الجور بالقول [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله.. اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

معاشر المؤمنين.. تحدثنا في الخطبة قبل الماضية عن العدل والإنصاف في النظر والحكم على الأشخاص والمجتمعات والهيئات والذوات، ومر بنا الحديث عن خطورة العجلة وإطلاق اللسان في الأمور قبل إدراكها وسبر أغوارها، وأن السلامة من الهوى مظنة الحكم بالعدل والحق، وإذا أعمل الرجل عقله ولبه ونبذ تقليد الرجال بغير دليل وبات جريئاً في السؤال لإدراك أبعاد الأمور دون هز الرءوس عند أدنى المسلمات، والاكتفاء بذلك عن التحقيق والتنقيب للوصول إلى حقائق الأمور وجوهرها.

والكلام اليوم بعون الله تعالى في تتمة هذا الأمر، فاعلموا يا عباد الله أن من أسباب الجور في الحكم ومن أسباب قلة التوفيق إلى العدل: أن يفترض الناظر العصمة في مجتمعه وأفراده ومن حوله، والهيئات والمؤسسات العاملة فيه، وبمعنى آخر: ألا يتصور حدوث الخطأ والزلل من قبيله وقرينه ومن حوله، متناسياً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)ولو صح أن العصمة موجودة في البشر، وأن من حولك لا يخطئون، وأن من صلح لا يمكن أن يحدث منه الزلل والخطيئة، لو صح ذلك، فما منزلة ومكانة آيات التوبة والمغفرة والأحاديث الواردة في ذلك؟ أليس ورود هذه الآيات دليل صريح على أن في المؤمنين من يعصي ويستغفر، ويزل ويتوب، ويخطئ وينيب؟

أيها الأحبة.. فأما الزلة والخطيئة فمعفو عنها بالتوبة والاستغفار، ومعفو عنها بالحسنات الماحية للسيئات، قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] وأما الخطأ الصادر عن اجتهاد أراد صاحبه الحق فلم يوفق إليه؛ فذاك معفو عنه، وأما من عرف خطأه وضلاله، لفساد منهجه وخبث طويته وإصراره على ذلك؛ فذاك الذي ينبغي مناصحته وأمره ونهيه بالسبل والوسائل الشرعية المفضية إلى تحصيل المقصود بالمعروف دون حدوث المنكر، أو زيادة في حجم المنكر، وبالجملة فإن قليل السيئات مغفور مع كثير الحسنات، وحسبك ألا معصوم إلا نبي فيما يبلغ عن ربه، وكفى المرء نبلاً أن تعد زلاته، وصدق القائل:

إذا أنت لم تصبر مراراً على القذى     ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

فعش واحداً أو صل أخاك فإنه     مقارف ذنب مرة أو مجانبه

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها     كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

قال ابن الأثير الجزري رحمه الله: وإنما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء.

ويقول ابن القيم رحمه الله: وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً؟ لكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته.

واعلموا أيها الأحبة أن مما يوقع في الجور وسوء الحكم والفهم أن ينظر الواحد بعين لا ترى إلا المساوئ دون المحاسن..

شر الورى بمساوئ الناس مشتغل     مثل الذباب يراعي موقع الخلل

إن من لا يرى إلا المساوئ دون المحاسن إن ذلك مما يوقع في الجور وسوء الفهم، وإن مما يوقع في المداهنة والنفاق وفساد التصور، ألا يرى الواحد إلا المحاسن دون المساوئ، وكل هذين خطأ:

فلا تكن فيها مفرطاً أو مفرَّطاً     كلا طرفي قصد الأمور ذميم

فإما أن ترى راضين مُسلِّمين لا يظنون أن في الإمكان خيراً مما كان أو مما يرون أو يسمعون، أو ترى ساخطين لا يرون أن فيما يرون ويسمعون شيئاً من الخير أو الصواب، ولو رأوا خيراً أولوه، ولو رأوا صواباً على شر حملوه، وهم كما قال القائل:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة     كما أن عين السخط تبدي المساويا

والصواب والحق في هذا -أيها الإخوة- أن الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات أمر مطلوب، وإليك النصوص والأدلة الواضحة من القرآن والسنة التي تدل على أن العدل كل العدل في كلام الله ورسوله الذي يقرر هذه الموازنة ويذكر الحسنات والسيئات..

العدل مع أهل الكتاب

قال تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وهم اليهود والنصارى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] فهؤلاء اليهود الذين تعلمون ما كان منهم، فقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64].. إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181].

أيها الأحبة.. هؤلاء الذين تجرءوا على ذات الله إن ذلك كله لم يمنع من العدل الإلهي أن يذكر فيهم طائفة إذا ائتمنوا بقنطار -بجبل من الذهب- أدوه، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك، فالله جل وعلا يذم اليهود من حيث العموم، ونحن نقرأ في الفاتحة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فاليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون، ولكنه في الوقت ذاته يبين ربنا جل وعلا بأن بعضهم يلتزم بأداء الأمانة ولا يخونها؛ ولهذا قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أي: بغضاء وكراهية قوم عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] واسمعوا هذه الصحاح التي نقلت عن بني إسرائيل، الذين ذكر من شأنهم ما ذكر من تركهم الأمر والنهي والتلاهي، وذكر ما ذكر فيهم من اللعنة: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78] فهم بالعموم وبالجملة قد ذكروا في معرض الذم والتثريب على سوء فعلهم، ولكن لا يمنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر أن فيهم من إذا اؤتمن أدى الأمانة، ومن إذا اقترض أدى ما عليه، ورد في صحيح البخاري حديث طويل في رجل من بني إسرائيل استقرض من صاحب له ألف دينار إلى أجل مسمى، فلما جاء الأجل، وأراد ذلك الرجل أن يؤدي القرض ويؤدي الدين، التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها ورمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو يلتمس مراراً مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظر لعل مركباً قد جاء بماله -أي أن الذي أقرض ذلك الرجل خرج ينتظر غريمه، لعله يأتي بالدين- فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه وأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي جئت به. قال الآخر: فإن الله قد أدى عنك، بعثت بالخشب، فانصرف بالألف دينار راشداً.

وإن كان يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة قد لا توجد في بعض المنتسبين إلى الإسلام كما قال تعالى في الآية التي ذكرناها آنفاً: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75].

موازنة الشرع بين الحسنات والسيئات

والدليل الثاني: قوله الله جل وعلا في شأن الموازنة بين الحسنات والسيئات، وأن ما ترى من شر، لا يمنع أن تذكر الخير فيما ترى، قال تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] فالله سبحانه أثبت النفع في الخمر والميسر، ولكنه حرمها لغلبة المفاسد على المحاسن، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير والشر، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أثبت الخيرية لبعض القوم على الرغم من وجود الدخن في الخير الذي عندهم، فالعبرة بكثرة المحاسن.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه عبد الله ، وكان يلقب "حماراً" وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) فهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه زلت قدمه وتكرر شرب الخمر منه، ولكن هذا لا يعني فساده بالكلية، بل فيه من الصفات الحميدة الأخرى ما يوجب محبته وموالاته، فيعرف للمحسن إحسانه وللمسيء إساءته إتماماً للعدل والإنصاف.

ولا يجوز بحال أن يغلب جانب النظر إلى المعصية دون النظر إلى بقية الحسنات والفضائل، وهذا حد فاصل بين أهل السنة والخوارج، إذ أن أهل السنة يحبون الرجل من وجه ويبغضونه من وجوه، أو يحبونه من وجوه ويبغضونه من وجه، وقد يجتمع في الواحد حب وبغض في آن واحد، قال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه لما جاءه الشيطان يحثو ويسرق من مال الصدقة وذكره وعلمه آية الكرسي لتحفظه من الشيطان قال: (أما إنه صدقك وهو كذوب) فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت الصدق للشيطان، الذي ديدنه الكذب في تلك الحالة، فلم يمنع ذلك من تقبل الخير الذي دل عليه.

قال تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وهم اليهود والنصارى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] فهؤلاء اليهود الذين تعلمون ما كان منهم، فقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64].. إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181].

أيها الأحبة.. هؤلاء الذين تجرءوا على ذات الله إن ذلك كله لم يمنع من العدل الإلهي أن يذكر فيهم طائفة إذا ائتمنوا بقنطار -بجبل من الذهب- أدوه، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك، فالله جل وعلا يذم اليهود من حيث العموم، ونحن نقرأ في الفاتحة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فاليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون، ولكنه في الوقت ذاته يبين ربنا جل وعلا بأن بعضهم يلتزم بأداء الأمانة ولا يخونها؛ ولهذا قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أي: بغضاء وكراهية قوم عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] واسمعوا هذه الصحاح التي نقلت عن بني إسرائيل، الذين ذكر من شأنهم ما ذكر من تركهم الأمر والنهي والتلاهي، وذكر ما ذكر فيهم من اللعنة: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78] فهم بالعموم وبالجملة قد ذكروا في معرض الذم والتثريب على سوء فعلهم، ولكن لا يمنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر أن فيهم من إذا اؤتمن أدى الأمانة، ومن إذا اقترض أدى ما عليه، ورد في صحيح البخاري حديث طويل في رجل من بني إسرائيل استقرض من صاحب له ألف دينار إلى أجل مسمى، فلما جاء الأجل، وأراد ذلك الرجل أن يؤدي القرض ويؤدي الدين، التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها ورمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو يلتمس مراراً مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظر لعل مركباً قد جاء بماله -أي أن الذي أقرض ذلك الرجل خرج ينتظر غريمه، لعله يأتي بالدين- فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه وأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي جئت به. قال الآخر: فإن الله قد أدى عنك، بعثت بالخشب، فانصرف بالألف دينار راشداً.

وإن كان يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة قد لا توجد في بعض المنتسبين إلى الإسلام كما قال تعالى في الآية التي ذكرناها آنفاً: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75].

والدليل الثاني: قوله الله جل وعلا في شأن الموازنة بين الحسنات والسيئات، وأن ما ترى من شر، لا يمنع أن تذكر الخير فيما ترى، قال تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] فالله سبحانه أثبت النفع في الخمر والميسر، ولكنه حرمها لغلبة المفاسد على المحاسن، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير والشر، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أثبت الخيرية لبعض القوم على الرغم من وجود الدخن في الخير الذي عندهم، فالعبرة بكثرة المحاسن.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه عبد الله ، وكان يلقب "حماراً" وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) فهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه زلت قدمه وتكرر شرب الخمر منه، ولكن هذا لا يعني فساده بالكلية، بل فيه من الصفات الحميدة الأخرى ما يوجب محبته وموالاته، فيعرف للمحسن إحسانه وللمسيء إساءته إتماماً للعدل والإنصاف.

ولا يجوز بحال أن يغلب جانب النظر إلى المعصية دون النظر إلى بقية الحسنات والفضائل، وهذا حد فاصل بين أهل السنة والخوارج، إذ أن أهل السنة يحبون الرجل من وجه ويبغضونه من وجوه، أو يحبونه من وجوه ويبغضونه من وجه، وقد يجتمع في الواحد حب وبغض في آن واحد، قال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه لما جاءه الشيطان يحثو ويسرق من مال الصدقة وذكره وعلمه آية الكرسي لتحفظه من الشيطان قال: (أما إنه صدقك وهو كذوب) فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت الصدق للشيطان، الذي ديدنه الكذب في تلك الحالة، فلم يمنع ذلك من تقبل الخير الذي دل عليه.

وقد أكد السلف الصالح رضي الله عنهم على أهمية هذا التوازن وضرورة العدل، وسطروا لنا أروع الأمثلة في هذا الباب، فمن أقوالهم الجميلة:

قال سعيد بن المسيب : ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، لكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.

وقال محمد بن سيرين : ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوء ما تعلم وتكتم خيره.

وقال عبد الله بن الزبير الحميدي : كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بـمكة على سفيان بن عيينة ، فقال لي ذات يوم: هاهنا رجل من قريش له بيان ومعرفة، فقلت له: فمن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي . وكان أحمد قد جالسه بـالعراق ، فلم يزل بي حتى اجترني إليه، وكان الشافعي قبالة الميزاب، فجلسنا إليه ودارت مسائل، فلما قمنا؛ قال لي أحمد بن حنبل : كيف رأيت الرجل؟ فجعلت أتتبع ما أخطأ فيه وكان ذلك مني بالقرشية -أي من الحسد- فقال لي أحمد بن حنبل : فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان -أو نحو هذا القول-؟ تمر مائة مسألة يخطئ خمساً أو عشراً، اترك ما أخطأ وخذ ما أصاب؟

فإذا ظهر هذا وتبين لكم أيها الأحبة علمنا أن تصيد الأخطاء وتتبع العثرات والبحث عن الهفوات، كل ذلك مع التغافل عن الحسنات، دليل على فساد القصد وسوء الطوية، ورحم الله الشعبي إذ يقول: لو أصبت تسعاً وتسعين وأخطأت واحدة لأخذوا الواحدة وتركوا التسعة والتسعين..!

أيها الأحبة.. إن الاعتدال في المنهج يفضي إلى العدل في القول، وإلى العدل في النظر والتصور والحكم، وما يقال في هذا على الأفراد يقال على المجتمع وعلى الحكام وعلى الدولة، فمن نظر إلى أخطاء مجتمعه دون حسناته قاده ذلك إلى الفشل والإحباط والتوتر في نفسه ومشاعره، ومن ثم انعكس ذلك على علاقاته وتعامله مع مجتمعه، وإن الذي يعمل في مجتمعه وفق منهج عدل، حينما ننظر إلى العدل والصواب، والحسنات والسيئات، فإن ذلك يدعو من رأى الصواب إلى العمل والمبادرة والتفاؤل والتنمية، ويحفزه ذلك إلى مزيد من الصواب الذي رأى، مع طمأنينته أن في الأمة خيراً يدعو إلى السعي والإصلاح (ومن قال هلك الناس فهو أهلكُهم أو أهلَكهم) .

وإن من ينظر بعين الاعتدال، يدعوه اعتداله إذا رأى الخطأ ألا يقنط ولا ييئس من الإصلاح، بل يتوجه لما يرى من الاستجابة ويدأب في العمل للإصلاح إلى جانب ما رآه من الخير والصواب.

معاشر إخواننا، معاشر أحبابنا، معاشر الشبيبة المسلمة.. إن مغبة انعدام التوازن في المنهج الذي به ننظر ونحكم على الأفراد والهيئات والذوات يفضي إلى خطر كبير وشر مستطير، ولقد رأيت من صور هذا الخطر في ظل غيبة التوازن في المنهج أن تنطلق ألسنة الصغار في الكبار، والجهال في العلماء، والعوام في الحكام، الأمر الذي يفضي إلى سقوط هيبة قادات الأمة، ممثلةً في حكامها وعلمائها، ولو دام ذلك واستمر فلا شك في سوء عاقبته، وما يفضي إليه من ضياع مصالح العباد والبلاد في أموالهم وأعراضهم وأمنهم ومصالحهم.. وهذا يفهمه ويعقله أولو النهى وأرباب الحجى..

يكفي اللبيب إشارة مرموزة     وسواه يدعى بالنداء العالي

فيا أحبابنا.. إن بلادنا بلاد عقيدة وفكرة، وهي وليدة منهج ودعوة، تلكم دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وتبناها وعاضده فيها المؤسس الأول محمد بن سعود رحمه الله، فإذا كانت تلك الدعوة السلفية قد أنتجت دولة وجمعت شمل أمة؛ أفترون تلك الدعوة السلفية عقيمة لا تلد منهج إصلاح للدعوة أو توجيه للأمة؟ أم ترون أننا بحاجة إلى استيراد مناهج الدعوة يميناً ويساراً من البلاد المجاورة؟

ألا لست بهذا وفي هذا المقام أنتقد مناهج الدعوة في البلاد الأخرى، ومع ذلك لا أدعي لها الكمال والعصمة، بل لها وعليها، وفينا ما لنا وما علينا، وفينا على اختلاف مستوياتنا أخطاء وإصابات وسيئات وحسنات، ولكن لا يستطيع أحد أن يلزمنا بالدعوة على طريقة تلك المناهج الدعوية الموجودة في البلاد المجاورة.. وهذه المسألة مهمة جداً.

وإني والله أقول هذا الكلام، وأدين الله جل وعلا به، وما قلته تملقاً ولا تقرباً لأحد، لكني تأملت سيرة ذلك الإمام الجهبذ العلامة، الذي اجتمعت عليه قلوب الأمة شرقاً ومغرباً، وما علمت مبغضاً له إلا هو أقرب إلى الشر من الخير سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، رأيت رجلاً لم تستطع جماعة أن تحتويه، ولم يستطع منهج أن يجعله تحت ظله، ومع ذلك لم تستغن جماعة من الجماعات عن علمه ورأيه وفتواه وفكره، وطول خبرته وبصير علمه.

فيا معاشر المؤمنين.. إذا أدركنا ذلك وجدنا أننا بحاجة إلى التوازن، وبحاجة إلى الهدوء، وقد يفهم البعض أن الكلام عن الحكمة والتوازن أن نطأطئ الرءوس عن المنكرات، وأن نسكت عن الخطيئات.. لا والله، ليس هذا من الحكمة وليس هذا من التوازن، إن التوازن: أن ترى الخير فتذكره وتشكره، وأن ترى الشر فتنكره، ولكن بالأسلوب الذي لا يفضي إلى منكر أكبر أو يفوت معروفاً موجوداً.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.