شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [3]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة وغسلة ثانية وثالثة كره، وإن بلغ قلتين - وهو الكثير وهما خمسمائة رطل عراقي تقريباً- فخالطته نجاسة غير بول آدمي أو عذرته المائعة فلم تغيره، أو خالطه البول والعذرة ويشق نزحه كمصانع طريق مكة فطهور، ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث، وإن تغير طعمه أو لونه أو ريحه بطبخ أو ساقط فيه أو رفع بقليله حدث أو غمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض للوضوء، أو كان آخر غسلة زالت النجاسة بها فطاهر، والنجس ما تغير بنجاسة، أو لاقاها وهو يسير، أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها، فإن أضيف إلى الماء النجس طهور كثير غير تراب ونحو أو زال تغير النجس الكثير بنفسه، أو نزح منه فبقي بعده كثير غير متغير طهر، وإن شك في نجاسة ماء أو غيره أو طهارته بنى على اليقين ].

تقدم أن تكلمنا عن تعريف الطهارة، وذكرنا أن مصطلح الطهارة عند الفقهاء يشتمل على ثلاثة أشياء:

الأول: رفع الحدث.

والثاني: ما في معنى رفع الحدث.

والثالث: إزالة الخبث، أو زوال الخبث.

وتكلمنا عن تقسيم الماء، وأن المؤلف رحمه الله تعالى يرى أن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس، وهذا القول يذهب إليه كثير من العلماء رحمهم الله، وذكرنا أن الرأي الثاني: ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الماء ينقسم إلى قسمين: طهور ونجس، وأن هذا الرأي هو الأقرب من حيث الدليل، وذكرنا ضابط الماء الطهور، وضابط الماء النجس، وقلنا بأن ضابط الماء الطهور: أنه الماء الباقي على خلقته الذي لم يتغير بنجاسة ولا بطاهر يسلبه اسم الماء المطلق.

وأما القسم الثاني فهو: الماء النجس، وهو: ما تغير طعمه أو لونه أو رائحته بنجاسة.

ثم بعد ذلك ذكر المؤلف رحمه الله تعالى عدة مسائل، ولكي نضبط هذه المسائل التي ذكرها، فقد ذكرناها على شكل أقسام طرأت على الماء الطهور الذي هو الأصل، وذكرنا سبعة أقسام.

ثم قال في القسم الثامن أو الطارئ الثامن: (وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة وغسلة ثانية وثالثة كره).

هذا الطارئ الثامن أو القسم الثامن وهو: أن يستعمل في طهارة مستحبة.

والمستعمل هو: الماء الذي مر على العضو وانفصل عنه، وتقدم لنا أنه إذا استعمل في طهارة واجبة كرفع الحدث فإنه يكون طاهراً، وإن استعمل في طهارة مستحبة فيقولون: طهور لكنه مكروه؛ لأن من العلماء رحمهم الله من قال: بأنه طاهر.

ومثل المؤلف رحمه الله بالمستعمل في طهارة مستحبة فقال: (كتجديد وضوء)، يعني: إذا توضأ، ثم توضأ مرة أخرى، فالوضوء للمرة الثانية مستحب، لكن قال العلماء رحمهم الله: يكون الوضوء تجديداً، يعني: مشروعاً إذا صلى بينهما صلاة، يعني: توضأ ثم صلى بالوضوء الأول فإنه يشرع له حينئذ أن يجدد الوضوء مرة أخرى، فإذا جدد الوضوء وغسل وجهه فهذا الماء المنفصل عن الوجه يكون طهوراً مكروهاً، والماء المنفصل عن اليدين بعد أن مر على العضو وانفصل عنه يكون طهوراً مكروهاً, وهكذا.

ومثله أيضاً: غسل الجمعة على المشهور من المذهب، وسيأتينا -إن شاء الله- كلام أهل العلم أن غسل الجمعة مستحب, وليس واجباً، وهو قول جماهير أهل العلم، وعلى هذا؛ فلو كان هناك إناء وكان الماء دون القلتين ثم انغمس فيه وهو ينوي غسل الجمعة فإن هذا الماء يكون طهوراً مكروهاً؛ لأنه استعمل في طهارة مستحبة.

ومثله أيضاً: ماء الغسلة الثانية والثالثة، يعني: عندما تغسل يدك الغسلة الأولى فالماء المتساقط إذا كان عن رفع الحدث في الغسلة الأولى ماء طاهر، لكن بالنسبة للغسلة الثانية والثالثة فيكون طهوراً مكروهاً؛ لأنها غسلة مستحبة.

والصواب في هذه المسألة: أن الكراهة حكم شرعي يفتقر إلى الدليل الشرعي، وأما القول بأنه مكروه خروجاً من الخلاف فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: التعليل بالخلاف علة حادثة؛ لأن الخلاف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح أن نعلل بخلاف العلماء رحمهم الله الحادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، نعم إذا تكافأت الأدلة فنقول: نأخذ بالاحتياط, لكن هنا لا تكافؤ في الأدلة؛ لأن الأصل في الماء الطهورية كما سلف.

قال رحمه الله: (وإن بلغ قلتين, وهو الكثير, وهما خمسمائة رطل عراقي تقريباً).

الفقهاء رحمهم الله تعالى يعبرون بالماء القليل وبالماء الكثير، والماء الكثير هو: ما بلغ قلتين، فإذا قالوا: ماء كثير فيقصدون بذلك ما بلغ قلتين فأكثر، وإذا عبروا بالماء القليل: فإنهم يقصدون بذلك ما دون القلتين.

وتقدير القلتين بالأرطال العراقية، ليس معروفاً الآن، لكن يمكن أن نحول هذه الأرطال إلى غرامات، فالرطل العراقي يساوي تسعين مثقالاً، والمثقال الواحد اختلف العلماء رحمهم الله في وزنه، فقال بعضهم: أربعة وربع، وقال بعضهم: ثلاثة ونصف، وهذان القولان هما أشهر الأقوال, والقول الأول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهو الذي يذهب إليه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى، وهو الأقرب.

وعلى هذا فلو أن عندنا خمسمائة رطل عراقي ونريد تحويلها إلى مثاقيل، فنضرب خمسمائة بتسعين، فتتحول هذه الأرطال إلى مثاقيل، ثم تحول هذه المثاقيل إلى غرامات بضرب الناتج في أربعة وربع، وإذا أردت أن تحول هذه الغرامات إلى كيلوات فستقسم الناتج على ألف.

فتبين لنا أن الماء الكثير هو: ما بلغ خمسمائة رطل عراقي، والماء القليل هو: ما دون القلتين, أي: ما دون الخمسمائة رطل.

ومقصود المؤلف رحمه الله لما تكلم على الأرطال: أن يبين لنا القسم التاسع أو الطارئ التاسع، وهو: إذا وقعت نجاسة على هذا الماء الطهور، فالمشهور من المذهب أنه إذا وقعت نجاسة في هذا الماء الطهور فإن هذا الماء لا يخلو من ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون الماء قليلاً، وهو ما دون القلتين فإنه ينجس بمجرد الملاقاة، وعليه، فالإناء الذي وقعت فيه نقطة بول بمجرد أن وقعت فيه هذه النقطة أصبح نجساً، وإن لم يتغير طعمه أو لونه أو رائحته، وكذلك لو كان عندنا ماء قليل ووقعت فيه نقطة من الدم المسفوح فإنه ينجس بمجرد الملاقاة.

الحالة الثانية: أن يكون الماء كثيراً، وتقع فيه نجاسة، لكن هذه النجاسة ليست من بول الآدمي ولا من غائطه المائع, فهذا فيه تفصيل، ومثال ذلك: عندنا إناء يساوي قلتين، يعني: خمسمائة رطل عراقي، ثم وقعت فيه نقطة دم مسفوح، فهذا ننظر, إن تغير فهو نجس، وإن لم يتغير فهو طهور باق على طهوريته.

الحالة الثالثة: أن يكون الماء كثيراً -يعني: قلتين فأكثر- وتقع فيه نجاسة، وهي بول الآدمي أو عذرته المائعة، فيقولون: ينجس بمجرد الملاقاة، فإذا كان عندنا ماء كثير يسع قلتين وأكثر من قلتين، فلو أن نقطة بول وقعت فيه ولم تغيره فإنه ينجس بمجرد الملاقاة، ومع ذلك يقولون: لو أن نقطة من بول الكلب وقعت فيه, فإنه ينجس إن تغير، لكن بول الآدمي ينجس بمجرد الملاقاة، إلا إن كان مما يشق نزوحه -كما سيأتي- فجعلوا بول الكلب أخف من بول الآدمي، وهذا الكلام فيه نظر.

قال رحمه الله تعالى: (أو خالطه البول أو العذرة ويشق نزحه كمصانع طريق مكة فطهور).

يعني: وقعت في الماء نقطة من بول الآدمي أو من عذرته المائعة (ويشق نزحه كمصانع طريق مكة)، ومعنى مصانع طريق مكة أي: الحياض الكبيرة، وقد كان الناس يخدمون الحجاج في الزمن السابق على طرق مكة, ويرعونهم، والمحسنون يضعون أحواضاً كبيرة في طرق الحجاج, تملأ بالماء؛ من أجل أن يستفيد منها الحجاج، وهذه الأحواض الكبيرة يشق نزحها، فلو وقعت فيها نقطة بول من بول الآدمي فإن هذه النقطة لا تؤثر، ما دام أنها لم تغيره.

إذاً: القسم الثالث من أقسام الماء: إذا كان كثيراً ووقع فيه بول الآدمي أو عذرته فينجس بمجرد الملاقاة إلا إن كان هذا الماء مما يشق نزحه، فإنه يبقى على طهوريته.

بعض الحنابلة لم يرتض هذا القول؛ لأنه -كما ذكرنا- يترتب عليه أن يكون بول الكلب أخف من بول الآدمي، فقالوا: لا فرق بين بول الآدمي وبين سائر النجاسات، ولا فرق بين عذرة الآدمي وبين سائر النجاسات، فإذا كان كثيراً فإنه لا ينجس إلا بالتغير، على الرأي الثاني عند الحنابلة، وإن كان قليلاً فإنه ينجس بمجرد الملاقاة، وهو الصواب في هذه المسألة: أنه لا فرق بين الماء القليل والكثير، وأن الأصل في الماء الطهورية، حتى تغير النجاسة طعمه أو رائحته أو لونه.

قال رحمه الله تعالى: (ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث).

هذا القسم العاشر، أو الطارئ العاشر: طهور خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث، فإذا كان الطهور كثيراً يعني: كان الماء قلتين فأكثر فهذا لا يؤثر، أي: أن خلو المرأة هذا لا يؤثر، لكن الذي يؤثر إذا كان يسيراً وخلت به امرأة لطهارة كاملة فإنه يعتبر طاهراً، يعني: يرفع حدث المرأة لكن لا يرفع حدث الرجل، مع أنه يزيل خبث الرجل، وهو طهور مبعض، يعني: تثبت له بعض أحكام الماء الطهور، وتنتفي عنه بعض أحكام الماء الطهور، ولكي يترتب هذا الحكم لا بد من شروط:

الشرط الأول: أن يكون الماء يسيراً, يعني: دون القلتين.

الشرط الثاني: أن تخلو به هذه المرأة، يعني: لا يكون عندها مميز.

الشرط الثالث: أن يكون ذلك لطهارة كاملة، فلو تطهرت بعض الطهارة فهذا لا يضر، كما لو تمضمضت واستنشقت وغسلت وجهها، ثم زالت خلوتها بهذا الماء فهذا لا يضر.

الشرط الرابع: أن يكون ذلك عن حدث، يعني: لو خلت بهذا الماء لا للحدث وإنما لإزالة الخبث فهذا يرفع حدث الرجل.

الشرط الخامس: أن تكون مكلفة، يعني: أن تكون بالغة عاقلة؛ وعلى هذا فلو خلت المجنونة أو الصغيرة فلا يضر.

فهذه خمسة شروط إذا توفرت فإن الرجل ليس له أن يرفع به حدثه، لكن له أن يزيل به خبثه، وهي لها أن ترفع حدثها وتزيل خبثها بهذا الماء، فهذا ما يسمونه: طهور مبعض، لأنه: بالنسبة للرجل: لا يرفع حدثه ويزيل خبثه، وبالنسبة للمرأة: يرفع حدثها ويزيل خبثها.

ويستدلون على هذا بحديث الحكم بن عمرو الغفاري ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة )، وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي ، والجواب عنه من وجهين:

الوجه الأول: أن بعض أهل العلم ضعف هذا الحديث، ولهذا قال البخاري رحمه الله تعالى: لا أراه يصح.

والجواب الثاني: أنه لو ثبت فإنه محمول على التنزيه، ويدل لهذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل ميمونة )، وحديث ابن عباس أصح منه, فهو في صحيح مسلم .

وعلى هذا؛ يكون الراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله.

قال رحمه الله: (وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بطبخ).

هذا القسم الحادي العاشر أو الطارئ الحادي عشر، وهو: الماء الطهور إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بطبخ, يعني: طبخ فيه شيء، فمثلاً: عندنا هذا الماء الطهور وطبخنا فيه شاياً أو زعفراناً أو نحو ذلك فتغير طعمه أو لونه أو ريحه, والمراد بهذا: كثير لونه وكثير طعمه وكثير رائحته، فإنه لا يكون طهوراً.

قال رحمه الله: (أو ساقط فيه).

يعني: سقط في هذا الماء حبر، أو زعفران، أو عصفر، وتغير كثير من لونه أو طعمه أو ريحه، والضابط في هذا -كما تقدم- إذا سلبه اسم الماء المطلق بحيث لا يسمى ماء مطلقاً فإن هذا لا يكون طهوراً يرفع الحدث، أما إذا لم يسلبه اسم الماء المطلق وكان التغير يسيراً فإن هذا لا يضر.

ويستثنى من ذلك أيضاً: ما إذا تغير بالتراب, فإنه لا يضر؛ لأن التراب هو أحد الطهورين، وهو بدل عن الماء؛ وعلى هذا فلو كان عندنا ماء ووضعنا فيه تراباً فإنه لا يضر، ولو كان عندنا مستنقع ثم دخله رجل وخاض فيه وأصبح لونه أصفر فهذا لا يضر، ولا يزال هذا الماء طهوراً؛ لأن التراب هو أحد الطهورين.

ولهذا ذكرنا -فيما تقدم- أن الماء إذا تغير بالمواسير بأن فتحت الصنبور ووجدته ماء أصفر فهذا لا يضر؛ لأن هذا الصدأ من الماء، وإذا تغير بما كان الماء أصله، أو تغير ببدل الماء فإن هذا لا يضر.

قال رحمه الله: (أو رفع بقليله حدث).

هذا القسم الثاني عشر: إذا رفع بقليله حدث، ويعني بالقليل: ما دون القلتين، فلو كان عندنا إناء دون القلتين، ورجل عليه جنابة ثم جاء وانغمس فيه وهو ينوي رفع الجنابة، فهذا الماء يكون طاهراً لا يرفع الحدث، كما قال المؤلف رحمه الله. ومثله أيضاً: الماء المستعمل في الغسلة الأولى لرفع الحدث فإنه يكون طاهراً على المشهور من المذهب، والصواب في ذلك: أنه طهور؛ لما تقدم أن الأصل في الماء الطهورية.

وهم يستدلون على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغمس الرجل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثاً إذا كان قائماً من نوم الليل الناقض للوضوء، لكن نقول: بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغمس، ولم يتكلم عن حكم الماء، يعني: لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن الماء, وإنما نهى عن الغمس.

قال رحمه الله: (أو غمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء).

هذا القسم الثالث عشر: كما لو جاء رجل بعد أن استيقظ من نوم الليل الناقض للوضوء وغمس يده في الماء، فإن كان كثيراً فإنه لا يضر، لكن إذا كان قليلاً فإنه يكون طاهراً بعد أن كان طهوراً، ودليلهم على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده )، لا بد أن يغمس جميع يده، فلو غمس رجله لا يضر، لكن إذا غمس يده فإن هذا يضر.

وقوله: (من نوم ليل ناقض لوضوء), يعني: لو كان من نوم النهار فإنه لا يضر، وهو الصحيح؛ لأن الأصل بقاء الطهورية، وأما هذا الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن حكم الغمس, ولم يتكلم عن حكم الماء، والأصل بقاء الطهورية.

قال رحمه الله: (أو كان آخر غسلة زالت النجاسة بها فطاهر).

هذا القسم الرابع عشر، يعني: إذا استعمل هذا الماء الطهور في تنظيف النجاسة وإزالة الخبث، والمقصود كان آخر غسلة زالت بها النجاسة، وسيأتينا إن شاء الله أن المشهور من المذهب أن المتنجس لا بد أن تغسله سبع مرات، إلا بول الصبي الذي لم يأكل الطعام أو النجاسة على الأرض, فهذه يستثنونها، لكن ما عدا ذلك من النجاسات فلا بد أن تغسلها سبع مرات، فإذا غسلت المرة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة وكانت هذه آخر غسلة زالت بها النجاسة، فهذا الماء المنفصل في آخر غسلة إن كان متغيراً بالنجاسة فنجس، وإن كان غير متغير بالنجاسة فهو طاهر، والصواب في هذه المسألة: أنه طهور؛ لما تقدم أن ذكرنا أن الأصل في الماء الطهورية، وأن الماء المنفصل أثناء غسل النجاسة ينظر فيه, إن كان متغيراً بالنجاسة فهو نجس، وإن كان غير متغير بالنجاسة فهو طهور.

قال رحمه الله: (والنجس: ما تغير بنجاسة، أو لاقاها، أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها).

لما تكلم المؤلف رحمه الله تعالى عن الماء الطهور شرع الآن في الماء النجس، وذكرنا الخلاصة في ذلك، وأن الأصل في الماء الطهورية، وذكرنا ضابط الماء الطهور، وذكرنا الأقسام التي تطرأ على الماء الطهور, وبينا حكمها، وغالب هذه الأقسام -وهي أربعة عشر قسماً- لا تؤثر، إلا في حالتين فقط هي:

الحالة الأولى: أن يتغير بنجاسة فيكون نجساً.

الحالة الثانية: أن يتغير بطاهر يسلبه اسم الماء المطلق, فهذا لا يسمى ماء.

ضوابط الماء النجس

شرع المؤلف رحمه الله في بيان الماء النجس، وقال: بأن الماء النجس يشتمل على ثلاثة أمور:

الأمر الأول: ما تغير بنجاسة.

الأمر الثاني: لاقاها وهو يسير.

الأمر الثالث: انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها.

فالنجس على المذهب يشتمل على هذه الثلاثة الأمور، وعلى هذا، فضابط الماء النجس على المذهب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما تغير بنجاسة، فإذا كان عندنا ماء نجس وهذا النجس تغير بنجاسة فهذا نجس بالإجماع.

القسم الثاني: إذا كان يسيراً ووقعت فيه نجاسة, فهذا نجس على المذهب، واليسير ما كان دون القلتين، وذكرنا أن الصواب أنه طهور كما هو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله.

القسم الثالث: قوله: (أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها)، وتقدم أن المتنجس -على المذهب- لا بد أن يغسل سبع مرات، فلو غسلناه في المرة الأولى والنجاسة لا تزال باقية، فهذا الماء المنفصل نجس؛ لأن الملاقاة حصلت، ولو غسلناه المرة الثانية والنجاسة لا تزال باقية فهو نجس، وهكذا، لكن لو زالت النجاسة في الرابعة فالماء طاهر، ولا يكون نجساً, يعني: أن النجاسة إن كانت لا تزال باقية في السبع الغسلات فهو نجس، وإن زالت فإنه يكون طاهراً. والصواب كما سلف أن الماء النجس هو ما تغير بالنجاسة، وما عدا ذلك فإنه طهور، فالماء المنفصل أثناء تطهير النجاسة ينظر فيه، فإن كان قد تغير بالنجاسة فهو نجس، وإن لم يتغير بالنجاسة فهو طهور.

قال رحمه الله تعالى: (فإن أضيف إلى الماء النجس طهور كثير غير تراب ونحوه، أو زال تغير النجس الكثير بنفسه أو نزح منه فبقي بعده كثير غير متغير طهر).

كيفية تطهير الماء النجس

أراد المؤلف رحمه الله في آخر باب المياه أن يبين كيفية تطهير الماء النجس، بعد أن ذكر أنه يشتمل على ثلاثة أمور، والخلاصة في ذلك: أن تطهير الماء النجس على المذهب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يكون الماء يسيراً دون القلتين، وتقدم أن الماء اليسير دون القلتين ينجس بمجرد الملاقاة، فهذا تطهيره بالإضافة، أي: أن تضيف إليه طهوراً، ولا بد أن تكون الإضافة متصلة؛ لأنك لو أضفت ثم قطعت الذي أضفته فإنه ينجس؛ لأنه يسير لاقى نجاسة.

إذاً: الإضافة لا بد فيها من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون المضاف كثيراً.

الأمر الثاني: التواصل في الإضافة.

القسم الثاني: أن يكون الماء قلتين، فإذا كان الماء قلتين، فهذا لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون غير متغير بالنجاسة، فهذا تطهيره بالإضافة كما تقدم، ولا بد فيها من شرطين كما تقدم.

الأمر الثاني: أن تكون هاتان القلتان قد تغيرتا بالنجاسة، فهذا يطهر بواحد من أمرين:

الأمر الأول: الإضافة كما سلف.

والأمر الثاني: أن يزول تغيره بنفسه، يعني: يترك حتى يتغير بنفسه.

القسم الثالث: أن يكون الماء أكثر من قلتين، فهذا أيضاً لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون غير متغير بالنجاسة، فهذا تطهيره بالإضافة كما سلف.

الأمر الثاني: أن يكون متغيراً بالنجاسة، فهذا تطهيره بواحد من أمور ثلاثة:

الأمر الأول: الإضافة كما سلف.

الأمر الثاني: أن يزول تغيره بنفسه.

الأمر الثالث: أن ينزح منه, يعني: يؤخذ منه ويزول التغير بسبب النزح ويبقى كثير, يعني: بقي قلتان فصاعداً.

إذاً: إذا كان أكثر من قلتين فهذا لا يخلو من أمرين: أن يكون غير متغير, فهذا تطهيره بالإضافة كما سلف، وإما أن يكون متغيراً, فهذا تطهيره بواحد من أمور ثلاثة: الإضافة أو النزح وأن يزول تغيره بنفسه.

والخلاصة في ذلك: أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وأن النجاسة عين مستقذرة شرعاً، إذا زالت بأي مزيل فإن المحل يطهر، وعلى هذا، إذا طهر هذا الماء النجس بأي طريق بالطبخ أو بالإضافة أو بالنزح أو بالتكرير كما يوجد اليوم في مياه الصرف الصحي بأن يعمل لها معالجة وتكرير حتى تعود إلى حالتها الطبيعية، فنقول بأن الماء يطهر.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2818 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2732 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2678 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2646 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2640 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2558 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2555 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2528 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2521 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2498 استماع