شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن طيب بدنه أو ثوبه أو ادهن بمطيب أو شم طيباً أو تبخر بعود ونحوه فدى، وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً ولو تولد منه ومن غيره، أو تلف في يده فعليه جزاؤه، ولا يحرم حيوان إنسي ولا صيد البحر، ولا قتل محرم الأكل ولا الصائل، ويحرم عقد نكاح، ولا يصح، ولا فدية وتصح الرجعة، وإن جامع قبل التحلل الأول فسد نسكهما ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام، وتحرم المباشرة فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه، وعليه بدنة، لكن يحرم من الحل لطواف الفرض، وإحرام المرأة كالرجل إلا في اللباس، وتجتنب البرقع والقفازين وتغطية وجهها، ويباح لها التحلي].

تقدم لنا شيء من محظورات الإحرام، وذكر المؤلف رحمه الله من هذه المحظورات ما يتعلق بحلق الشعر، وذكرنا أن شعر الإنسان لا يخلو من ثلاث حالات: إما أن يكون شعر الرأس، وإما أن يكون الشعر المتعلق بسنن الفطرة، وإما أن يكون باقي شعر البدن، وكذلك أيضاً تقدم لنا من محظورات الإحرام ما يتعلق بتقليم الأظفار وذكرنا دليل ذلك، وأن هذا من المحظورات عند جمهور العلماء رحمهم الله.

وكذلك أيضاً ما يتعلق بلبس المخيط، وذكرنا ما المراد بالمخيط، وذكرنا أيضاً ما يتعلق بعقد الرداء والإزار، وأيضاً تطرقنا لحكم الإزار الذي خيط طرفاه، وذكرنا أن الأقرب في هذه المسألة هو المنع؛ لما تقدم من أن المخيط هو كل ما صنع على البدن كله أو على عضو من أعضائه سواء خيط بالخيط، أو خلل بشوكة، أو لاصق أو نحو ذلك، وذكرنا أن مثل هذه الأشياء أنها عند العرب نوع من أنواع السراويل، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس السراويل.

وأيضاً تكلمنا عن تغطية الرأس، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تغطية الرأس، وكذلك أيضاً ما يتعلق بالوجه، هل للمحرم أن يخمر وجهه أو لا؟

استعمال الطيب

ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى في درس اليوم: (وإن طيب بدنه، أو ثوبه، أو ادهن بمطيب، أو شم طيباً، أو تبخر بعود ونحوه فدى).

هذا هو المحظور الخامس من محظورات الإحرام وهو التطيب، أو نقول: استعمال الطيب؛ سواء استعمله في بدنه أو في ثوبه، أو في طعامه وشرابه، أو في فراشه، أو شمه، أو شم هذا الطيب بقصد التلذذ كما سيأتي إن شاء الله، والدليل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته راحلته: (اغسلوه ولا تقربوه طيباً)، رواه مسلم في صحيحه، وكذلك أيضاً في لفظ: (ولا تحنطوه).

وأيضاً حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس المحرم ثوباً مسه زعفران أو ورس).

وكذلك أيضاً حديث يعلى بن أمية رضي الله تعالى عنه، والإجماع قائم على ذلك، يعني الأئمة متفقون على أن الطيب من محظورات الإحرام.

والحكمة في تحريم الطيب على المحرم والله أعلم: أن الطيب من دواعي الجماع، والجماع هو أغلظ المحظورات، ولهذا إذا فعله المحرم كما سيأتينا قبل التحلل الأول فسد حجه، وكذلك أيضاً إذا فعله بالعمرة قبل أن ينتهي من السعي فإن عمرته تفسد عليه كما سيأتي إن شاء الله.

يقول المؤلف: (وإن طيب بدنه أو ثوبه).

نقول: استعمال الطيب ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: تطييب الثياب، فهذا من محظورات الإحرام ولا شك في ذلك، ويدل لذلك ما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس المحرم ثوباً مسه زعفران أو ورس).

والقسم الثاني: أن يطيب بدنه، فنقول: أيضاً هذا من محظورات الإحرام، ودليل ذلك ما سلف من حديث ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تقربوه طيباً)، ولا شك أن الميت يطيب بدنه كما تقدم في أحكام الجنائز.

القسم الثالث: أن يستعمله في طعامه وشرابه، كما لو شرب زعفران ونحو ذلك، فنقول: بأنه داخل في المحظورات، فما دام أن طعم هذا الطيب ظاهر، أو رائحة هذا الطيب ظاهرة فإنه من المحظورات، أما إذا استعمل في الطعام واستهلك بسبب الطبخ، فإن هذا لا يضر.

وقلنا: بأن هذا من محظورات الإحرام؛ لأن المقصود من الطيب هو الرائحة والترفه بذلك، وهذا الطيب المستعمل في الطعام والشراب توجد فيه هذه الرائحة، ولهذا قلنا: إذا وجدت الرائحة أو وجد الطعم؛ لأن الطعم مستلزم للرائحة.

القسم الرابع: أن يستعمله في فراشه، يعني في الفراش الذي يجلس عليه أو يتكئ عليه أو ينام عليه ونحو ذلك، فنقول: أيضاً هذا من المحظورات، ويدل لذلك أن الفراش داخل في اللباس، ولهذا قال أنس رضي الله تعالى عنه: ولنا حصير قد اسود من طول ما لبس، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً تقدم لنا في شروط الصلاة أن الذكر ليس له أن يلبس الحرير، وأن مما يدخل في ذلك فراش الحرير.

القسم الخامس: شم الطيب، والعلماء يذكرون أن شم الطيب ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن يشمه بقصد التلذذ بالرائحة، فهذا داخل في محظورات الإحرام، وداخل في النهي عن التطيب؛ لأنه كما أسلفنا أن المقصود من الطيب هو الرائحة والتلذذ بذلك.

النوع الثاني: أن يشمه لا لقصد التلذذ برائحته، وإنما بقصد استعلامه، كما لو أراد أن يشتري طيباً ونحو ذلك، وأراد أن يستعلم جودته، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، هل هو داخل في المحظورات أو ليس داخلاً؟ وللعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان، وابن القيم رحمه الله يرى أن هذا ليس داخلاً في محظورات الإحرام.

النوع الثالث من أنواع شم الطيب: أن يشمه بلا قصد، فهذا لا شيء عليه.

وكذلك أيضاً القسم السادس من أقسام التطيب: مس الطيب، وهذا فيه تفصيل: إن كان الطيب لا يعلق بالبدن إذا مس، كما لو مس قطع العود، فإن هذا لا يضر، وإن كان مما يعلق بالبدن إذا مس، فنقول: بأنه إذا تعمد ذلك فإنه داخل في محظورات الإحرام.

القسم السابع: قال لك المؤلف رحمه الله: (أو تبخر بعود.. إلى أن قال: فدى).

التبخر بالطيب داخل في محظورات الإحرام؛ لعموم الأدلة.

قتل الصيد

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً ولو تولد منه ومن غيره، أو تلف في يده فعليه جزاؤه).

هذا السادس من محظورات الإحرام، قتل صيد البر، ودليل ذلك القرآن والسنة والإجماع، أما القرآن فقول الله عز وجل: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1].

وأيضاً قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95].

وكذلك أيضاً حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه في قصة صيده للحمار الوحشي وهو غير حرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل أحد منكم أمره أو أشار إليه بشيء؟ فقالوا: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا ما بقي من لحمه).

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن قتل صيداً).

وانظر إلى عبارة المؤلف قال: (قتل)، يعني: مما يدل على أن هذا الصيد أصبح ميتةً، يعني: عبر بالقتل مما يدل على أنه ميتة؛ لأن الصيد إذا صاده المحرم فإن فعله محرم، ولا يحل هذا الحيوان إلا بتذكية مباحة أو صيد مباح، فيدل على أنه ميتة، وأيضاً الله سبحانه وتعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، فالصيد الذي هو محظور من محظورات الإحرام لا بد فيه من شروط:

الشرط الأول قال: أن يكون مأكولاً، وعلى هذا إذا كان محرم الأكل فلا بأس، فمثلاً لو قتل ذئباً أو فأرةً أو أسداً ونحو ذلك، فإن هذا جائز ولا بأس به، وسيأتي في كلام المؤلف رحمه الله تعالى قوله: (ولا قتل محرم الأكل)، وقتل محرم الأكل لا يخلو من أقسام:

القسم الأول: أن يكون هذا الحيوان مؤذياً، فقتله سنة، والعلماء رحمهم الله يقولون: ما آذى طبعاً قتل شرعاً، فإذا كان مؤذياً؛ طبعه الإيذاء كان قتله سنة، كالأسد والذئب والنمر ونحو ذلك من الحيوانات، ويدخل في ذلك ما أمر الشارع بقتله كالوزغ ونحو ذلك، فإن هذا يكون داخلاً في ما يشرع قتله.

القسم الثاني: ما يحرم قتله، وهو ما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد )، فهذه الأربعة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها.

القسم الثالث: ما عدا هذين القسمين، وهذا كبقية الهوام، كالجعل والخنفسة والعنكبوت، فهذه موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى، فقيل: يباح قتلها؛ لأنه مما سكت الشارع عنه فهو عفو، وقال بعض أهل العلم: يكره قتلها؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلقها لحكمة، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وهذا هو الأولى، فالأولى أن تترك مثل هذه الأشياء.

وقول المؤلف رحمه الله: (صيداً مأكولاً) هذا الشرط الأول: أن يكون مأكولاً، وقوله رحمه الله: (برياً). هذا الشرط الثاني، يعني: أن يكون هذا الصيد برياً فيخرج الصيد البحري، فلو أن المحرم خرج إلى سيف البحر وجعل يصيد فإن هذا جائز ولا بأس به.

ثم قال رحمه الله: (أصلاً). هذا يخرج المستأنس، أو الحيوان الإنسي، كالدجاج وبهيمة الأنعام ونحو ذلك، فهذه يجوز للمحرم أن يذبحها، فأصبحت الشروط:

الشرط الأول: أن يكون مأكولاً.

والشرط الثاني: أن يكون برياً.

والشرط الثالث: أن يكون أصلاً.

فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة فإن هذا من محظورات الإحرام، أما ما عدا ذلك كما لو كان غير مأكول أو كان غير بري وإنما كان بحرياً، أو كان ليس أصلياً، كما لو كان مستأنساً أهلياً، مثل الدجاج ومثل بهيمة الأنعام.. إلى آخره، فإن هذا لا يدخل في محظورات الإحرام، ودليل ذلك ما سلف.

قال المؤلف رحمه الله: (ولو تولد منه ومن غيره).

يعني: لو تولد من المأكول وغير المأكول، فإنه من محظورات الإحرام تغليباً لجانب الحظر، فمثلاً البغل متولد من الحمار والخيل، والسمع وهو متولد بين الضبع والذئب، ومع ذلك نقول: بأنه يحرم قتله؛ لأنه متولد بين مأكول وهو الضبع وبين غير مأكول وهو الذئب.

تلف الصيد في يد المحرم

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (أو تلف في يده).

يعني: سواء صاده أو تلف هذا الصيد في يده، ويؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله تعالى: أن الإنسان إذا أحرم وفي يده صيد فإنه يجب عليه أن يطلقه، وهم يقولون: بأن يد المحرم على الصيد تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: اليد الحكمية. والقسم الثاني: اليد المشاهدة.

اليد الحكمية هي: أن يكون الصيد ليس في يده الحالية، وإنما يكون في بيته، أو يكون في بلده، أو يكون في خيمته.. إلى آخره، فيقولون: بالنسبة لليد الحكمية لو تلف الصيد لا شيء عليه، فلو أحرم وفي بيته صيد، مثلاً: في بيته غزال قد صاده ليس عليه شيء؛ لأنه لا يجب عليه أن يطلقه.

أما اليد المشاهدة وهي ما إذا أحرم وفي يده المشاهدة شيء من الصيد، أحرم مثلاً وفي يده غزال، أو في يده حمامة ونحو ذلك، فالصيد البري حتى ولو استأنس فإنه لا يجوز، يقولون: اليد المشاهدة يجب عليه أن يطلق الصيد، فإذا كان في يده صيد وأحرم وهو في يده، فإنه يجب عليه أن يطلق هذا الصيد، فهم يفرقون بين اليد الحكمية واليد المشاهدة.

والصواب في هذه المسألة: أنه إذا أحرم وفي يده صيد، سواء كانت هذه اليد حكمية أو كانت مشاهدة فإنه لا يجب عليه أن يطلق هذا الصيد، ولو تلف في يده فإنه لا شيء عليه، ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً؛ لأن الشارع إنما نهى عن قتل الصيد، واصطياده بالنسبة للمحرم، وهذا الرجل عندما صاده ليس محرماً، فالصواب في هذه المسألة أنه لا شيء عليه.

قتل الحيوان الإنسي أو البري الصائل في حال الإحرام

قال المؤلف رحمه الله: (فعليه جزاؤه، ولا يحرم حيوان إنسي).

لا يحرم حيوان إنسي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذبح البدن في إحرامه، فنقول: بأن الحيوان إنسي الأصل في ذلك الحل، ولأن الحيوان الإنسي ليس صيداً، والشارع إنما نهى عن الصيد، وهذا ليس صيداً.

قال رحمه الله: (ولا صيد البحر)؛ لقول الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96].

قال رحمه الله: (ولا قتل محرم الأكل) هذه المسألة تقدم الكلام عليها.

قال رحمه الله: (ولا الصائل).

الصائل، يعني: لو صال عليه صيد كغزالة مثلاً فإنه يجوز له أن يقتلها؛ لأن دفع الصائل مأذون فيه شرعاً، والقاعدة: أن ما ترتب على المأذون غير مضمون، فالصائل يقتل حتى ولو كان آدمياً معصوماً، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي؟ قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد ).

فإذا صال عليه حيوان مأكول بري فدافعه ولم يندفع إلا بقتله فإنه لا شيء عليه.

وقبل أن ننتقل من قتل الصيد هناك مسائل متعلقة بقتل الصيد، من هذه المسائل: أن الصيد البري محرم حتى ولو استأنس، ما دام أنه بري أصلاً، حتى ولو استأنس فإنه محرم، وذلك مثل الحمام، والبط، ونحو ذلك، فهذه الأصل أنها برية، ولكنها استأنست، فنقول: بأنها محرمة، بخلاف الحيوان الإنسي كما سلف حتى ولو توحش، فلو ندت ناقته أو ند بعير وهرب واستوحش إلى آخره وجاء المحرم وضربه بالسهم فإن هذا لا شيء فيه، أو توحشت بقرة ونحو ذلك فإنه لا شيء في ذلك.

أكل المحرم من المصيد

المسألة الثانية: أكل المحرم من الحيوان المصيد، هل يجوز أكل المحرم من الحيوان المصيد؟ يعني: إذا صاد حلال حيواناً، فهل يجوز للمحرم أن يأكل من هذا الحيوان، أو نقول: بأنه لا يجوز؟

جمهور العلماء رحمهم الله على التفصيل في هذه المسألة، وهو إن كان الحلال صاده من أجل المحرم فإنه لا يجوز للمحرم أن يأكل منه، وإن كان الحلال لم يصده من أجل المحرم، فإنه يجوز له أن يأكل منه.

والرأي الثاني: رأي الحنفية، يقولون: يحل للمحرم أن يأكل من الصيد الذي صاده الحلال مطلقاً.

والرأي الثالث: ذهب إليه بعض السلف كـالثوري وغيره أنه لا يجوز للمحرم أن يأكل من الصيد الذي صاده الحلال مطلقاً.

والأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله، وبهذا تجتمع الأدلة: حديث أبي قتادة ، وحديث الصعب بن جثامة.

وحديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه لما صاد الحمار الوحشي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل أحد منكم أمره أو أشار إليه بشيء؟ قال: لا، قال: فكله)، فهذا محمول على أن أبا قتادة رضي الله تعالى عنه لم يصده من أجل الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

حديث الصعب بن جثامة لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالصيد رده النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم)، فهذا محمول على أن الصعب رضي الله تعالى عنه صاده من أجل النبي صلى الله عليه وسلم.

وجاء في حديث جابر وإن كان فيه ضعف: (صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم).

والحلال إذا صاده لمحرم نقول: لا يجوز لهذا المحرم الذي صيد من أجله أن يأكل منه، ولكن بالنسبة للمحرم الآخر الذي لم يصد من أجله، فإنه يجوز له أن يأكل منه.

وما صاده المحرم فإنه محرم ولا يجوز، وكذلك لو أن المحرم ذكاه فهو أيضاً محرم ولا يجوز، وعليه الضمان.

وإذا دل المحرم غيره على هذا الصيد، لا يخلو من دله المحرم من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون محرماً مثله، فنقول: بأنه يحرم عليهما وعليهما الجزاء.

القسم الثاني: أن يدل المحرم حلالاً على الصيد، فيصيده الحلال، فهذا الصيد مباح، لكن الجزاء هل يلزم المحرم أو نقول: بأنه لا شيء عليه؟ للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:

الرأي الأول: رأي مالك والشافعي : أن المحرم لا شيء عليه؛ لأنه لم يقتل.

والرأي الثاني: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكذلك أيضاً مذهب أبي حنيفة : أن الجزاء على المحرم؛ لأن المحرم وإن لم يباشر لكنه تسبب، وابن رجب رحمه الله ذكر في كتابه القواعد قاعدة جيدة وهي: ما إذا اجتمع مباشر ومتسبب، إذا اجتمع مباشر ومتسبب فالأصل هو تضمين المباشر، هذا الأصل، ولكن إذا لم نتمكن من تضمين المباشر فإننا نصير إلى تضمين المتسبب، وهنا اجتمع مباشر ومتسبب ولا نتمكن من تضمين الحلال؛ لأنه يباح له أن يصيد فنصير إلى تضمين المحرم.

عقد النكاح

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويحرم عقد نكاح).

هذا المحظور السابع من محظورات الإحرام وهو عقد النكاح، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، واستدلوا على ذلك بحديث عثمان في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينكح المحرم أو أن ينكح).

وعند الحنفية أن عقد النكاح ليس من محظورات الإحرام، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهما حرم، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

وأجاب جمهور العلماء رحمهم الله تعالى على ذلك بأجوبة:

الجواب الأول: أن ميمونة رضي الله تعالى عنها صاحبة القصة أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، وأبو رافع السفير بينهما أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال.

وكذلك أيضاً من الأجوبة في ذلك: أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يعلم بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة إلا بعد أن أحرم، فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، فالصواب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.

وعندنا ثلاثة: الزوجان والولي، فإذا كان واحد منهما محرماً بحج أو عمرة فإن عقده لا يصح، في العمرة لا يصح العقد حتى يحصل التحلل من العمرة، وأما بالنسبة للحج فهذا موضع خلاف بين أهل العلم، كثير من العلماء يقولون: بأن التحريم يستمر إلى أن يحل الحاج التحلل الثاني، يعني: بعد التحلل الأول ليس له أن يعقد عقد النكاح.

والرأي الثاني وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه بعد التحلل الأول له أن يعقد عقد النكاح، يعني: هو يحرم عليه أن يجامع أو أن يباشر، ولكن ما يتعلق بالعقد له أن يعقد، يعني: بدء التحريم من حين الإحرام، ولكن يستمر إلى متى؟ هل يستمر إلى التحلل الأول أو يستمر إلى التحلل الثاني؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، وبما أن عقد النكاح عقد تستباح به الفروج، ويحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره، فنقول: الأحوط هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.

قال رحمه الله: (ولا يصح ولا فدية).

يعني: لا فدية في عقد النكاح؛ لأنه لم يرد فيه شيء.

قال رحمه الله: (وتصح الرجعة).

يقول المؤلف: المراجعة تصح، وهي إعادة مطلقته غير البائن إلى ما كانت عليه ما دامت في العدة، فيقول المؤلف رحمه الله: تصح المراجعة، وهذا مبني على قاعدة: أن الاستدامة أقوى من الابتداء، والدفع أهون من الرفع، أن الاستدامة أقوى من الابتداء، فهنا ابتداء النكاح في حال الإحرام لا يجوز، ولكن استدامته جائز ولا بأس به، فكونه يراجع المحرم، نقول: هذا ليس عقداً وإنما هو استدامة لعقده، والاستدامة أقوى من الابتداء.

وأما خطبة المرأة فالمشهور من المذهب أنها جائزة، يعني كون الإنسان يخطب امرأةً وهو محرم، فهذا جائز، ولكنه يكره.

والرأي الثاني: رأي ابن عقيل رحمه الله واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كما في حديث عثمان : (ولا يخطب)، والصواب في ذلك: أنه محرم ولا يجوز.

الجماع

قال المؤلف رحمه الله: (وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما).

هذا الثامن من محظورات الإحرام، وهو أشد المحظورات؛ ولهذا وجبت فيه الكفارة المغلظة، البدنة، ودل على ذلك القرآن والسنة وآثار الصحابة وإجماع المسلمين.

أما القرآن فقول الله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، الرفث كما قال ابن عباس : الجماع ودواعي الجماع، وأيضاً في الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق)، قال: لم يرفث.

وآثار الصحابة كما سيأتينا إن شاء الله في قضاء عبد الله بن عمرو وابن عباس وابن عمر على من جامع أنه يمضي في حجه، وأن عليه البدنة، وأنه يقضي.

والجماع هو تغييب الحشفة، وهي رأس الذكر، فهذا التغييب هو الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية، ومن ذلك ما يتعلق بفساد الحج، فإذا جامع المحرم فإنه لا يخلو من ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون جماعه قبل الوقوف بعرفة، فإذا كان قبل الوقوف بعرفة فهذا يفسد باتفاق الأئمة رحمهم الله.

الحالة الثانية: أن يكون جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول، فجمهور العلماء على أنه يفسد حجه.

وعند الحنفية: أنه لا يفسد حجه ما دام أنه جامع بعد الوقوف بعرفة.

ويستدل الحنفية بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة)؛ لأنه أتى بركن الحج الأعظم.

وأما الجمهور فإنهم يستدلون بآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والذي يظهر والله أعلم أنه ما دام أن هذا ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فنقول بأن هذا هو الأحوط والأقرب، والله أعلم.

الحالة الثالثة: أن يجامع بين التحللين، يعني بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني، فهذا لا يفسد حجه عند جماهير العلماء رحمهم الله، يقولون: فهو يأثم كما سيأتينا وعليه التوبة، وتلزمه الفدية.

قال المؤلف رحمه الله: (فسد نسكهما، ويمضيان فيه، ويقضيانه ثاني عام، وتحرم المباشرة).

إذا جامع قبل التحلل الأول يلزمه خمسة أمور:

الأمر الأول: التوبة؛ لأنه آثم.

والأمر الثاني: فساد الحج.

والأمر الثالث: المضي في هذا الحج الفاسد.

والأمر الرابع: القضاء، فيجب عليه أن يقضيه.

والأمر الخامس: يجب عليه بدنة.

وقول المؤلف رحمه الله: (ويمضيان فيه) هذا ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله تعالى، يعني: الأئمة يتفقون على ذلك؛ أنه يمضي في هذا الحج الفاسد، وهذا من خصائص الحج، وسائر العبادات إذا فسدت يجب أن يخرج منها، ولكن الحج يجب عليه أن يمضي فيه، وذلك لشدة لزوم الحج، ولهذا الله عز وجل سماه نذراً، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29].

والرأي الثاني: رأي ابن حزم رحمه الله تعالى وداود الظاهري يقولون: بأنه لا يجب عليه أن يمضي في هذا الحج الفاسد، ولكن هذا فيه نظر، فقد ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم منهم ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عن الجميع أنه يمضي.

قال رحمه الله: (ويقضيانه ثاني عام) أيضاً يجب القضاء، ويدل لذلك أنه وارد عن الصحابة بأسانيد صحيحة عن ابن عباس ، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وتجب عليه البدنة كما سيأتي إن شاء الله.

قلنا: الحالة الثالثة: إذا جامع بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني، هذا لا يفسد نسكه باتفاق الأئمة، وذهب النخعي رحمه الله تعالى، وكذلك أيضاً حماد والزهري على أنه إن وطئ بعد جمرة العقبة فإنه يفسد نسكه، والأقرب في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.

وإذا جامع بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني يلزمه ما يلي:

الأمر الأول: التوبة.

الأمر الثاني: فدية أذى، الفقهاء يقولون: شاة، والصواب فدية أذى.

أما بالنسبة لفساد الحج فلا يفسد حجه، ولا يجب عليه القضاء ويمضي فيه.

المباشرة

قال رحمه الله: (وتحرم المباشرة).

هذا هو التاسع من محظورات الإحرام، ودليل ذلك قول الله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، وتقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق)؛ ولأن الوسائل لها أحكام المقاصد، فالمباشرة وسيلة إلى الجماع المحرم.

قال رحمه الله: (فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه، وعليه بدنة).

إذا فعل فأنزل لم يفسد حجه عند جمهور العلماء رحمهم الله تعالى، خلافاً للإمام مالك رحمه الله الذي يرى أنه إذا باشر حتى أنزل فسد حجه، والصحيح في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم أنه لا يفسد؛ لأن الإنزال أقل من الجماع، والأصل هو صحة العبادة، أما إذا لم ينزل فهذا لا يفسد حجه بالاتفاق.

قال رحمه الله: (وعليه بدنة).

هذا ما ذهب إليه المؤلف، والرواية الثانية عن الإمام أحمد : أن عليه شاة، وسيأتينا إن شاء الله أن الصواب أن عليه فدية أذى، فتبين لنا أنه إذا باشر أنزل أو لم ينزل حجه لا يفسد ولكن يتوب وعليه فدية أذى، والمؤلف رحمه الله إذا أنزل يرى أن عليه بدنة، والرواية الثانية عن الإمام أحمد : أن عليه شاة، والصواب: أنها فدية أذى أنزل أو لم ينزل، ولكن يحرم لطواف الفرض، فيقول المؤلف رحمه الله: (يحرم لطواف الفرض) وهذا سبق قلم من المؤلف، فهذا الحكم ذكره العلماء رحمهم الله فيمن جامع بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني، يعني: يخرج إلى الحل ويحرم مرةً أخرى؛ لكي يطوف الفرض، وظاهر كلام المؤلف أنه فيما إذا باشر فأنزل، والفقهاء يذكرون هذا الحكم فيمن جامع بعد التحلل الأول، فنحن ذكرنا أن من جامع في التحلل لا يفسد حجه، ويمضي في الحج، ولا يجب عليه القضاء، ولكن يقولون: بأنه يخرج إلى الحل، ويحرم مرةً أخرى، فهم يقولون: ما فسد الحج، ولكن فسد الإحرام، فهو يحرم لكي يطوف طواف الفرض محرماً، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.

والرأي الثاني في هذه المسألة: أنه لا يلزمه، مذهب الشافعية وكذلك أيضاً مذهب الحنفية أنه لا يلزمه أن يخرج وأن يجدد الإحرام، ومذهب المالكية والحنابلة يقولون: يلزمه أن يخرج وأن يجدد الإحرام، وهذا فيمن جامع بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني، وليست في المباشرة، والصحيح الرأي الثاني -رأي الشافعية والحنفية- أنه لا يلزمه أن يخرج مرةً أخرى.

ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى في درس اليوم: (وإن طيب بدنه، أو ثوبه، أو ادهن بمطيب، أو شم طيباً، أو تبخر بعود ونحوه فدى).

هذا هو المحظور الخامس من محظورات الإحرام وهو التطيب، أو نقول: استعمال الطيب؛ سواء استعمله في بدنه أو في ثوبه، أو في طعامه وشرابه، أو في فراشه، أو شمه، أو شم هذا الطيب بقصد التلذذ كما سيأتي إن شاء الله، والدليل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته راحلته: (اغسلوه ولا تقربوه طيباً)، رواه مسلم في صحيحه، وكذلك أيضاً في لفظ: (ولا تحنطوه).

وأيضاً حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس المحرم ثوباً مسه زعفران أو ورس).

وكذلك أيضاً حديث يعلى بن أمية رضي الله تعالى عنه، والإجماع قائم على ذلك، يعني الأئمة متفقون على أن الطيب من محظورات الإحرام.

والحكمة في تحريم الطيب على المحرم والله أعلم: أن الطيب من دواعي الجماع، والجماع هو أغلظ المحظورات، ولهذا إذا فعله المحرم كما سيأتينا قبل التحلل الأول فسد حجه، وكذلك أيضاً إذا فعله بالعمرة قبل أن ينتهي من السعي فإن عمرته تفسد عليه كما سيأتي إن شاء الله.

يقول المؤلف: (وإن طيب بدنه أو ثوبه).

نقول: استعمال الطيب ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: تطييب الثياب، فهذا من محظورات الإحرام ولا شك في ذلك، ويدل لذلك ما تقدم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس المحرم ثوباً مسه زعفران أو ورس).

والقسم الثاني: أن يطيب بدنه، فنقول: أيضاً هذا من محظورات الإحرام، ودليل ذلك ما سلف من حديث ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تقربوه طيباً)، ولا شك أن الميت يطيب بدنه كما تقدم في أحكام الجنائز.

القسم الثالث: أن يستعمله في طعامه وشرابه، كما لو شرب زعفران ونحو ذلك، فنقول: بأنه داخل في المحظورات، فما دام أن طعم هذا الطيب ظاهر، أو رائحة هذا الطيب ظاهرة فإنه من المحظورات، أما إذا استعمل في الطعام واستهلك بسبب الطبخ، فإن هذا لا يضر.

وقلنا: بأن هذا من محظورات الإحرام؛ لأن المقصود من الطيب هو الرائحة والترفه بذلك، وهذا الطيب المستعمل في الطعام والشراب توجد فيه هذه الرائحة، ولهذا قلنا: إذا وجدت الرائحة أو وجد الطعم؛ لأن الطعم مستلزم للرائحة.

القسم الرابع: أن يستعمله في فراشه، يعني في الفراش الذي يجلس عليه أو يتكئ عليه أو ينام عليه ونحو ذلك، فنقول: أيضاً هذا من المحظورات، ويدل لذلك أن الفراش داخل في اللباس، ولهذا قال أنس رضي الله تعالى عنه: ولنا حصير قد اسود من طول ما لبس، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً تقدم لنا في شروط الصلاة أن الذكر ليس له أن يلبس الحرير، وأن مما يدخل في ذلك فراش الحرير.

القسم الخامس: شم الطيب، والعلماء يذكرون أن شم الطيب ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن يشمه بقصد التلذذ بالرائحة، فهذا داخل في محظورات الإحرام، وداخل في النهي عن التطيب؛ لأنه كما أسلفنا أن المقصود من الطيب هو الرائحة والتلذذ بذلك.

النوع الثاني: أن يشمه لا لقصد التلذذ برائحته، وإنما بقصد استعلامه، كما لو أراد أن يشتري طيباً ونحو ذلك، وأراد أن يستعلم جودته، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، هل هو داخل في المحظورات أو ليس داخلاً؟ وللعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان، وابن القيم رحمه الله يرى أن هذا ليس داخلاً في محظورات الإحرام.

النوع الثالث من أنواع شم الطيب: أن يشمه بلا قصد، فهذا لا شيء عليه.

وكذلك أيضاً القسم السادس من أقسام التطيب: مس الطيب، وهذا فيه تفصيل: إن كان الطيب لا يعلق بالبدن إذا مس، كما لو مس قطع العود، فإن هذا لا يضر، وإن كان مما يعلق بالبدن إذا مس، فنقول: بأنه إذا تعمد ذلك فإنه داخل في محظورات الإحرام.

القسم السابع: قال لك المؤلف رحمه الله: (أو تبخر بعود.. إلى أن قال: فدى).

التبخر بالطيب داخل في محظورات الإحرام؛ لعموم الأدلة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً ولو تولد منه ومن غيره، أو تلف في يده فعليه جزاؤه).

هذا السادس من محظورات الإحرام، قتل صيد البر، ودليل ذلك القرآن والسنة والإجماع، أما القرآن فقول الله عز وجل: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1].

وأيضاً قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95].

وكذلك أيضاً حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه في قصة صيده للحمار الوحشي وهو غير حرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل أحد منكم أمره أو أشار إليه بشيء؟ فقالوا: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا ما بقي من لحمه).

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن قتل صيداً).

وانظر إلى عبارة المؤلف قال: (قتل)، يعني: مما يدل على أن هذا الصيد أصبح ميتةً، يعني: عبر بالقتل مما يدل على أنه ميتة؛ لأن الصيد إذا صاده المحرم فإن فعله محرم، ولا يحل هذا الحيوان إلا بتذكية مباحة أو صيد مباح، فيدل على أنه ميتة، وأيضاً الله سبحانه وتعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، فالصيد الذي هو محظور من محظورات الإحرام لا بد فيه من شروط:

الشرط الأول قال: أن يكون مأكولاً، وعلى هذا إذا كان محرم الأكل فلا بأس، فمثلاً لو قتل ذئباً أو فأرةً أو أسداً ونحو ذلك، فإن هذا جائز ولا بأس به، وسيأتي في كلام المؤلف رحمه الله تعالى قوله: (ولا قتل محرم الأكل)، وقتل محرم الأكل لا يخلو من أقسام:

القسم الأول: أن يكون هذا الحيوان مؤذياً، فقتله سنة، والعلماء رحمهم الله يقولون: ما آذى طبعاً قتل شرعاً، فإذا كان مؤذياً؛ طبعه الإيذاء كان قتله سنة، كالأسد والذئب والنمر ونحو ذلك من الحيوانات، ويدخل في ذلك ما أمر الشارع بقتله كالوزغ ونحو ذلك، فإن هذا يكون داخلاً في ما يشرع قتله.

القسم الثاني: ما يحرم قتله، وهو ما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد )، فهذه الأربعة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها.

القسم الثالث: ما عدا هذين القسمين، وهذا كبقية الهوام، كالجعل والخنفسة والعنكبوت، فهذه موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى، فقيل: يباح قتلها؛ لأنه مما سكت الشارع عنه فهو عفو، وقال بعض أهل العلم: يكره قتلها؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلقها لحكمة، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وهذا هو الأولى، فالأولى أن تترك مثل هذه الأشياء.

وقول المؤلف رحمه الله: (صيداً مأكولاً) هذا الشرط الأول: أن يكون مأكولاً، وقوله رحمه الله: (برياً). هذا الشرط الثاني، يعني: أن يكون هذا الصيد برياً فيخرج الصيد البحري، فلو أن المحرم خرج إلى سيف البحر وجعل يصيد فإن هذا جائز ولا بأس به.

ثم قال رحمه الله: (أصلاً). هذا يخرج المستأنس، أو الحيوان الإنسي، كالدجاج وبهيمة الأنعام ونحو ذلك، فهذه يجوز للمحرم أن يذبحها، فأصبحت الشروط:

الشرط الأول: أن يكون مأكولاً.

والشرط الثاني: أن يكون برياً.

والشرط الثالث: أن يكون أصلاً.

فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة فإن هذا من محظورات الإحرام، أما ما عدا ذلك كما لو كان غير مأكول أو كان غير بري وإنما كان بحرياً، أو كان ليس أصلياً، كما لو كان مستأنساً أهلياً، مثل الدجاج ومثل بهيمة الأنعام.. إلى آخره، فإن هذا لا يدخل في محظورات الإحرام، ودليل ذلك ما سلف.

قال المؤلف رحمه الله: (ولو تولد منه ومن غيره).

يعني: لو تولد من المأكول وغير المأكول، فإنه من محظورات الإحرام تغليباً لجانب الحظر، فمثلاً البغل متولد من الحمار والخيل، والسمع وهو متولد بين الضبع والذئب، ومع ذلك نقول: بأنه يحرم قتله؛ لأنه متولد بين مأكول وهو الضبع وبين غير مأكول وهو الذئب.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2818 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2731 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2644 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2640 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2558 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2555 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2528 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2521 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2498 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [6] 2431 استماع