجح.

القسم الثالث: إذا كان ليس فيه طيب ولكن فيه زينة، فإن ذلك أيضاً مكروه، ودليل الكراهة:

أولاً: أن علياً رضي الله عنه أنكر على فاطمة رضي الله عنها، والرسول صلى الله عليه وسلم صدقه، قال: ( فأنكرت ذلك عليها ... ), وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لـفاطمة أن تكتحل بعد ما تحللت، فهذا دليل على أن الأولى أنها لا تصنع هذا.

الثاني: (أن شميسة -امرأة- اشتكت عينيها، فسألت عائشة أن تكتحل بالإثمد، فقالت عائشة رضي الله عنها: اكتحلي بأي كحل شئت، غير ألا يكون بالإثمد، أما إنه ليس بحرام ولكنا نكرهه), إذا ثبت هذا فإن الشافعي رضي الله عنه ورحمه قال: فإن فعلا، -أي المحرم رجلاً كان أو امرأة- فلا أعلم أحداً قال بأن عليهما الفدية، ونقله أيضاً ابن قدامة مقرراً له وقال: لا أعلم خلافاً، وقد وجدت عند ابن أبي شيبة من طريق يزيد بن ميسرة عن قتادة قال: سألت امرأة عبد الرحمن بن أبي بكر و عبد الله بن عمر : في أنها اكتحلت وهي محرمة، فأمرها عبد الرحمن بن أبي بكر : أن تهريق دماً، هذا يدل على أن نقل الإجماع محل تأمل، نعم قد نقول بأن الإجماع ثابت؛ لأن قتادة لم يسمع من أحد من الصحابة، فيكون الإجماع على محله، والعلم عند الله.

من أحرم من غير تعيين النسك

قال: ( صدقت صدقت, ماذا قلت حين فرضت الحج؟ ) يعني: حينما أحرمت بالحج، (قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك) أي: يجوز للمحرم أن يحرم من غير نية أحد الأنساك، ولكن له أن يجعله بعد ذلك.

وقال الحنابلة: إنه لو أحرم من غير تعيين أحد الأنساك صح إحرامه؛ لكن لو طاف قبل أن يعين فلا يصح طوافه؛ لأنه لم يحدد، هكذا قالوا.

والأقرب والله أعلم صحة ذلك؛ وذلك لأن الصحابة طافوا طواف القدوم وهو سنة في حقهم، فلما كان آخر طواف على المروة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا هذا الطواف طواف ركن عمرة، فدل ذلك على صحة أن يحرم الإنسان من غير نية حتى لو طاف، فله أن يقربه بعد ذلك.

حالات الإهلال بما أهل به الغير

المسألة الأخرى: يجوز للإنسان أن يهل بما أهل به زيد، وفي ذلك أحوال:

الحال الأولى: إذا لم يكن قد أهل زيد أصلاً، يعني قال: اللهم إني أهللت بما أهل به زيد، وكان زيد لم يحج هذا السنة، فنقول: يجوز أن يجعلها أي شيء شاء.

الحال الثانية: أن يقول: اللهم إني أهللت بما أهل به زيد, فوجد زيداً ممن ساق الهدي وهو لم يسق الهدي، فنقول: يجوز أن تجعلها قراناً ويجوز أن تجعلها تمتعاً؛ لأنه يجوز أن تقلبها تمتعاً، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( بم أهللت؟ قال: اللهم إني أهللت بما أهل به رسولك، قال: فإني قد سقت الهدي ) يعني: وأنت لم تسق الهدي, ( فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة، ثم قصر، وأقم حلالاً ).

الحال الثالثة: أن يقول: اللهم إني أهللت بما أهل به زيد، فكان زيد متمتعاً، فهل له أن يكون مفرداً؟

نقول: لا، ليس له أن يكون مفرداً؛ لأنه أخذ بالأعلى، فيجب عليه أن يكون متمتعاً، نعم يجوز أن يدخل الحج على العمرة إذا عجز عن الوصول إلى البيت كما صنعت عائشة رضي الله عنها.

قال جابر: (حتى إذا كان آخر طوافه على المروة)، في هذا فوائد:

الفائدة الأولى: أن المستحب في حق المحرم الذي طاف بين الصفا والمروة في آخر طواف على المروة ألا يقول شيئاً، لا يدعو ولا يستقبل القبلة، وهذا بخلاف آخر شوط من الطواف بالبيت، فإنه يستقبل الحجر ويستلمه أو يشير إليه كما مر معنا، أما على المروة فإنه لا يدعو؛ لأن ظاهر الحديث أنه إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ).

الفائدة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ), لم يكن هذا ابتداء ولكن جاءت روايات تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حينما أشكل عليهم أن يتحللوا من حجهم قال جابر : ( حتى إذا كنا على المروة قال النبي صلى الله عليه وسلم: طوفوا بالبيت ), يقول جابر : ( حتى إذا قدمنا البيت، قال: طوفوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا، وأقيموا حلالاً, فقالوا: أي الحل؟ قال: الحل كله, قالوا: يا رسول الله! تقطر مذاكيرنا، ثم نذهب إلى عرفة ), كما في رواية البخاري : قال: ( افعلوا ما آمركم به، فإني لولا أني سقت الهدي ), فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بفسخ الحج أو القران -لمن لم يسق الهدي- إلى عمرة، ليس دليلاً على أن فعلهم أفضل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك جبراً لخواطرهم، وللتأكيد بأن هذا شرع سوف يستمر إلى يوم الدين.

الفائدة الثالثة: لم يذكر جابر التقصير أو الحلق، والحلق هو ظاهر قوله: ( وأقيموا حلالاً ), وهذا يدل على أن الحلق قد اختلف العلماء فيه، هل هو نسك، أم محظور من محظورات الإحرام؟ أم هو محظور من محظورات الإحرام في وقت ونسك؟ ثلاث روايات كلها عند الإمام أحمد، أقربها -والله أعلم- أن الحلق محظور ونسك، محظور فلا يسوغ لامرئ أن يمس شيئاً من شعره في وقت الإحرام، ونسك في أنه يجب عليه أن يعمله, فإذا لم يعمله فإنه يجبره بدم، كما يحصل لبعض الناس حيث يطوف ويسعى، ثم يلبس ثيابه ويرجع إلى بلده، ويجلس شهراً أو أسبوعاً أو أسبوعين ثم يسأل.

فنقول: إن كان وقع بأهله، أو حلق من غير نية، أو طال الفصل بأن جلس شهرين أو ثلاثة أشهر، فإنه يجبره بدم، وإن كان الوقت قريباً فإننا نأمره أن يخلع ثياب المخيط ثم يقصر أو يحلق، ويكون بذلك قد تحلل، فإن فعل محظوراً من محظورات الإحرام جاهلاً أو ناسياً، سواء كان وطئاً أو غيره، فإنه لا حرج عليه، وهذا هو الأقرب، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله.

ومذهب الشافعي: أن الوطء إذا فعله الإنسان جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).

وقوله عليه الصلاة والسلام: ( وقصروا وأقيموا حلالاً ), مع أنه قال: ( اللهم اغفر للمحلقين، اللهم اغفر للمحلقين، اللهم اغفر للمحلقين ), قال أهل العلم: إذا كان بين العمرة والحج وقت قصير فإنه يستحب أن يقصر؛ لقوله: ( وقصروا وأقيموا حلالاً ), وإذا كان بين العمرة والحج وقت طويل بحيث ينبت شعر رأسه، فإن الأفضل في حقه الحلق؛ لعموم الأحاديث الدالة على أفضلية الحلق، هذا هو الأقرب والله أعلم.