الوسطية الإيمانية والرد على المخالف
مدة
قراءة المادة :
46 دقائق
.
الوسطية الإيمانية والرد على المخالف1- الوسطية في الإسلام:
الوسطية مأخوذةٌ من كلمة (وسط)، وهي تُستَعمل في معانٍ عدَّة:
فتأتي بمعنى الخيار والعدل.
وتُستَعمل لما كان بين شرَّين وهو خير.
وقد جاء وصف الأمَّة بالوسطية في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].
وسطًا: كاملين معتدلين ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ ﴾ [البقرة: 143]، وصحَّ عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنَّه فسَّر الوسط في الآية بمعنى "العدل" كما في البخاري (5/151).
وقد أمَر الله تعالى بالعدل في قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90]، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [النساء: 135].
فدِينُ الله تعالى إلى وسَطٌ بين الغلوِّ والدُّعاء، والإفراط والتفريط، وهذا هو الصِّراط المستقيم الذي أمرنا أنْ نسأل الله تعالى أنْ يهدينا إليه كلَّ يومٍ في صلاتنا بقولنا: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6، 7].
والذين أنعَمَ الله عليهم قد بيَّنهم الله تعالى بقوله: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
وأمَّا المغضوب عليهم والضالُّون فهم اليهود والنصارى؛ كما صحَّ عن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- الذين فارَقوا الصراط المستقيم تارةً بالغلو والإفراط، وتارةً بالجفاء والتفريط، وقد خاطبَهُم الله تعالي بقوله: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 77].
قال الطبري: "يقول: لا تُفرطوا في القول فيما تَدينون به من أمرِ المسيح فتجاوزوا فيه الحقَّ إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبدُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه"؛ ("التفسير": 6/316).
وتشهدُ هذه الأمَّة على الأمم السابقة حين تُنكر الرسالات، وتفتري الكذب، ظانَّةً أنَّ ذلك يخفَى على العليم الخبير، فتشهدُ هذه الأمَّة المباركة لنوحٍ- عليه الصلاة والسلام- بأنَّه بلغ الرسالة وأدَّى الأمانة، كما في حديث نوح- عليه السلام- الذي (رواه البخاري: 8/171).
وقد وردت الأحاديث التي تحذِّر من الغلوِّ، ومنها:
1- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- غداةَ جمع (المزدلفة): ((هلم القط لي الحصى)) فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلمَّا وضعتهنَّ في يده قال: ((نعم، بأمثال هؤلاء، وإيَّاكم والغلوَّ في الدِّين؛ فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلوُّ في الدِّين))؛ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وهو صحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة- رحمه الله -: "وهذا عامٌّ في جميع أنواع الغلوِّ في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخلٌ فيه؛ مثل: الرمي بالحجارة الكبار؛ بناءً على أنها أبلغ من الصغار، ثم علَّله بما يقضي مجانبة هديهم؛ أي: هدي مَن كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأنَّ المشارك لهم في بعض هديهم يخافُ عليه من الهلاك، انتهى ("تيسير العزيز الحميد" صـ275).
وكم في المسلمين اليوم مَن يُخالف هديَ النبي- صلى الله عليه وسلم- ويقع في الغلوِّ برميه بالحصى الكبار، فيغلو في دينه ويُؤذي إخوانه.
2- وقال- صلى الله عليه وسلم -: ((هلك المتنِّطعون)) قالها ثلاثًا؛ رواه مسلم.
والمتنطِّعون: المتعمِّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، قاله النووي في "شرح مسلم" (16/ 220).
3- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبيِّ- صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ هذا الدِّين يسرٌ، ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، فسَدِّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة))؛ أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: والمعنى: لا يتعمَّق أحد في الأعمال الدينيَّة، ويترك الرِّفق إلا عجز وانقطع فيغلب ("الفتح": 1/94).
4- وعن عبدالرحمن بن شبل أنَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((اقرؤا القُرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه))؛ أخرجه الإمام أحمد.
قال المناوي: ولا تغلوا فيه: تجاوزوا حدَّه من حيث لفظه أو معناه بأنْ تتأوَّلوه بباطل، أو المراد: لا تبذلوا جهدكم في قراءته وتترُكوا غيره من العبادات، فالجفاء عنه التقصير، والغلوُّ التعمق فيه، وكلاهما شنيع، وقد أمَر الله بالتوسُّط في الأمور فقال: ﴿ لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ﴾ [الفرقان: 67]؛ "فيض القدير": (2/64).
كما جاء في القُرآن التحذيرُ من التفريط والتساهل؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
وقال تعالى: ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ [الزمر: 56].
قال الطبري: (24/ 19): يقول: على ما ضيَّعت من العمل بما أمرني الله به، وقصَّرت في الدنيا في طاعة الله.
وقال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أما إنَّه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على ما لم يُصلِّ الصلاة حتى يجيءَ وقت الصلاة الأخرى...))؛ رواه مسلم (1/473).
قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر الشيطان فيه نزعتان: إمَّا إلى تفريطٍ وتقصيرٍ، وإمَّا إلى محاوزة وغلوٍّ، ولا يُبالي بأيِّهما ظفر.
قال ابن القيم- رحمه الله -: "وقد اقتطع أكثر الناس- إلا أقل القليل- في هذين الواديين: وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدِّي، والقليل منهم جدًّا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه"؛ ("إغاثة اللهفان" 1/116).
وبهذا تعلمُ غربة مَن ثبت على الوسطية وقلَّتهم في كلِّ زمان ومكان.
كل خير وفضل ثبت لهذه الأمَّة فلأهل السُّنَّة والجماعة منه الحظُّ الأوفر والقدح المعلَّى، فهم الطائفة التي تتحقَّق فيها الوسطية المطلقة لهذه الأمَّة.
تسأل الله تعالى بمنِّه وكرمه أنْ يحعلنا من الأمَّة الوسط وأنْ يُعافينا من هذين المرضين، إنه سميع قريب مجيب.
ولعلَّنا نستعرض وجوه الوسطية في شرعنا المطهَّر؛ لتتَّضح صورها للقارئ الكريم:
1- الوسطية في "الإيمان بالله تعالى" والرد على المخالف:
لا شكَّ أنَّ أعظم الانحِراف عن الصِّراط المستقيم ما وقع في التوحيد وأركان الإيمان، وأعظم ذاك ما وقع في الإيمان بالله تعالى وتوحيده في أسمائه وصفاته وأفعاله؛ لأنَّ بقيَّة الأركان تبعٌ له، وقد ضلَّت فيه طوائف كثيرة بين الإفراط والتفريط.
فنجد اليهود قد وصَفُوا الله تعالى بصفات النقص التي يتنزَّه عنها حتى بعض المخلوقين، وشبَّهوا الخالق بالمخلوق، فقالوا: إنَّه بخيل، وفقير، وأنَّه لمَّا خلق السماوات والأرض في ستَّة أيَّام استراح يوم السابع (يوم السبت)!
وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك في كتابه، وردَّ عليهم وتوعَّدهم بأليم العذاب؛ قال سبحانه عنهم: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64].
فاليهود حين ضيَّق الله تعالى عليهم أرزاقَهم؛ عقوبة لهم على عصيانهم أوامر الرسل- صلوات الله عليهم وسلامه- قالوا: يد الله "مغلولة"، وكنوا بذلك عن بخلِه بالعطاء، كما يُكنى ببسط اليد بالجود والسَّخاء، فقال تعالى: ﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [المائدة: 64]، وهو دعاء عليهم بالبخل؛ ومن ثَمَّ كان اليهود أبخل خلق الله تعالى، أو هو دعاءٌ عليهم بأنْ يُعذَّبوا في جهنَّم بالأغلال التي تُوضع في الأعناق ﴿ ولعنوا بما قالوا ﴾؛ أي: طردوا من رحمة الله وأُبعِدوا، وهو دعاء ثانٍ عليهم ﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾؛ أي: بالجود والعطاء، الذي لا نهايةَ له ﴿ ينفق كما يشاء ﴾ فيُعطي مَن يشاء، ويمنع مَن يشاء، بحكمته وعلمه سبحانه.
وقال تعالى عنهم: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [آل عمران: 181].
فقد روى الطبري بسنده إلى ابن عباس: أنَّ فنحاص اليهودي قال لأبي بكر- رضي الله عنه -: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقرٍ، وإنَّه إلينا فقير، وما نتضرَّع إليه كما تضرَّع إلينا، وإنَّا عنه الأغنياء، ولو كان عنَّا غنيًّا ما استقرض منَّا كما يزعُم صاحبك! فغضب أبوبكر فضربه على وجهه، وفيه نزلت الآية السابقة.
وردَّ الله عليهم أيضًا قولهم: إنَّ الله استراح اليوم السابع، فقال: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38].
فالشاهد أن هذه الآيات وأمثالها، ردَّت على اليهود أقوالهم المتضمِّنة نسبة النقص في صفات الله تعالى العُلى، وما يُخالف أسماءه الحسنى.
أمَّا النَّصارى فقد شبَّهوا المخلوق بالخالق؛ فوصفوا رسولَ الله وعبدَه عيسى- عليه السلام- بصفات الخالق، وأعطوه خصائص الرب التي لا تليقُ إلا به! فقالوا: إنَّه يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويتوبُ على المذنبين...
وغير ذلك، فجاءت الآيات القرآنية لتبيِّنَ لهم خروجهم عن الصراط المستقيم، وعن العدل والوسط، وتردَّ عليهم انحِرافهم؛ فقال- جلَّ وعزَّ -: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 17].
فهذه الفرقة من النصارى ادَّعت أنَّ عيسى- عليه السلام- هو الله! فردَّ الله عليهم بقوله: ﴿ قل فمن يملك من الله شيئًا ﴾؛ أي: ومَن يقدر أنْ يدفع من أمر الله شيئًا إذا قضاه؟! ﴿ إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا ﴾.
وفرقة أخرى قالت: إنَّ الإله ثلاثة في واحد، فقال- عزَّ وجلَّ -: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 73].
وثالثة قالت ببنوة عيسى- عليه السلام- قال- جلَّ ذكره -: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30].
فقوله: ﴿ ذلك قولهم بأفواههم ﴾؛ أي: ليس لهم دليلٌ على مقولتهم هذه ولا برهان، بل مجرَّد القول، ﴿ يضاهؤون ﴾؛ أي: يُشابهون بقولهم الشنيع هذا قول المشركين الذين قالوا: الملانكة بنات الله ﴿ قاتلهم الله ﴾ دعاء عليهم باللعنة أو الهلاك ﴿ أنى يؤفكون ﴾؛ أي: كيف يُصرَفون عن الحق الواضح المبين؛ وهو استحالة أنْ يكون له ولد سبحانه إلى الباطل المحال، كما قال في سورة الأنعام: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 101].
أي: هو الذي أبدع السماوات والأرض فخلقها على غير مثال سابق، ولم تكن له زوجة، فكيف يكون له ولد؟! والمعلوم أنَّه لا يكون الولد إلا من الزوجة، والله تعالى لا مثلَ له ولا نظير، فانتفى بذلك حصولُ الولد.
فالقُرآن الكريم قد بيَّن للأمَّة الوسط ضلال الطائفتين: الغالية والجافية، المُفرِطة والمُفرِّطة؛ لتسلكَ السبيل الأقوم؛ فتسعد في الدارين، جعلنا الله تعالى منهم، وحشرنا في زمرتهم، والحمد لله ربِّ العالمين.
2- الوسطية في "أسماء الله تعالى وصفاته":
أمَّة الإسلام وسط بين الأمم؛ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]، وأهل السُّنَّة والجماعة وسط بين الفرق، كما أنَّ الأمَّة هي الوسط في الأمم.
ومن ذلك وسطيَّتهم في أسماء الله تعالى وصفاته.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة- رحمه الله تعالى- في "العقيدة الواسطية": "فهم- أي: أهل السُّنَّة- وسط في باب صفات الله- سبحانه وتعالى- بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، ا.هـ.
هذان طرفان متطرِّفان: أهل التعطيل الجهميَّة، وأهل التمثيل المشبِّهة.
فالجهمية يُنكرون صفات الله- عزَّ وجلَّ- بل مَن غلا منهم يُنكر أسماء الله تعالى، كما يُؤثَر على الجهم أنَّه قال: لو قلت: إنَّ لله تسعًا وتسعين اسمًا، لعبدت تسعًا وتسعين إلهًا! نقله الحافظ في "الفتح" (13/378).
فلا يثبتونه اسمًا ولا صفة ويجعلون صِفاته من باب المجاز، والمعتزلة يُنكرون صفات الله ويُثبتون الأسماء، والأشعريَّة يُثبتون الأسماء وسبعًا من الصفات وبعضهم ثلاثة عشرة!
قال الشيخ ابن عثيمين- رحمه الله تعالى- في شرحه للواسطيَّة: وكلُّ هؤلاء يشملهم اسمُ التعطيل، لكن بعضهم معطِّل تعطيلاً كاملاً كالجهميَّة، وبعضهم تعطيلاً نسبيًّا، مثل المعتزلة والأشاعرة، انتهى.
وأمَّا أهل التمثيل والتشبيه فيُثبتون صفات الله تعالى، ويقولون: يجب إثباتها له تعالى، لكن يقولون: إنها مثل صفات المخلوقين؛ فالسمع والبصر كالسمع والبصر في المخلوق، وهؤلاء غلوا في الإثبات وضلُّوا!
أمَّا الأمَّة الوسط فهم الذين قالوا: نُثبت لله تعالى الأسماء الحسنى والصفات العُلى التي جاءت في القُرآن والسُّنَّة، ولا نردُّ شيئًا منها، وفي الوقت نفسه لا نُشبِّه شيئًا منها بصفات المخلوقين، وبرهانهم في ذلك قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فقوله- عزَّ وجلَّ -: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ نفيٌ للتمثيل والتشبيه، ﴿ وهو السميع البصير ﴾ إثباتٌ للأسماء والصفات.
قال نعيم بن حماد (شيح الإمام البخاري): مَن شبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومَن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيهًا؛ أخرجه الذهبي في "العلو" (ص126).
وقال الشافعي في "الرسالة" (ص 6): ولا يبلغ الواصفون كُنهَ عظمته، الذي هو كما وصَف نفسه، وفوق ما يصفُه به خلقه.
وقال أبو الحسن الأشعري- رحمه الله تعالى- في كتابه "اختلاف المصلين ومقالات المسلمين": "ذكر مقالة أهل السُّنَّة وأصحاب الحديث: جملة قولهم: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- لا يردُّون من ذلك شيئًا.
وأنَّ الله على عرشه كما قال: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، وأنَّ له يدين بلا كيفٍ كما قال: ﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]، وأنَّ أسماء الله لا يُقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علمًا كما قال: ﴿ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ﴾ [النساء: 166]، ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾ [فاطر: 11]، وأثبتوا السمعَ والبصرَ ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفَتْه المعتزلة...
إلى آخِر كلامه- رحمه الله- في إثبات الصفات.
وهذه العقيدة الوسط هي التي كان عليها النبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه- رضي الله عنهم أجمعين- وعنهم تلقَّاها التابعون لهم بإحسانٍ؛ كما قال سبحانه: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، وقال- سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
فالإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته خروجٌ عن منهج الوسطيَّة الذي حدَّد معالمَه القُرآنُ وأثبَتَه؛ فمَن أنكر اسمًا من أسماء الله تعالى آو صفةً من صفاته فقد ألحدَ في أسماء الله وانحرف عن الصراط المستقيم، والواجب أن يدعى الله تعالى بأسمائه الحسنى كما قال- عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180] وقال: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الإسراء: 110].
والآيات التي جاءت مُثبتةً لأسماء الله تعالى وصفاته كثيرة جدًّا؛ كسورة الإخلاص وآية الكرسي وأواخر سورة الحشر وغيرها كثير جدًّا، والآيات التي جاءت منزِّهة لله عمَّا يصفه به الواصفون بغير علمٍ ولا برهان كثيرة وهي أقل من المثبتة؛ كقوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنعام: 100]، وقال: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 43].
فمذهب أهل الحق الذين على الصراط المستقيم تشهدُ له آيات الكتاب وتُؤيِّده السُّنَّة المطهَّرة، وعليه فهم صحابة الرسول- صلَّى الله عليه وسلَّم- الكرام، جعَلَنا الله تعالى من أتباعهم، وحشرنا في زُمرتهم، آمين، والحمد لله رب العالمين.
3- وسطية أهل السنة في أفعال العباد:
قد بيَّنَّا فيما سبق أنَّ أمَّة الإسلام وسطٌ بين الأمم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143].
وأنَّ أهل السُّنَّة والجماعة وسط بين الفرق وأهل الأهواء والبدع.
ومن ذلك "أفعال العباد" وعلاقتها بالخالق سبحانه.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميَّة- رحمه الله تعالى -: وهم- أي: أهل السُّنَّة والجماعة- وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية؛ ["الواسطية" ص186].
وقال الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى -: وقصَّر بقوم حتى قالوا: إنَّ الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم، ولكنَّهم يعملونها بدون مشيئة الله تعالى وقدرته، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: إنهم لا يفعلون شيئًا ألبتَّة، وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقةً، فهي نفس فعله لا أفعالهم، والعبيد ليس لهم قدرةٌ ولا فعلٌ ألبتَّة! "إغاثة اللهفان".
فقد ضلَّ في باب أفعال العباد طائفتان: الجبرية: وهم الجهمية القائلون: إنَّ العباد لا إرادة لهم، ولا قُدرة لهم على فعل الطاعات، ولا ترك المنهيَّات، وهم مجبورون على فعل ذلك كله! وهذا غلوٌّ وتطرُّف.
فالعبد عندهم مجبورٌ على فعله، وحركاته وأفعاله اضطراريَّة كحركة المرتعِش، ولا عُروق النابضة، وكحركات الأشجار في مهبِّ الريح، وإضافتها إلى الخلقِّ مجاز! وإنما الله هو فاعل تلك الأفعال، فهي فعله حقيقة لا أفعالهم، فعندهم أنَّ المؤمنين ما صلَّوا ولا صاموا، ولا زكوا ولا حجوا، والمجرمون ما كفَرُوا ولا كذبوا، ولا سرقوا ولا زنوا!
قال ابن مانع- رحمه الله تعالى -: وكذا قال الأشعري وأتباعه: إنَّ المؤثِّر في المقدور قدرة الرب دُون قدرة العبد، انتهى.
وقابلهم على الطرف الآخَر: "القدرية" وهم جمهور المعتزلة القائلون: إنَّ الله- تبارك وتعالى- قد أمر العباد بطاعته، ونهاهم عن معصيته، ولا يعلم مَن يطيعه ممَّن يعصيه، إلا بعد حُصول الطاعة والمعصية! وهم نقيض الجبريَّة.
وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صارت مُطيعين وعصاة، وهي مخلوقةٌ لله تعالى، والحقُّ سبحانه منفرد بخلق المخلوقات، لا خالق لها سواه، ومن ذلك أفعالهم كما قال سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96].
وقال: ﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 13، 14].
فالجبريَّة غلوا في إثبات القدر، فنفوا فعلَ العبد أصلاً، والمعتزلة نفاة القدر، جعلوا العباد خالقين مع الله؛ ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة؛ كما قال- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((القدرية مجوس هذه الأمَّة، إنْ مرضوا فلا تعودوهم، وإنْ ماتوا فلا تَشهدوهم))؛ رواه أبو داود.
وهدى الله المؤمنين أهل السُّنَّة لما اختلفوا فيه من الحقِّ بإذنه، والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم، فقالوا: العباد فاعلون، والله خلقهم وخلق أفعالهم كما تقدَّم، وأنَّ كلَّ شيء بقضاء الله وقدره؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقال سبحانه: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2].
وأنَّ الله تعالى شاء أنْ يقع الكفر من الكافر، لكنَّه لا يرضاه ولا يحبُّه، فيشاؤه كونًا وخلقًا، ولا يرضاه دينًا.
وخالَف في ذلك القدرية فزعموا أنَّ الله شاء الإيمان من الكافر، ولكنَّ الكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! وهذه من أقبح الاعتقاد، وهو قولٌ لا دليلَ عليه، بل مخالفٌ للدليل.
فقد قال- عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [السجدة: 13]، وقال: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].
ومنشأ الضلال عند الفريقين من عدم التفرقة بين المشيئة والإرادة، وبين المحبَّة والرضا؛ أي: ظنُّوا أنَّ كلَّ ما شاءه الله وأراده فقد أحبَّه ورضيه.
ثم اختلفوا؛ فقالت الجبرية: الكون كله بقضاء الله تعالى وقدره، وكله محبوب له، وقالت القدرية النُّفاة: ليست المعاصي محبوبةً لله، ولا مرضية له، فليست مقدَّرة ولا مقضيَّة، فهي خارجةٌ عن المشيئة والخلق.
وقد دلَّ على الفرق بين المشيئة والمحبَّة الكتاب والسُّنَّة والفطرة الصحيحة، أمَّا نصوص المشيئة من الكتاب فقد تقدَّم ذكر بعضها، وأمَّا نصوص المحبَّة والرضا فقد قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: 205]، وقال سبحانه: ﴿ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [الزمر: 7].
فإنْ قيل: كيف يريدُ الله أمرًا ولا يرضاه ولا يحبُّه؟ وكيف تجتمع إرادته له وبُغضه وكراهته؟ فالجواب: إنَّ المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، والمراد لغيره، لا يكون مقصودًا للمريد لذاته، وإنما هو وسيلةٌ إلى مقصوده ومراده، فهو مكروهٌ له من حيث نفسه وذاته، مرادٌ له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مُراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته.
مثال: الدواء الكريه إذا علم المتناول له أنَّ فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكِل إذا علم أنَّ في قطعه بقاء جسده، وقطع المسافة الشاقَّة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه.
وفي خلق الكفَّار والمنافقين وإبليس وجنده من الحكم شيء عظيم، ليس هذا مجال تفصيله، والحال تحتاج إلى مزيد بسط، ومحل ذلك المطوَّلات في العقيدة؛ كـ"شرح العقيدة الطحاوية" وغيرها.
والله الهادي والموفِّق للصواب، والحمد لله ربِّ العالمين.
4- وسطية أهل السنة والجماعة في باب الوعيد:
من الأبواب العقديَّة التي تجلَّت فيها وسطية أهل السُّنَّة والجماعة باب الوعيد.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة- رحمه الله تعالى -: "وفي- أي: هم وسط في- باب وعيد الله بين المرجئة وبين الوعيديَّة من القدريَّة وغيرهم"؛ ["الواسطية" ص188].
وقال أبو عبدالله ابن القيِّم الإمام المحقِّق: "وقصر بقوم حتى قالوا: إيمانُ أفسقِ الناس وأظلمِهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلاً عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة"؛ "إغاثة اللهفان".
فأهل السُّنَّة والجماعة وسط في باب "الوعيد" بين المفرطين من المرجئين الذين قالوا: لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، كما لا تنفعُ مع الكفر طاعة، أو زعموا أنَّ الإيمان مجرَّد التصديق بالقلب والنُّطق باللسان، والأعمال ليست من الإيمان!
وسموا مرجئة نسبة إلى الإرجاء؛ أي: التأخير؛ لأنَّهم أخَّروا الأعمال عن الإيمان.
وزعم غلاتهم أنَّ الإيمان هو مجرَّد التصديق بالقلب فقط، وإن لم ينطق بالشهادتين! ولا شكَّ أنَّ هذا كفر، ولا يكون الرجل مؤمنًا بذلك، والماتريدي يقول: إنَّ الإقرار باللسان ركن زائد وليس بأصلي!
قال الشيخ الهراس- رحمه الله تعالى -: "وأمَّا الإرجاء الذي نُسِبَ إلى بعض الأئمَّة من أهل الكوفة؛ كأبي حنيفة وغيره، وهو قولهم: إنَّ الأعمال ليست من الإيمان، ولكنَّهم مع ذلك يُوافقون أهل السُّنَّة على أنَّ الله يعذب مَن يعذب من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم منها بالشفاعة وغيرها، وعلى أنَّه لا بُدَّ في الإيمان من نطقٍ باللسان، وعلى أنَّ الأعمال المفروضة واجبة يستحق تاركها الذم والعقاب، فهذا النوع من الإرجاء ليس كفرًا، وإن كان قولاً باطلاً مبتدعًا؛ لإخراجهم الأعمال عن الإيمان"؛ ["شرح الواسطية" ص189].
هؤلاء في طرف، ويُقابلهم في الطرف الآخَر: الوعيدية: وهم الخوارج والمعتزلة، وقول شيخ الإسلام: "من القدرية وغيرهم" يشملُ المعتزلة؛ لأنهم قدرية، ويشمل الخوارج، وقد اتَّفَقا على أنَّ مرتكب الكبيرة مخلَّد في النار، لا يخرج منها أبدًا إذا مات عليها ولم يتبْ منها، لأنهم يقولون: إنَّ الله تعالى يجبُ عليه عقلاً أنْ يعذب العاصي كما يجب عليه أنْ يثيب المطيع؛ فمَن مات على كبيرة ولم يتب منها لا يجوز عندهم أنْ يغفرَ الله له! فعندهم أنَّ مَن ارتكب كبيرة مرَّةً ولم يتبْ منها، كمَن عاش حياته على عبادة الأوثان ومات عليها!
ومذهبهم باطلٌ مخالف للكتاب والسُّنَّة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48].
وما جاء في الصحيحين أنَّ النبيَّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- يشفع في أناسٍ من المسلمين دخلوا النار بذنوبهم، فيخرجهم من النار وقد امتحشوا- أي: احترقوا- فيدخلهم الجنَّة ويصب عليهم من ماء الحياة، فتُنبت أجسادهم، ويُسميهم أهل الجنَّة بالجهنَّميين.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبَّان في صحيحه والحاكم من حديث جابر- رضي الله عنه- أنَّ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمَّتي)).
وسبب ضلال الطائفتين: أنَّ كلَّ واحدة منهما نظرت إلى جانب من نصوص الوحيين وتركت جانبًا؛ فالمرجئة نظروا إلى نصوص الوعد والمغفرة والرحمة والفضل والرجاء، فأخذوا بها، ونسوا أو تناسوا نصوصَ الوعيد والتهديد والعقوبة، ومنَّوا أنفسهم بأنها في الكفار، وليست في أصحاب المعاصي من المسلمين.
والوعيديَّة بالعكس؛ نظروا إلى نصوص الوعيد والعقوبة والتهديد، وأليم العذاب وشدَّة الحساب لمن عصى الله تعالى، وغفلوا عن نصوص الوعد والرحمة والمغفرة للموحِّدين، وأنهم ليسوا كالمشركين الكافرين؛ كما قال- عزَّ وجلَّ -: ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [القلم: 35، 36]، وقال سبحانه: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ ﴾ [السجدة: 18].
أمَّا أهل السُّنَّة والجماعة وسلف الأمَّة فأخذوا بهذا وهذا، وآمَنوا بكلِّ ما جاء في الوحيين، فقالوا: فاعل الكبيرة من المسلمين مستحقٌّ لدخول النار، كما جاء في النصوص، لكنَّه غير مخلَّد فيها، كما جاء في النصوص أيضًا، فأعلموا وحكموا كلَّ ما جاء عن الله تعالى ورسوله- صلَّى الله عليه وسلَّم- ولم يهدروا شيئًا منهما، وحقَّقوا الوسطيَّة التي وصفهم الله تعالى بها.
جعلنا الله تعالى منهم، وحشرنا في زُمرتهم، والحمد لله ربِّ العالمين.
5- وسطية أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الإيمان والدِّين:
من أبواب العقيدة التي تجلَّت فيها وسطية أهل السُّنَّة والجماعة باب "أسماء الإيمان".
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة- رحمه الله تعالى -: "وفي باب أسماء الإيمان والدِّين (أي: فهم وسط) بين الحروريَّة والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية"؛ ["الواسطية" ص190].
والحروريَّة: هم الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ- رضي الله عنه- حينما قبل التحكيم بينه وبين معاوية- رضي الله عنه- فنزلوا واجتمعوا "بحروراء"؛ وهي بلدة قرب الكوفة، وسموا بذلك نسبةً إليها.
وقال الإمام ابن القيِّم- رحمه الله تعالى -: "وقصر بقوم حتى قالوا: وإيمانُ أفسقِ الناس وأظلمِهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلاً عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة"؛ "إغاثة اللهفان".
ومسألة "الأسماء والأحكام" من أوَّل ما وقع فيه النِّزاع في الإسلام بين الطوائف المختلفة، وكان للأحداث السياسيَّة والحروب التي جرت بين عليٍّ ومعاوية- رضي الله عنهما- في ذلك الحين، وما ترتَّب عليها من ظهور الخوارج والرافضة والقدريَّة أثر كبير في ذلك النِّزاع.
والمراد بالأسماء هنا: أسماء الدِّين، مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق.
والمراد بالأحكام: أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة.
فالخوارج الحرورية والمعتزلة ذهبوا إلى أنَّه لا يستحقُّ اسم الإيمان إلا مَن صدَّق بجنانه، وأقرَّ بلسانه، وقام بجميع الواجبات، واجتنب جميعَ الكبائر، فمَن ارتكب الكبيرة عندهم لا يُسمَّى مؤمنًا! باتِّفاقٍ بين الفريقين.
ولكنَّهم اختلفوا: هل يسمَّى كافرًا أو لا؟
فالخوارج يسمُّونه كافرًا، ويستحلُّون دمه وماله؛ ولهذا كفَّروا عليًّا ومعاوية- رضي الله عنهما- وأصحابهما، واستحلوا منهم ما يستحلُّون من الكفَّار!
وأمَّا المعتزلة فقالوا: إنَّ مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخُل في الكفر؛ فهو بمنزلة بين المنزلتين! وهذا أحد الأصول التي قام عليها مذهب الاعتزال.
واتَّفق الفريقان (الخوارج والمعتزلة) أيضًا: على أنَّ مَن مات على كبيرةٍ ولم يتبْ منها فهومخلَّد في النار.
فوقع الاتِّفاق بينهما في أمرين:
1- نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة.
2- خلوده في النار مع الكفار.
ووقع الخلاف أيضًا في موضعين:
1- تسميته كافرًا.
2- استحلال دمه وماله، وهو الحكم الدنيوي.
وأمَّا المرجئة: فقد سبق بيان مذهبهم، وهو أنَّه لا يضرُّ مع الإيمان معصية؛ فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان، ولا يستحقُّ دخول النار!
فمذهب "أهل السُّنَّة والجماعة" إذًا وسط بين هذين المذهبين؛ فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن ناقص الإيمان، قد نقص من إيمانه بقدرِ ما ارتكب من المعصية، فلا ينفون عنه الإيمان أصلاً كالخوارج والمعتزلة، ولا يقولون بأنَّه كامل الإيمان كالمرجئة والجهمية.
وحكمُه في الآخِرة عندهم: أنَّه قد يعفو الله- عزَّ وجلَّ- عنه فيدخل الجنَّةَ ابتداءً، أو يُعذِّبه بقدر معصيته، ثم يخرجه ويدخله الجنَّة كما سبق، وهذا الحكم أيضًا وسط بين مَن يقول بخلوده في النار، وبين مَن يقول: إنَّه لا يستحقُّ على المعصية عقابًا؛ [انظر: "شرح الهراس"].
وبهذا كانوا وسطًا كما وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143].
6- استعراض الوسطية في أبواب الدين كلِّه:
وقد عرض ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان" نماذج من الغلوِّ والجفاء، والتفريط والإفراط، يتبيَّن لنا باستعراض بعضها وسطيَّة الإسلام، بل وسطيَّة أهل السُّنَّة والجماعة وسلف الأمة، بين بقيَّة الفرق المنحرفة عن الصراط المستقيم.
الوسطية في الطهارة:
قال- رحمه الله -: "وقوم قصر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة!
وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحدِّ بالوسواس!
وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال!
وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا كلاًّ على الناس مستشرفين إلى ما بأيديهم!
الوسطية في الطعام والشراب:
وقوم قصر بهم عن تناوُل ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس؛ حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم!
وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضرُّوا بقلوبهم وأبدانهم!
الوسطية في الأنبياء:
وكذلك قصر بقوم في حقِّ الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم!
وتجاوز بآخَرين حتى عبدوهم!
الوسطية في مخالطة الناس:
وقصر بقومٍ في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلُّم العلم!
وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام!
الوسطية في الدماء:
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفورٍ أو شاة ليأكله!
وتجاوز بآخرين حتى جرَّأهم على الدماء المعصومة!
الوسطية في طلب العلم:
وكذلك قصر بقومٍ حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم!
وتجاوز بآخَرين حتى جعلوا العلم وحدَه هو غايتهم دون العمل به!
الوسطية في طلب المعاش:
وقصر بقومٍ حتى أطعمهم من العُشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم!
وتجاوز بآخَرين حتى أطعمهم الحرام الخالص!
الوسطية في النكاح:
وقصر بقومٍ حتى زين لهم ترك سنَّة رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- من النكاح فرغبوا عنه بالكليَّة!
وتجاوَز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام!
الوسطية في توفير المشايخ:
وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدِّين والصلاح وأعرضوا عنهم ولم يقوموا بحقهم!
وتجاوز بأخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى!
الوسطية في أقوال الرجال:
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكليَّة!
وتجاوز بآخَرين حتى جعلوا الحلال ما حلَّلوه والحرام ما حرَّموه وقدَّموا أقوالهم على سنَّة رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- الصحيحة الصريحة!
الوسطية في أفعال الله تعالى:
وقصر بقوم حتى قالوا: إنَّ الله سبحانه لا يقدرُ على أفعال عباده ولا شاءها منهم، ولكنَّهم يعملونها بدون مشيئة الله تعالى وقدرته!
وتجاوز بآخَرين حتى قالوا: إنهم لا يفعلون شيئًا ألبتة، وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقةً؛ فهي نفس فعله لا أفعالهم، والعبيد ليس لهم قدرةٌ ولا فعلٌ ألبتَّة!
الوسطيَّة في إثبات صفة الفوقيَّة لله ربِّ العالمين:
وقصر بقومٍ حتى قالوا: إنَّ ربَّ العالمين ليس داخلاً في خلقه، ولا بائنًا عنهم، ولا هو فوقهم ولا تحتهم، ولا خلفهم ولا أمامهم، ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم!
وتجاوز بآخَرين حتى قالوا: هو في كلِّ مكان بذاته كالهواء الذي هو داخل في كلِّ مكان!
الوسطية في إثبات صفة الكلام لله رب العالمين:
وقصر بقوم حتى قالوا: لم يتكلَّم الرب سبحانه بكلمة واحدة ألبتَّة!
وتجاوز بآخَرين حتى قالوا: لم يزل أزلاً وأبدًا قائلاً: ﴿ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]، ويقول لموسى: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ ﴾ [طه: 24]، فلا يزال هذا الخطاب قائمًا به ومسموعًا منه كقيام صفة الحياة به!
الوسطية في إثبات الشفاعة:
وقصر بقوم حتى قالوا: إنَّ الله سبحانه لا يشفعُ أحدًا في أحد ألبتَّة، ولا يرحم أحدًا بشفاعة أحد، وتجاوز بآخرين حتى زعموا أنَّ المخلوق يشفع عنده بغير إذنه، كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم!
الوسطية في الإيمان وأهله:
وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسقِ الناس وأظلمِهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلاً عن أبي بكر وعمر!
وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة!
الوسطية في أسماء الله تعالى وصفاته:
وقصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الربِّ تعالى وصفاته وعطلوه منها!
وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقة ومثلوه بهم!
الوسطية في أهل بيت رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم -:
وقصر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وقاتلوهم واستحلوا حُرمتهم!
وتجاوز بقومٍ حتى ادَّعوا فيهم خصائص النبوَّة من العصمة وغيرها، وربما ادَّعوا فيهم الإلهيَّة!
الوسطية في عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله- عليه السلام -:
وكذلك قصر باليهود في المسيح حتى كذَّبوه ورموه وأمَّه بما برَّأهما الله تعالى منه!
وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله وجعلوه إلهًا يُعبد مع الله!
إلى آخر كلامه- رحمه الله.
واستعراض ما سبق من كلام الإمام ابن القيِّم- رحمه الله- يتبيَّن لنا وسطيَّة هذا الدِّين الحنيف، وأنَّه دِين الفطرة المستقيمة، ودين اليُسر ورفع الحرج والضيق، ودين العدل والاستقامة، ودين الحكمة المعقولة التي لا تتعارضُ مع المعقول الصريح.
وهكذا كانت وسطية أهل السُّنَّة والجماعة، المتَّبعين لسلف الأمَّة، من الصحابة- رضوان الله عليهم- والتابعين لهم بإحسان، حشرنا الله تعالى في زمرتهم.
وهذه أيضًا كلُّها ميزات لهذا الدِّين العظيم، تُرغِّب الناس للدخول فيه، والانضواء تحت تعاليمه، ويمكن أنْ تكون لنا مرتكزات لدعوة غير المسلمين الإسلام، والله الموفِّق لا إله غيره، ولا ربَّ سواه.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحوار بين الأديان والمذاهب بين الحق والباطل:
الحوار بين الأديان والمذاهب متنوِّع بحسَب أهدافه وأغراضه، وبحسَب أهله وحوارهم، فمنه ما هو حقٌّ وخير، ووسيلة فعَّالة من وسائل إصلاح الفرد والجماعة والأمم، وذلك إذا كان دعوة وبيانًا للدِّين، وبحثًا عن الحقِّ، وسبيلاً إلى التعايُش والتفاهُم في الأرض والتعاون على البر والخير.
ومنه ما هو باطل، وإضاعة للأوقات، ولحقوق العباد والبلاد، إذا كان نقضًا للدِّين الحق، وتمييعًا لشرائعه، وطمسًا لمعالمه، وإماتة لعقيدة الولاء والبراء، وإذا فقدت الضوابط والمقاييس الصحيحة منه.
ولذلك فإنَّ حوار الأديان لا يردُّ مطلقًا؛ لأنَّنا بذلك قد نردُّ الحق الذي فيه، ولا نقبله مطلقًا؛ لأننا بذلك نقبل الباطل الذي فيه.
وكذا الحوار بين أهل السنة والجماعة والمذاهب البدعية وأهل الأهواء.
أمَّا أسس الحوار الصحيحة فأهمها:
1- الاتفاق على مُنطلقات ثابتة، وقضايا مسلمة، ومتَّفق عليها بين الطرفين، وهذه المسلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها العقل السليم، ولا تقبل النِّقاش عند العقلاء المتجرِّدين؛ كحسن الصدق وقبح الكذب، وحسن الأمانة وقبح الخيانة، وشكر المحسن ومعاقية المذنب.
أو تكون مسلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون للديانات عمومًا؛ كالإقرار بالخالق الرازق المدبِّر، وكالإقرار بالرسل والملائكة واليوم الآخِر، ونحوها من المعتقدات الثابتة المتَّفق عليها.
وبالوقوف عند الثوابت والمسلَّمات، والانطلاق منها، يمكن إيجاد قواسم مشتركة للحوار والتفاهُم، ويتحدَّد بها مريد الحق، ممَّن لا يريد إلا المراء والجدال.
2- سلوك الطرق العلميَّة والتمسُّك بها عند الحوار ومن أهمها:
أ- تقديم الأدلَّة المثبتة للقول، أو المرجِّحة للدعوى؛ قال الله سبحانه: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111]، وأمَّا القول بغير دليلٍ فمردودٌ كما قال سبحانه: ﴿ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 68].
وقال سبحانه: ﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [النجم: 28].
ب- التأكد من سلامة كلام المناظر ودليله من التناقض، فالمتناقض ساقط بداهة.
ج- إثبات صحَّة المنقول من الحجج والأقوال، وفقًا للقاعدة المعروفة: إنْ كنت ناقلاً فالصحَّة، وإن كنت مدَّعيًا فالدليل.
د- ألا يكون الدليل هو عين الدعوى؛ لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً، ولكنَّه إعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى.
أمَّا الآداب التي يسير عليها الحوار فتتمثَّل في:
العدل والإنصاف، وهما من أهمِّ الضوابط والآداب في الحوار، فيجب على المحاور أنْ يكون منصفًا فلا يرد حقًا أبدًا، بل عليه أنْ يقبل بالأدلَّة الصحيحة التي يوردها محاوره، ويُبدي إعجابه بالأفكار الصحيحة، وهذا الإنصاف له أثره العظيم لقبول الحق، واستمرار الحوار.
وأمَّا التعصب وعدم قبول الحق فإنَّه من الصفات الذميمة في كتاب الله- عزَّ وجلَّ- فقد أمرنا الله- عزَّ وجلَّ- بالعدل؛ فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90].
بل إنَّ الله يأمرنا بالعدل والإنصاف حتى مع الأعداء فيقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
وقد أنصف الله أهلَ الكتاب في قوله تعالى: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ [آل عمران: 113]، فلا بُدَّ من التسليم للحق والقبول به إذا اتَّضح وبان، فلا يستنكف المتحاور من قبول الحق ولو جاء ممَّن هو دونه علمًا أو سنًّا أو قدرًا، والرجوع للحق بعد أنْ يتبيَّن له خيرٌ من التمادي في الباطل.
ومن الأخلاق العظيمة: التمسُّك بخلق الصدق، والأمانة في النقل، والإخلاص والتجرُّد في طلب الحقِّ من كلِّ غرض دنيوي، ومصلحة عاجلة.
وتجنُّب اللدد في الخصومة والتشدُّد، ومجاوزة حدِّ الاعتدال، والأخذ باللين والرفق؛ فإنَّ الله تعالى يُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
وكذلك البُعد عن التهكُّم والسخرية والاستهزاء بالمخالف، والإثارة والاستفزاز.
ومن الآداب: حُسن الاستماع للآخَر، وتدبُّر قوله الذي لا يتحقَّق إلا بحسن الاستماع له حتى آخِره.
كذلك من الأخلاق الهامَّة: الحلم والصبر أثناء الحوار، فالمحاور يجب أنْ يكون حليمًا صبورًا، فلا يغضب لأتفه الأسباب؛ فإنَّ ذاك يُؤدِّي إلى النفرة منه والابتعاد عنه، والغضب لا يُوصل إلى إقناع الخصم وهدايته، وإنما يكون ذلك بالحلم والعلم، والحلم من صفات المرسَلين والمؤمنين؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114].
وقال: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].
ومن أعلى مَراتب الصبر والحلم: مُقابلة الإساءة بالإحسان، فإنَّ ذلك له أثره العظيم على المحاور، وكثير من الذين اهتدوا للحقِّ والدِّين الصحيح، لم يهتدوا لعلم المحاور وإتقانه لأساليب الجدل، وإنما لأدبه وحُسن خلقه، واحتماله للأذى ومُقابلته بالإحسان.
ومن الأخلاق المطلوبة: البُعد عن التسرُّع في إصدار الأحكام؛ إذ إنَّ التسرُّع في إصدار الأحكام دون رويَّة وتثبُّت، مع عدم وُضوح الرؤية يُوقع في أخطاء وظلم للمخالف.
وبعدُ:
فالحوار مبدأٌ شرعي في دين الإسلام، وكتاب الله مليء بعشرات المحاورات التي يُمكن الاستفادة منها في الباب المهم، وقد كتبت عدَّة كتب فيه يمكن الاستزادة منها.
والله الموفِّق والهادي للصواب وحدَه لا شريك له.
وآخِر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.
من أبحاث مؤتمر "الوسطية..
رؤية إيجابية"