شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [باب: صلاة الكسوف.

تسن جماعة وفرادى إذا كسف أحد النيرين، ركعتين يقرأ في الأولى جهراً بعد الفاتحة سورة طويلة، ثم يركع طويلاً، ثم يرفع، ويسمع، ويحمد، ثم يقرأ الفاتحة، وسورة طويلة دون الأولى، ثم يركع فيطيل، وهو دون الأول، ثم يرفع، ثم يسجد سجدتين طويلتين.

ثم يصلي الثانية كالأولى؛ لكن دونها في كل ما يفعل، ثم يتشهد، ويسلم، فإن تجلى الكسوف فيها أتمها خفيفة، وإن غابت الشمس كاسفة، أو طلعت والقمر خاسف، أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل، وإن أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات، أو أربع، أو خمس، جاز.

باب: صلاة الاستسقاء.

إذا أجدبت الأرض، وقحط المطر، صلوها جماعة، وفرادى، وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد].

في الدروس السابقة كنا قد أنهينا الكلام عن أحكام صلاة العيدين، ثم بعد ذلك أعقب المؤلف رحمه الله تعالى بما يتعلق بأحكام صلاة الكسوف، ثم الاستسقاء، ثم الجنائز.

تعريف الكسوف

قال رحمه الله تعالى: (باب صلاة الكسوف).

باب مضاف، وصلاة مضاف إليه، وصلاة مضاف، والكسوف مضاف إليه، والإضافة هنا، من باب إضافة الشيء إلى سببه، يعني: الصلاة التي سببها الكسوف، والكسوف في اللغة: التغير إلى سواد.

وأما في الاصطلاح: فهو انحجاب ضوء الشمس، أو انحجاب بعض ضوء الشمس بسببٍ غير معتاد.

وأما الخسوف فهو في اللغة: الذهاب والنقصان، وفي الاصطلاح: انحجاب ضوء القمر كله أو بعضه، بسببٍ غير معتاد، ويصح أن يقال: كسفت الشمس، وخسفت الشمس، والسنة وردت بهذا كله.

قال ثعلب : أجود الكلام، كسفت الشمس، وخسف القمر فيصح أن تقول: كسفت الشمس، ويصح أيضاً أن تقول: خسفت الشمس؛ لكن الأفصح كما قال ثعلب.

مشروعية صلاة الكسوف

والأصل في صلاة الكسوف القرآن والسنة وإجماع المسلمين عليها.

أما القرآن: فقول الله عزّ وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت:37]. استنبط بعض العلماء صلاة الكسوف من هذه الآية.

وأما السنة: فكثيرة جداً، فمن ذلك حديث أبي بكرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس والقمر آياتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته ولكن الله يخوف بهما عباده)، رواه البخاري في صحيحه.

والكسوف له سببان:

السبب الأول: سبب شرعي، وهو تخويف العباد وإنذارهم إذا تمادوا في الذنوب والمعاصي، لكي يرجعوا إلى الله عزّ وجل، كما سبق في حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده ).

السبب الثاني: سبب كوني، وهذا مدرك بالحساب، فالسبب الكوني بالنسبة لكسوف الشمس هو حيلولة القمر بين الشمس وبين الأرض، فإذا حال ذلك حصل كسوف الشمس.

وأما السبب الكوني لخسوف القمر فهو حيلولة الأرض بين الشمس وبين القمر؛ لأن القمر نوره مستفاد من الشمس، ولهذا العلماء رحمهم الله يقولون: إنَّ القمر بمنزلة المرآة، يأخذ من نور الشمس ويعكسه على الأرض، فإذا حالت الأرض بين الشمس وبين القمر حصل خسوف القمر.

حكم صلاة الكسوف

قال رحمه الله: (تسن جماعةً).

أفاد بهذه العبارة أن صلاة الكسوف سنة، وليست واجبة، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى، ويستدلون بما سلف الإشارة إليه، مثل: حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه في قصة الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام، فأخبره أن الواجب عليه من الصلوات خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: (لا إلا أن تطوع)، فأفاد هذا الحديث أن الواجب خمس صلوات، ومثل ذلك أيضاً: حديث ابن عباس لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن ، قال: (فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة).

والرأي الثاني: أن صلاة الكسوف واجبة، وهذا ما ذهب إليه أبو عوانة رحمه الله تعالى، وحكي عن الإمام مالك ، وأيضاً عن أبي حنيفة، وقوى القول بالوجوب ابن القيم رحمه الله تعالى، ويدل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالفزع للصلاة وقال: (إذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله، ودعائه واستغفاره).

وأيضاً مما يدل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فزعاً يجر رداءه حتى أدرك عليه الصلاة والسلام بردائه.

ومما يدل لذلك أيضاً: أن كون الإنسان يرى هذه الآية العظيمة وهذا التخويف ومع ذلك لا يفزع إلى الصلاة والاستغفار... إلى آخره، هذا مما يدل على ضعف الإيمان، وقسوة القلب، والبعد عن الله عزّ وجل، ومثل هذه الأشياء غير جائزة، فدلّ ذلك: على أن الفزع إلى الصلاة واجب، وهذا القول له قوة، كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى.

قال رحمه الله: (جماعة).

هذا هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها جماعة، ولو أن الإنسان صلاها فرادى، فإن هذا جائز ولا بأس به، ولكن السنة أن تصلى جماعة، كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل العلماء رحمهم الله يقولون: أن تصلى في الجوامع، يعني: أن يجتمع الناس لها في الجوامع، وكون الناس يجتمعون في الجوامع ويصلونها جماعة فهذا أبلغ في الرجوع إلى الله عزّ وجل وفي التذلل والخضوع.

وقوله رحمه الله: (تسن جماعة)، هذا يشمل صلاة الكسوف، وصلاة الخسوف، فصلاة الكسوف وصلاة الخسوف كلٌ منهما، يشرع أن يكون جماعة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد والشافعي ، وعند مالك وأبي حنيفة خسوف القمر لا تشرع له الجماعة، وإنما يصلون فرادى، والصواب في ذلك: أنها تصلى جماعة؛ صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يصلِ إلا لكسوف الشمس، وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى لخسوف القمر؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته؛ ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده)، فقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الشمس والقمر، مما يدل على أنه لا فرق، وأن كلاً منهما آية، وأن كلاً منهما يشرع أن يجتمع الناس للصلاة له.

قال رحمه الله: (جماعةً وفرادى).

يعني: إذا صلوا فرادى كسائر النوافل فإن هذا جائز ولا بأس به؛ لكن -كما سلف- الأفضل أن تصلى جماعة، وعلى هذا لو أن المرأة حضرت مع الناس، كما حضرت أسماء وعائشة رضي الله عنهما، جاز، ولو أنها صلت في بيتها فإن هذا أيضاً تحصل به المشروعية.

صفة صلاة الكسوف

قال رحمه الله: (إذا كسف أحد النيرين ركعتين).

أحد النيرين يعني: الشمس، أو القمر، وقوله: (إذ كسف)، مما يدل على أن هذه الصلاة ذات سبب لا تشرع إلا عند وجود سببها، أما إذا لم يوجد السبب فإنها غير مشروعة.

قال رحمه الله تعالى: (يقرأ في الأولى جهراً).

يعني: في كسوف الشمس وفي خسوف القمر، يشرع أن يجهر في الصلاة، وهذا هو المشهور من المذهب، وبه قال ابن حزم ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ودليلهم على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها، (أن النبي صلى الله عليه وسلم، جهر في صلاة الخسوف في قراءته) وهذا في الصحيحين.

الرأي الثاني: وهو رأي الأئمة الثلاثة: أنه لا يجهر في صلاة الخسوف، واستدلوا على ذلك: بحديث سمرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف لا نسمع له صوتاً)، وهذا الحديث في السنن؛ لكنه ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله أنه يشرع الجهر في صلاة الكسوف.

وهكذا ما ذكره ابن القيم رحمه الله في قوله: المتأمل لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الجوامع -الصلاة التي يجتمع لها الناس- نجد أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الجهر -يجهر بالقراءة- فمثلاً: صلاة الجمعة، والعيدين، والكسوف، والاستسقاء... إلى آخره هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الجهر بالقراءة.

قال رحمه الله: (يقرأ في الأولى جهراً بعد الفاتحة سورةً طويلة).

وقد جاء في حديث ابن عباس قال: (فقام قياماً طويلاً قدر سورة البقرة)، رواه البخاري ، يعني: يشرع أن يطيل القراءة، كما ذكر ابن عباس قدر سورة البقرة.

قال رحمه الله: (سورة طويلة، ثم يركع طويلاً) كما جاء في الحديث.

(ثم يرفع، ويسمع، ويحمد).

يعني: إذا انتهى من القراءة، وركع ورفع، وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد... إلى آخره، ثم بعد ذلك يشرع في القراءة مرة أخرى.

قال رحمه الله: (ثم يقرأ الفاتحة، وسورة أخرى دون الأولى).

القراءة الأولى بقدر أو قريباً من سورة البقرة، والقراءة الثانية بعد الركوع الأول أقل من القراءة الأولى.

قال رحمه الله: (دون الأولى، ثم يركع فيطيل وهو دون الأول، ثم يرفع).

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه في الرفع الثاني لا يطيل، وهذا هو المشهور من المذهب، فيقولون: يطيل في صلاة الخسوف إلا في موضعين:

الموضع الأول: في الرفع بعد الركوع الثاني، فإنه لا يطيل.

الموضع الثاني: في الجلسة بين السجدتين، فإنه لا يطيل، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

الرأي الثاني في هذه المسألة: ذهب إليه بعض أصحاب الإمام أحمد كـابن حمدان والآمدي : أنه يشرع له أن يطيل في هذين الموضعين، يعني: في الرفع بعد الركوع الثاني، وكذلك أيضاً في الجلسة بين السجدتين.

وقد جاء ذلك في حديث جابر في صحيح مسلم ، وأيضاً الذي يتأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة يجد أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم متقاربة وقد ذكر البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: (رمقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت ركوعه فقيامه فسجوده فجلسته بين السجدتين قريباً من السواء)، فهذه الأركان تكون متقاربة.

وعلى فهذا: نقول الصواب في هذه المسألة أنه يطيل إذا رفع من الركوع الثاني، ويشرع له أن يذكر الله عزّ وجل، وله أن يحمد الله عزّ وجل، وأن يذكر الذكر الوارد في الحمد، ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه... إلى آخره، فإذا انتهى منه، شرع في قول: لربي الحمد، لربي الحمد، يكرر ذلك؛ لأن ذكر هذا القيام هو حمد الله عزّ وجل.

أما الجلسة بين السجدتين، فالدعاء فيه رب اغفر لي، رب اغفر لي... إلى آخره.

قال رحمه الله: (ثم يرفع، ثم يسجد سجدتين طويلتين، ثم يصلي الثانية كالأولى؛ لكن دونها في كل ما يفعل، ثم يتشهد، ويسلم فإن تجلى...إلى آخره)، هذه الصفة التي ذكرها المؤلف رحمه الله لصلاة الكسوف أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان هي التي ذهب إليها الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً مالك والشافعي ، فالأئمة الثلاثة يذهبون إلى هذه السنة.

الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله: أن يصلي ركعتين في كل ركعة ركوع واحد كسائر النوافل.

وصلاة الكسوف وقد ورد لها في السنة عدة صفات:

الصفة الأولى: أنها كما جاء في حديث عائشة، وحديث ابن عباس، وهي التي مشى عليها المؤلف رحمه الله تعالى: وهو أن يصلى ركعتين، في كل ركعة ركوعان، وهذه كما ذكرنا هي ما ذهب إليها الإمام مالك والشافعي وأحمد.

الصفة الثانية: كسائر النوافل، أن يصلي ركعتين في كل ركعة ركوع واحد، وهذه هي التي ذهب إليها أبو حنيفة رحمه الله.

الصفة الثالثة: أن يصلي ركعتين، في كل ركعة ثلاث ركوعات، وهذه سيشير إليها المؤلف رحمه الله.

الصفة الرابعة: أن يصلي ركعتين، في كل ركعة أربع ركوعات.

الصفة الخامسة: أن يصلي ركعتين، في كل ركعة خمس ركوعات.

الصفة السادسة: أن يصلي كأحدث صلاةٍ صلاها من المكتوبة، فمثلاً: إذا كسفت الشمس في الضحى فإنه يصلي ركعتين كصلاة الفجر، وإذا كسفت الشمس بعد الظهر فإنه يصلي أربع ركعات كصلاة الظهر، وهكذا.

الصفة السابعة: أن يكبر، ثم بعد ذلك يرفع يديه، فيذكر الله ويدعوه، فإذا تجلى الخسوف فإنه يصلي ركعتين.

الصفة الثامنة: أن يصلي ركعتين ثم يسلم، ثم يصلي ركعتين ثم يسلم... إلى آخره.

فهذه الصفات الواردة في السنة لصلاة الكسوف، وللعلماء رحمهم الله تجاه هذه الصفات مسلكان:

المسلك الأول: مسلك الترجيح: وهو ترجيح إحدى هذه الصفات على بقية الصفات، وهذا المسلك هو الذي ذهب إليه الشافعي ، والإمام أحمد ، والبيهقي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، فيرجحون ما جاء في حديث عائشة عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين، في كل ركعة ركوعان، وما عدا ذلك من الصفات وإن كانت واردة في صحيح مسلم وغيره، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأنها غلط، فما عدا ذلك من الصفات صفات شاذة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم هي صفة واحدة، وهي أن يصلى ركعتين في كل ركعة ركوعان.

المسلك الثاني: مسلك الجمع، وهذا ما ذهب إليه ابن خزيمة ، والخطابي ، وإسحاق بن راهويه ، وانتصر له ابن حزم في كتابه المحلى، بمعنى: أنه تارة يصلي بهذه الصفة، وتارة يصلي بهذه الصفة، فيعمل بكل الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه البخاري ، والإمام أحمد ، والشافعي ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم ، وهو مسلك الترجيح، فيترجح الصفة الواردة في حديث عائشة عن ابن عباس على بقية الصفات.

ويدل لذلك دليلان:

أما الدليل الأول كما ذكر البيهقي رحمه الله، قال: الأحاديث تشير إلى وفاة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، لم تتعدد وفاته بل توفي مرة واحدة.

فدلّ ذلك على أن الكسوف لم يتكرر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، وأن ما عدا هذه الصفة التي اتفق عليها الشيخان البخاري ومسلم هي صفات شاذة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الدليل الثاني: ذكر الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على المحلى لـابن حزم ، أن هناك فلكياً اسمه محمود باشا ، وهذا الفلكي حسب الكسوفات التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجد أن الشمس كسفت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أي في السنة العاشرة من الهجرة، في شهر شوال، في يوم الثلاثاء، في الساعة الثامنة والنصف، وما عدا ذلك لم يحصل شيء من الكسوف، فدلّ ذلك على أن كسوف الشمس إنما وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وذكر هذا الفلكي في رسالته: أنه حصل في السنة الرابعة من الهجرة خسوف للقمر؛ لكن ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لخسوف القمر، ولعل هذا لم يشرع في ذلك الحين.

فنقول: إنَّ هذا الفلكي بيّن أن الكسوف الذي حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو مرة واحدة، فدلّ ذلك على أن كسوف الشمس لم يتعدد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما حصل مرة واحدة فقط، وهذا يبين أن هذه الصفات غلط من الرواة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ، وأن الثابت أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان.

خطبة صلاة الكسوف وكيفية الانتهاء منها

قال رحمه الله: (فإن تجلى الكسوف).

لم يذكر المؤلف رحمه الله تعالى ما يتعلق بالخطبة، وهل يشرع لها خطبة، أو لا يشرع لها خطبة؟

المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه لا تشرع الخطبة لصلاة الكسوف.

الرأي الثاني وهو رأي الشافعي رحمه الله: أن الخطبة مشروعة لصلاة الكسوف، يقولون: يخطب كما يخطب في صلاة الجمعة بأركانها وشروطها كما تقدم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ووعظ الناس كما في حديث عائشة رضي الله عنها.

والصواب في ذلك: التوسط بين القولين، فيقال: إنه يشرع للإمام إذا صلى بالناس أن يعظ الناس، وأن يذكرهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة ، أما القول: بأنه يخطب كخطبة الجمعة، كما هو مذهب الشافعية رحمهم الله: فهذا فيه شيء، وكذلك: بأنه لا يخطب مطلقاً ولا يشرع كما هو قول الحنابلة، فهذا فيه شيء أيضاً.

بل الصواب في ذلك أن نقول: يذكر الناس، ويعظ الناس، لوجود المناسبة وهي مناسبة التخويف.

قال رحمه الله: (فإن تجلى الكسوف فيها أتمها خفيفة).

لحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (صلوا وادعوا ربكم حتى ينكشف ما بكم)؛ ولأنها صلاة شرعت لسببها، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ومادام أن السبب مشروع، فالصلاة مشروعة، فإذا زال السبب زال شرعية هذه الصلاة، فإذا تجلى الكسوف وذهب وهو في الصلاة، فإنه يتمها خفيفة.

أما إذا انتهت الصلاة والكسوف لم يتجل، فإنه يشرع أن يديم ذكر الله واستغفاره إلى أن يتجلى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، فقال: (صلوا وادعوا)، وأيضاً قال: (فافزعوا إلى ذكر الله واستغفاره)، كما أنه يشرع في الكسوف الصدقة، ويشرع أيضاً العتق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على ذلك، وهل يكرر الصلاة، أو لا يكرر الصلاة؟

يعني: إذا انتهت الصلاة ولم يتجل الكسوف، هل يكررها؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، والصواب: أنه لا يعيدها، وإنما يكثر من الدعاء والذكر والاستغفار إلى أن يتجلى الكسوف.

قال رحمه الله: (وإن غابت الشمس كاسفةً، أو طلعت والقمر خاسف، أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل).

إذا غابت الشمس كاسفة ولم يصل الناس فإنهم لا يصلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الصلاة بالرؤية، قال: (إذا رأيتم شيئاً من ذلك، فادعوا وصلوا حتى ينجلي)، خرجه في الصحيحين، فإذا غابت الشمس كاسفةً فإننا لا نصلي، أو غابت ونحن في الصلاة فإننا نتمها خفيفة، قال رحمه الله: (أو طلعت)، أيضاً: إذا طلعت الشمس والقمر خاسف فإننا لا نصليّ، إذ لم نكن صلينا، وإن كنا نصلي فإننا نتمها خفيفة.

وهذا الذي ذكره المرداوي رحمه الله فقال: بلا خلاف أعلم، أنه إذا طلعت الشمس، والقمر خاسف، فإنه لا نصليّ.

وإذا طلع الفجر والقمر خاسف، هل يصلي، أو لا يصلي؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد : أنه لا يصلي، قالوا: لأن سلطانه قد ذهب، وذهب بعض العلماء إلى أنه يصلي؛ لأن الآية لا تزال موجودة، وهذا الذي يظهر والله أعلم أنه إذا طلعت الشمس والقمر خاسف، فإنه يصليّ.

قال رحمه الله تعالى: (باب صلاة الكسوف).

باب مضاف، وصلاة مضاف إليه، وصلاة مضاف، والكسوف مضاف إليه، والإضافة هنا، من باب إضافة الشيء إلى سببه، يعني: الصلاة التي سببها الكسوف، والكسوف في اللغة: التغير إلى سواد.

وأما في الاصطلاح: فهو انحجاب ضوء الشمس، أو انحجاب بعض ضوء الشمس بسببٍ غير معتاد.

وأما الخسوف فهو في اللغة: الذهاب والنقصان، وفي الاصطلاح: انحجاب ضوء القمر كله أو بعضه، بسببٍ غير معتاد، ويصح أن يقال: كسفت الشمس، وخسفت الشمس، والسنة وردت بهذا كله.

قال ثعلب : أجود الكلام، كسفت الشمس، وخسف القمر فيصح أن تقول: كسفت الشمس، ويصح أيضاً أن تقول: خسفت الشمس؛ لكن الأفصح كما قال ثعلب.

والأصل في صلاة الكسوف القرآن والسنة وإجماع المسلمين عليها.

أما القرآن: فقول الله عزّ وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت:37]. استنبط بعض العلماء صلاة الكسوف من هذه الآية.

وأما السنة: فكثيرة جداً، فمن ذلك حديث أبي بكرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس والقمر آياتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته ولكن الله يخوف بهما عباده)، رواه البخاري في صحيحه.

والكسوف له سببان:

السبب الأول: سبب شرعي، وهو تخويف العباد وإنذارهم إذا تمادوا في الذنوب والمعاصي، لكي يرجعوا إلى الله عزّ وجل، كما سبق في حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده ).

السبب الثاني: سبب كوني، وهذا مدرك بالحساب، فالسبب الكوني بالنسبة لكسوف الشمس هو حيلولة القمر بين الشمس وبين الأرض، فإذا حال ذلك حصل كسوف الشمس.

وأما السبب الكوني لخسوف القمر فهو حيلولة الأرض بين الشمس وبين القمر؛ لأن القمر نوره مستفاد من الشمس، ولهذا العلماء رحمهم الله يقولون: إنَّ القمر بمنزلة المرآة، يأخذ من نور الشمس ويعكسه على الأرض، فإذا حالت الأرض بين الشمس وبين القمر حصل خسوف القمر.

قال رحمه الله: (تسن جماعةً).

أفاد بهذه العبارة أن صلاة الكسوف سنة، وليست واجبة، وهذا ما عليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى، ويستدلون بما سلف الإشارة إليه، مثل: حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه في قصة الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام، فأخبره أن الواجب عليه من الصلوات خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: (لا إلا أن تطوع)، فأفاد هذا الحديث أن الواجب خمس صلوات، ومثل ذلك أيضاً: حديث ابن عباس لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن ، قال: (فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة).

والرأي الثاني: أن صلاة الكسوف واجبة، وهذا ما ذهب إليه أبو عوانة رحمه الله تعالى، وحكي عن الإمام مالك ، وأيضاً عن أبي حنيفة، وقوى القول بالوجوب ابن القيم رحمه الله تعالى، ويدل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالفزع للصلاة وقال: (إذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله، ودعائه واستغفاره).

وأيضاً مما يدل لذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فزعاً يجر رداءه حتى أدرك عليه الصلاة والسلام بردائه.

ومما يدل لذلك أيضاً: أن كون الإنسان يرى هذه الآية العظيمة وهذا التخويف ومع ذلك لا يفزع إلى الصلاة والاستغفار... إلى آخره، هذا مما يدل على ضعف الإيمان، وقسوة القلب، والبعد عن الله عزّ وجل، ومثل هذه الأشياء غير جائزة، فدلّ ذلك: على أن الفزع إلى الصلاة واجب، وهذا القول له قوة، كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى.

قال رحمه الله: (جماعة).

هذا هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها جماعة، ولو أن الإنسان صلاها فرادى، فإن هذا جائز ولا بأس به، ولكن السنة أن تصلى جماعة، كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل العلماء رحمهم الله يقولون: أن تصلى في الجوامع، يعني: أن يجتمع الناس لها في الجوامع، وكون الناس يجتمعون في الجوامع ويصلونها جماعة فهذا أبلغ في الرجوع إلى الله عزّ وجل وفي التذلل والخضوع.

وقوله رحمه الله: (تسن جماعة)، هذا يشمل صلاة الكسوف، وصلاة الخسوف، فصلاة الكسوف وصلاة الخسوف كلٌ منهما، يشرع أن يكون جماعة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد والشافعي ، وعند مالك وأبي حنيفة خسوف القمر لا تشرع له الجماعة، وإنما يصلون فرادى، والصواب في ذلك: أنها تصلى جماعة؛ صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يصلِ إلا لكسوف الشمس، وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى لخسوف القمر؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته؛ ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده)، فقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الشمس والقمر، مما يدل على أنه لا فرق، وأن كلاً منهما آية، وأن كلاً منهما يشرع أن يجتمع الناس للصلاة له.

قال رحمه الله: (جماعةً وفرادى).

يعني: إذا صلوا فرادى كسائر النوافل فإن هذا جائز ولا بأس به؛ لكن -كما سلف- الأفضل أن تصلى جماعة، وعلى هذا لو أن المرأة حضرت مع الناس، كما حضرت أسماء وعائشة رضي الله عنهما، جاز، ولو أنها صلت في بيتها فإن هذا أيضاً تحصل به المشروعية.