حديث جابر في صفة حج النبي [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً وعملاً يا كريم, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, اللهم لا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

وبعد:

تحدثنا أيها الإخوة عن الخطبة وما فيها من فوائد، ثم وقفنا عند قوله: (ثم أذن ثم أقام).

قال جابر رضي الله عنه: (ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر, ثم أقام فصلى العصر, ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف, فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات, وجعل حبل المشاة بين يديه, واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس, وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص).

الجمع بين الروايات المختلفة في الإقامة لصلاتي الظهر والعصر بعرفة

يقول: (ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر, ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً).

في هذه العبارة فوائد:

الفائدة الأولى: أنه يستحب لمن أراد أن يصلي صلاتين مما يجمع لها في وقت إحداهما أن يؤذن أذاناً واحداً ويقيم إقامتين؛ وذلك لأن الأذان هو الدعاء إلى المسجد لأداء الصلاة, وأما الإقامة فهي الدعاء للصلاة نفسها؛ فلهذا استحب أن يعيد الإقامة مرتين, وأما الأذان فلا يعيده إلا مرة واحدة, هذه هي أصح الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وأرجحها, ما جاء عند مسلم من حديث ابن عمر أنه جمع في مزدلفة بأذان واحد وإقامة فهذا محمول على أن ابن عمر رضي الله عنه ورحمه لم تبلغه الإقامة الثانية ولم يسمعها.

الجمع بين صلاتي الظهر والعصر بعرفة

ومن السنن التي أجمع أهل العلم عليها أنه يستحب صلاة الظهر والعصر في عرفة جمع تقديم, بل ذهب الأحناف إلى أنه لو صلاها في غير عرفة لم يصح, ووجب أن يعيدها كما ذكر ذلك المرغيناني الحنفي وغيرهم؛ وذلك أنهم يرون أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين إلا في عرفة ومزدلفة, وما عدا ذلك فهو جمع صوري, ومعنى الجمع الصوري أن يؤخر صلاة الظهر مثلاً إلى قبيل خروجها, فيصليها, فإذا سلم يكون قد دخل وقت العصر فيصلي العصر في وقتها والظهر في وقتها, وكذلك يقال في المغرب والعشاء, هذا يسمونه الجمع الصوري.

والصحيح والأقرب والله أعلم أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر في إحداهما وكذلك المغرب والعشاء في إحداهما, ولا أعلم دليلاً صحيحاً صريحاً في جواز أن يجمع المسافر بين الصلاتين وقد أقام غير جمعه عليه الصلاة والسلام في عرفة ومزدلفة, وما جاء في حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في تبوك فأخر الظهر ثم صلى العصر والظهر جميعاً ثم دخل ثم خرج بعدما خرج المغرب, ثم صلى المغرب والعشاء فهذا الحديث ضعفه الإمام البخاري رحمه الله وإن كان أصله في مسلم.

التعليق على ما اعتقده ابن حزم من كونه عليه الصلاة والسلام صلى الجمعة بعرفة

الفائدة الثانية: أبعد ابن حزم رحمه الله فظن أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هنا إنما هي صلاة جمعة وليست صلاة ظهر, فاستحب الجهر بها, ورأى أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت خطبته لأنها خطبة جمعة, وقد أبعد رحمه الله, حيث إنه يرى أنه يجب على المسافر أن يصلي الجمعة, والذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة وغيرهم أنه لا جمعة على مسافر, ولو صلى مسافرون الجمعة ما صحت في حقهم, إلا أن يصلي معهم مقيمون في البلد، يعني: لو أن شباباً ذهبوا رحلة إلى أبها مثلاً, وقالوا: ما دمنا الآن مائة شخص فإننا نقيم جمعة ونجعل واحداً يخطب بيننا, ما صحت صلاتهم؛ لأنه يشترط فيها الاستيطان, وهم لم يستوطنوا هذا البلد, وأما ابن حزم فقد أبعد, فقد نص جابر رضي الله عنه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هنا صلاة ظهر وليست صلاة جمعة.

الواجب على من دخل عليه الظهر يوم عرفة وهو بمكة

ويجب أن يعلم أنه لا يستحب للإنسان أن يصلي الظهر والعصر إلا بعرفة, ولا ينبغي له أن يخالف السنة بأن يجمعهما جمع تأخير, فمثلاً لو أن شخصاً جاء إلى البيت, فطاف وسعى وقد أذن الظهر في الحرم، فهل له أن يصلي في الحرم أم يذهب إلى عرفة فيصلي الظهر والعصر في عرفة؟

عامة الفقهاء قالوا: يصلي الظهر والعصر في عرفة, إذا كان وقت الظهر ما زال, أما إذا خشي خروج وقت الظهر فهل له أن يصليها في عرفة جمع تأخير, أم يصليها خارج عرفة جمع تقديم؟ محل بحث وتأمل, وأنا لم يتبين لي أي القولين أظهر, وإن كان في الذهن قول, لكني لم أتبينه بعد.

صفة وقوف النبي عليه الصلاة والسلام بعرفة

يقول جابر : (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف).

يعني: حتى أتى الموقف الذي وقفه, وإلا فإن عرفة كلها موقف, والموقف الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم بينه جابر, فقال: (فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات, وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة), حبل المشاة هم الجموع من الناس, وقيل: حبل المشاة هو مجمع الرمال الذي يكون تحته طريق يمر فيه المشاة, والعبارتان محتملتان, والأقرب أن حبل المشاة هو الجموع من الناس, كي يراه الناس وليقتدوا به.

البقاء بعرفة حتى غروب الشمس

يقول: (واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس).

وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للمسلم ألا يضيع وقته في القيل والقال, وكثرة السؤال, وإضاعة الوقت بالأحاديث الجانبية أو الأكل والشرب؛ لأنه وقت عظيم يباهي الله بك ملائكته, فإياك إياك! أن تضيع دقيقة من عمرك في مثل هذا الموطن العظيم الذي يباهي الله فيه بالحجيج ملائكته.

وأما قوله: (فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس), مر معنا أن من دخل عرفة قبل غروب الشمس وجب عليه على قول عامة الفقهاء أن يبقى إلى غروب الشمس, وقلنا: هو مذهب الحنابلة والحنفية والمالكية وقول عند الشافعية, بل قلنا إنه حكي عن مالك أنه من خرج من عرفة في النهار ولم يحصل على شيء من الليل فحجه فاسد، قال ابن عبد البر : ولا يصح عن مالك والعلم عند الله, لكن المالكية يأخذون به.

وذهب الشافعي رحمه الله في قول, وهو قول عطاء إلى أنه ينبغي له ألا يخرج من عرفات حتى غروب الشمس, فلو خرج من عرفات قبل غروب الشمس لم يلزمه شيء, واستدلوا على ذلك بما جاء في السنن كــ أبي داود و النسائي وغيرهما من حديث عروة بن مضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى نبدأ, وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه ), قالوا: فإذا وقف بعرفة نهاراً فقد تم حجه فلا يلزمه شيء.

ولكننا نقول: الأقرب والله أعلم أنه لا يخرج حتى تغرب الشمس, فلو فعل ألزمناه أن يذهب فيرجع, فإن لم يرجع فنقول: أساء ولا عليه شيء, ولو قيل بالوجوب وأن عليه دماً إن خالف كما هو مذهب الجمهور فهو أحوط وأولى؛ وذلك لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فقد تم حجه وقضى تفثه ), لا يقصد به أنه فعل الواجبات والأركان, لأننا أجمعنا نحن والشافعية -يعني: أصحاب القول الأول والشافعية- أن عليه واجبات لم تحصل بعد, مثل رمي جمرة العقبة, وأيام الجمار والمبيت بمنى, وطواف الإفاضة, فقول النبي: ( فقد تم حجه وقضى تفثه ), يعني: أنه أدرك الحج؛ لأن الحج عرفة, وهذا القول أظهر؛ أن بقاءه إلى غروب الشمس واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ولم يخرج حتى غربت الشمس, وقال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199], وكلمة: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199], لها معنيان, يعني: من المكان الذي أفاض الناس غير الحمس فيكون مكاني, أو من حيث أفاض الناس من وقت إفاضة الناس معك يا محمد صلى الله عليه وسلم! فيكون زمناً.

صفة خروجه صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة

يقول: (وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام, حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله, ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة, السكينة, كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد, حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين, ولم يسبح بينهما شيئاً, ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر, وصلى الفجر حين تبين).

يقول: (وأردف أسامة خلفه).

النبي صلى الله عليه وسلم من حكمته بأبي هو وأمي أنه يقيم معه بعض الصحابة الأفذاذ النبلاء النجباء حتى ينقلوا لمن جاء بعده ما صنع, فأردف الفضل من مزدلفة إلى منى, وأرف أسامة من عرفات إلى المزدلفة, قال الراوي وهو جابر : (وأردف أسامة خلفه), وصنع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مسائله كما روى لنا أسامة قال: ( فأتى الوادي الذي ينيخ الناس فيه للمغرب, فبال وتوضأ وضوءًا بين الوضوئين فقلت: يا رسول الله! الصلاة, قال: الصلاة أمامك ), قال عروة قلت لـأسامة : (كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حين خروجه من عرفة إلى مزدلفة, قال: كان يسير العنق), ومعنى العنق يعني: الرويد, (فإذا وجد فجوة -يعني: مكاناً وفرجة- نص), يعني: أسرع, وهذا هو السنة في الذهاب والخروج من عرفة إلى مزدلفة, أن الإنسان يكون حين خروجه عليه السكينة.

والواقع يا إخوان! أن كثيراً من الحملات لا تطبق هذا الأمر, بل إننا نشاهد أن كثيراً من الحجاج يبالغون في أهمية وصولهم إلى مزدلفة كيفما اتفق, بغضب أو غير غضب, المهم أن يصل إلى مزدلفة مبكراً, بل إن بعضهم يتمدح بأن الحملة الفلانية وصلت الساعة الفلانية, والحملة الفلانية وصلت الساعة الفلانية, لكنهم لم يسألوا: كيف وصلت؟ ولهذا ينبغي للإنسان أن يلتزم توجهه صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث ابن عباس يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده: ( أيها الناس! السكينة السكينة, إن البر ليس بإيضاع الإبل ), يعني: ليس بسرعة الإبل, ليس البر أن تصل مبكراً أو تصل متأخراً, البر أن يكون سمتك وهديك وطريقتك وفعلك على هدي محمد صلى الله عليه وسلم, فانظروا إليه بأبي هو وأمي (وقد شنق للقصواء الزمام -يعني: شد زمامها- حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله عليه الصلاة والسلام, وهو يقول بيده: أيها الناس! السكينة, السكينة).

فينبغي أن يلحظ الحاج هذا المعنى سواء عند خروجه من عرفات إلى مزدلفة, أو في ذهابه ووجود مشقة زحام وغير ذلك، كما قال قدامة بن عبد الله : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة لا ضرب ولا طرد, ولا إليك إليك ), وهذا يحس به الإنسان حينما يمشي وعليه السكينة ويستشعر أنه يطبق سنة محمد صلى الله عليه وسلم, وأنه يذكر الله بمشيه, حتى لو لم يذكر الله فهو يذكر الله؛ ( إنما جعل الطواف بالبيت ورمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله ), كما رواه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها وإن كان في سنده بعض الكلام, والصواب وقفه على عائشة.

يقول: (ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر, ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً).

في هذه العبارة فوائد:

الفائدة الأولى: أنه يستحب لمن أراد أن يصلي صلاتين مما يجمع لها في وقت إحداهما أن يؤذن أذاناً واحداً ويقيم إقامتين؛ وذلك لأن الأذان هو الدعاء إلى المسجد لأداء الصلاة, وأما الإقامة فهي الدعاء للصلاة نفسها؛ فلهذا استحب أن يعيد الإقامة مرتين, وأما الأذان فلا يعيده إلا مرة واحدة, هذه هي أصح الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وأرجحها, ما جاء عند مسلم من حديث ابن عمر أنه جمع في مزدلفة بأذان واحد وإقامة فهذا محمول على أن ابن عمر رضي الله عنه ورحمه لم تبلغه الإقامة الثانية ولم يسمعها.

ومن السنن التي أجمع أهل العلم عليها أنه يستحب صلاة الظهر والعصر في عرفة جمع تقديم, بل ذهب الأحناف إلى أنه لو صلاها في غير عرفة لم يصح, ووجب أن يعيدها كما ذكر ذلك المرغيناني الحنفي وغيرهم؛ وذلك أنهم يرون أنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين إلا في عرفة ومزدلفة, وما عدا ذلك فهو جمع صوري, ومعنى الجمع الصوري أن يؤخر صلاة الظهر مثلاً إلى قبيل خروجها, فيصليها, فإذا سلم يكون قد دخل وقت العصر فيصلي العصر في وقتها والظهر في وقتها, وكذلك يقال في المغرب والعشاء, هذا يسمونه الجمع الصوري.

والصحيح والأقرب والله أعلم أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر في إحداهما وكذلك المغرب والعشاء في إحداهما, ولا أعلم دليلاً صحيحاً صريحاً في جواز أن يجمع المسافر بين الصلاتين وقد أقام غير جمعه عليه الصلاة والسلام في عرفة ومزدلفة, وما جاء في حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في تبوك فأخر الظهر ثم صلى العصر والظهر جميعاً ثم دخل ثم خرج بعدما خرج المغرب, ثم صلى المغرب والعشاء فهذا الحديث ضعفه الإمام البخاري رحمه الله وإن كان أصله في مسلم.

الفائدة الثانية: أبعد ابن حزم رحمه الله فظن أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هنا إنما هي صلاة جمعة وليست صلاة ظهر, فاستحب الجهر بها, ورأى أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت خطبته لأنها خطبة جمعة, وقد أبعد رحمه الله, حيث إنه يرى أنه يجب على المسافر أن يصلي الجمعة, والذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة وغيرهم أنه لا جمعة على مسافر, ولو صلى مسافرون الجمعة ما صحت في حقهم, إلا أن يصلي معهم مقيمون في البلد، يعني: لو أن شباباً ذهبوا رحلة إلى أبها مثلاً, وقالوا: ما دمنا الآن مائة شخص فإننا نقيم جمعة ونجعل واحداً يخطب بيننا, ما صحت صلاتهم؛ لأنه يشترط فيها الاستيطان, وهم لم يستوطنوا هذا البلد, وأما ابن حزم فقد أبعد, فقد نص جابر رضي الله عنه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هنا صلاة ظهر وليست صلاة جمعة.

ويجب أن يعلم أنه لا يستحب للإنسان أن يصلي الظهر والعصر إلا بعرفة, ولا ينبغي له أن يخالف السنة بأن يجمعهما جمع تأخير, فمثلاً لو أن شخصاً جاء إلى البيت, فطاف وسعى وقد أذن الظهر في الحرم، فهل له أن يصلي في الحرم أم يذهب إلى عرفة فيصلي الظهر والعصر في عرفة؟

عامة الفقهاء قالوا: يصلي الظهر والعصر في عرفة, إذا كان وقت الظهر ما زال, أما إذا خشي خروج وقت الظهر فهل له أن يصليها في عرفة جمع تأخير, أم يصليها خارج عرفة جمع تقديم؟ محل بحث وتأمل, وأنا لم يتبين لي أي القولين أظهر, وإن كان في الذهن قول, لكني لم أتبينه بعد.

يقول جابر : (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف).

يعني: حتى أتى الموقف الذي وقفه, وإلا فإن عرفة كلها موقف, والموقف الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم بينه جابر, فقال: (فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات, وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة), حبل المشاة هم الجموع من الناس, وقيل: حبل المشاة هو مجمع الرمال الذي يكون تحته طريق يمر فيه المشاة, والعبارتان محتملتان, والأقرب أن حبل المشاة هو الجموع من الناس, كي يراه الناس وليقتدوا به.

يقول: (واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس).

وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للمسلم ألا يضيع وقته في القيل والقال, وكثرة السؤال, وإضاعة الوقت بالأحاديث الجانبية أو الأكل والشرب؛ لأنه وقت عظيم يباهي الله بك ملائكته, فإياك إياك! أن تضيع دقيقة من عمرك في مثل هذا الموطن العظيم الذي يباهي الله فيه بالحجيج ملائكته.

وأما قوله: (فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس), مر معنا أن من دخل عرفة قبل غروب الشمس وجب عليه على قول عامة الفقهاء أن يبقى إلى غروب الشمس, وقلنا: هو مذهب الحنابلة والحنفية والمالكية وقول عند الشافعية, بل قلنا إنه حكي عن مالك أنه من خرج من عرفة في النهار ولم يحصل على شيء من الليل فحجه فاسد، قال ابن عبد البر : ولا يصح عن مالك والعلم عند الله, لكن المالكية يأخذون به.

وذهب الشافعي رحمه الله في قول, وهو قول عطاء إلى أنه ينبغي له ألا يخرج من عرفات حتى غروب الشمس, فلو خرج من عرفات قبل غروب الشمس لم يلزمه شيء, واستدلوا على ذلك بما جاء في السنن كــ أبي داود و النسائي وغيرهما من حديث عروة بن مضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى نبدأ, وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه ), قالوا: فإذا وقف بعرفة نهاراً فقد تم حجه فلا يلزمه شيء.

ولكننا نقول: الأقرب والله أعلم أنه لا يخرج حتى تغرب الشمس, فلو فعل ألزمناه أن يذهب فيرجع, فإن لم يرجع فنقول: أساء ولا عليه شيء, ولو قيل بالوجوب وأن عليه دماً إن خالف كما هو مذهب الجمهور فهو أحوط وأولى؛ وذلك لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فقد تم حجه وقضى تفثه ), لا يقصد به أنه فعل الواجبات والأركان, لأننا أجمعنا نحن والشافعية -يعني: أصحاب القول الأول والشافعية- أن عليه واجبات لم تحصل بعد, مثل رمي جمرة العقبة, وأيام الجمار والمبيت بمنى, وطواف الإفاضة, فقول النبي: ( فقد تم حجه وقضى تفثه ), يعني: أنه أدرك الحج؛ لأن الحج عرفة, وهذا القول أظهر؛ أن بقاءه إلى غروب الشمس واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ولم يخرج حتى غربت الشمس, وقال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199], وكلمة: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199], لها معنيان, يعني: من المكان الذي أفاض الناس غير الحمس فيكون مكاني, أو من حيث أفاض الناس من وقت إفاضة الناس معك يا محمد صلى الله عليه وسلم! فيكون زمناً.