خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/122"> الشيخ عبد الرحيم الطحان . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/122?sub=8329"> سلسلة مباحث النبوة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
مباحث النبوة - خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع السيدة خديجة [1]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! كنا نتدارس خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الطيبين الطاهرين المباركين، وهذا المبحث قدمت له بثلاثة أمور:
أولها: في بيان مسكن النبي عليه الصلاة والسلام.
وثانيها: في بيان أثاث ذلك المسكن.
وثالثها: في بيان الطعام والقوت الذي كان يقدم في تلك الحجر المباركة الشريفة الفاضلة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وبعد ذلك الأمر الرابع الذي شرعنا في مدارسته: في معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لأهله، هذا الأمر الرابع الذي ما تقدم من الأمور الثلاثة إنما هو تمهيد له كما قلت، وقلت: إن هذا الأمر الرابع أيضاً سيقوم على أربعة أمور أيضاً:
أولها: الإثبات الإجمالي بأن نبينا عليه الصلاة والسلام هو خير الناس لأهله الكرام عليه الصلاة والسلام، فأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخيرهم خيرهم لأهله، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو خير الخليقة لأهله عليه.
وقلت: هذا الأمر سأقرره بأمر ثان ألا وهو شهادة أعلم الخلق بنبينا عليه الصلاة والسلام وهي أمنا خديجة الطيبة الطاهرة المباركة رضي الله عنها وأرضاها، فقد علمت حال نبينا عليه الصلاة والسلام قبل أن تتزوجه، ثم علمت حاله قبل بعثته وبعد أن تزوجته، ثم علمت حاله بعد بعثته عندما كانت أيضاً زوجة له على نبينا وآله صلوات الله وسلامه.
والأمر الثالث: في بيان الحالة التفصيلية لمعاملة خير البرية مع أهله وأسرته عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
والأمر الرابع إخوتي الكرام كما تقدم معنا: في استعراض موجز لأحوال أمهاتنا أزواج نبينا وذريته الطيبة المباركة عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وقد كنا نتدارس الأمر الثاني من هذه الأمور الأربعة بعد أن بينت أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو أكمل الخلق خلقاً مع الحق ومع الخلق، وبناء على ذلك فهو أحسن الناس والخليقة معاملة لأهله عليه صلوات الله وسلامه، قلت: وقد شاءت حكمة العليم الحكيم سبحانه وتعالى، شاءت حكمة الله لأنبيائه أجمعين أن يقوموا برعاية الغنم لينتقلوا بعد ذلك إلى سياسة الشعوب والأمم، وقد جمع الله لنبينا عليه الصلاة والسلام رعاية الغنم مع رعاية الإبل قبل بعثته عليه صلوات الله وسلامه؛ ليجمع بين السكينة والسيادة عليه صلوات الله وسلامه، فهو المتواضع، وهو السيد.. سيد ولد آدم ولا فخر عليه وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
إرسال خديجة الرسل إلى النبي وعرضها نفسها عليه للزواج
تقدم معنا إخوتي الكرام في آخر الموعظة الماضية أنها عرضت نفسها على النبي عليه الصلاة والسلام فقبل، وورد في بعض الروايات أنه هو الذي تقدم، ولا معارضة بين الأمرين، تقدم بناء على عرضها وهي وفت بعد ذلك بوعدها فقامت بإقناع والدها، وتم لها ما أكرمها الله به في الدنيا والآخرة.
ثبت في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، والحديث في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة عشرين ومائتين وإسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع، والأثر رواه الإمام البيهقي في دلائل النبوة مختصراً في الجزء الثاني صفحة ثلاث وسبعين عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة ، أي: في الخطبة، ويريد أن يقترن بها وأن يتزوجها عليه صلوات الله وسلامه، وكان أبوها يرغب عنه أن يزوجه، يعني: لا يريد أن يزوجه، وتقدم معنا أن الدافع لذلك هو الدافع المادي فقط، فهو فقير عليه صلوات الله وسلامه وهي أبوها من أسرة غنية ثرية جداً، يرغب عن أن يزوجه، فصنعت أمنا خديجة رضي الله عنها طعاماً وشراباً كما تقدم معنا في الرواية الأولى، وتلك من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنهم أجمعين، فدعت أباها وزمراً من الناس، يعني: نفراً وجماعات وزمراً من الناس من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا، يعني: سكروا وفقدوا عقولهم، فقالت أمنا خديجة رضي الله عنها لأبيها: إن محمد بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه، وهو كما قلنا: أكل من اللحم وشرب فثمل، فزوجها إياه وهو سكران، قال: فخلقته، أي: جعلت له الخلوق وطيبته به، والخلوق -بفتح الخاء وضم اللام- طيب يصنع من زعفران وغيره، ويميل لونه إلى حمرة أو إلى صفرة، ونحن نهينا أن نتطيب بهذا الخلوق، أي: بالطيب الذي يظهر له أثر على الجلد.
فقد ثبت في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجه من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل)، أي: أن يتطيب من طيب له أثر من صفرة أو حمرة كما هو الحال في الزعفران.
وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه، وخير طيب الرجال ما خفي لونه وظهر ريحه، (نهى عليه الصلاة والسلام أن يتزعفر الرجل)، فهي خلقته بالخلوق الذي يظهر له أثر في بشرته على وجهه وعلى يديه وعلى أعضائه، وألبسته حلة، وهي ثياب من قطعتين من لون واحد، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء، يعني: إذا زوجت البنات يفعل بالأب هكذا، يخلق ثم يلبس حلة من قبل ختنه الذي هو زوج ابنته، فلما سري عنه سكره نظر فإذا هو مخلق وعليه حلة، فقال: ما شأني؟ ما هذا الذي حصل؟ فقالت أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها: إنك زوجتني محمد بن عبد الله ولذلك خلقك وألبسك الحلة، وعملنا هذه الوليمة، فقال أبوها وهو خويلد : أنا أزوج يتيم أبي طالب ! لا لعمري! أنا أزوج يتيم أبي طالب ! يعني: هذا الفقير أزوجه، وأنت تملكين ما يطمع أثرياء قريش بك، ثم أزوجك ليتيم أبي طالب ، هذه الثروة الطائلة كلها تذهب لهذا اليتيم، فقالت خديجة رضي الله عنه: أما تستحي، تريد أن تسفه نفسك عند قريش، يقولون: أنت زوجت ثم نكثت، فلم تزل به حتى رضي رضي الله عنها وأرضاها.
إذن هنا هو تقدم، لكن كما قلت يجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه تقدم بناء على عرضها ورغبتها، فتقدم وهي وفت بما وعدت، فدبرت هذه الحيلة الشرعية المباركة بحيث اقترنت بخير البرية عليه صلوات الله وسلامه بموافقة والدها عن طريق ما عملته من هذه الحيلة التي لا حرج في استعمالها، من أجل أن تنال موافقة ورضا والدها، وقد حصل لها ما تريد.
وهكذا إخوتي الكرام توسطت أختها، وكما قلت توسطت نفيسة ، وبعدما أقرر هذا نجمع بين هذه الآثار، أرسلت نفيسة أن تعرض على النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قبل ولتتحقق وليزداد الوثوق من موافقة النبي عليه الصلاة والسلام كلمت أختها، فكلمته فقبل، ثم فاتحته بنفسها، ثم هو تقدم عليه صلوات الله وسلامه.
أما عرض أخت خديجة خديجة على نبينا عليه الصلاة والسلام فقد رواه الطبراني أيضاً والبزار ، وانظروا الأثر في المجمع في المكان المتقدم في الجزء التاسع صفحة عشرين ومائتين كما قلت، ورواه أيضاً البيهقي في دلائل النبوة، لكن الأثر الأول تقدم معنا أن إسناده صحيح، وأما هذا ففيه عمر بن أبي بكر المؤملي ، وكان قاضياً في بلاد الأردن، وهو ضعيف وضعفه أبو زرعة وغيره، وقال أبو حاتم : متروك، انظروا ترجمته في الميزان وفي المغني في الضعفاء كلاهما للإمام الذهبي ، وقد نص الحافظ ابن حجر في التقريب على أنه متروك، وذكره ليميز بينه وبين من يشابهه في الاسم وليس لهذا رواية في الكتب الستة، وإذا رأيتم ترجمة في التقريب في نهايتها تمييز يورده من أجل أن يميز بين هذا الراوي وبين من يشاركه في الاسم من رجال الكتب الستة، ويترجمه عندما يذكره، لكن ليس له رواية في الكتب الستة، مترجم في التقريب وليس له رواية في الكتب الستة، والحديث عن عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين.
الأول تقدم معنا عن جابر بن سمرة ، والثاني عن ابن عباس ، وهذا عن عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، ومعناه صحيح يشهد له ما تقدم، قال: كان عمار إذا سمع ما يتحدث به الناس من تزوج نبينا عليه الصلاة والسلام بأمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها يقول: أنا أعلم الناس بذلك، أي: بتزوج النبي عليه الصلاة والسلام من أمنا خديجة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، كنت له خدناً وإلفاً في الجاهلية، أي: بمعنى صاحباً مقارباً له في العمر والسن، وأنا صاحب له قبل أن يبعث عليه صلوات الله وسلامه، قال عمار بن ياسر : فخرجت معه حتى مررنا على أخت خديجة رضي الله عنها وأرضاها وهي جالسة على أدم -على جلد مدبوغ- فنادتني -نادت عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه- فانصرفت إليها ووقف النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً، كما هي حالته كما تقدم معنا في الرواية الأولى من رواية جابر بن سمرة عندما كان شريكه يذهب ليتقاضى الأجرة وهو لا يذهب؛ لأنه يستحي أن يقابل النساء عليه صلوات الله وسلامه، وهذا قبل أن يبعث، والله جل وعلا رباه فأحسن تربيته، ونشأه فأحسن تنشئته، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] عليه صلوات الله وسلامه.
فقالت أخت خديجة لعمار : أما لصاحبك في تزويج خديجة من حاجة؟ ما له رغبة في تزوجها؟ وأن تكونه خديجة زوجة له؟ فجاء عمار إلى نبينا المختار عليه الصلاة والسلام فعرض عليه الأمر فقال: بلى، أريد أن أتزوجها إذا تيسر، فأخبر عمار أخت خديجة بذلك في نفس المجلس، وسبق أن قلنا أن الأمر مرتب حيث سبقت بالعرض نفيسة ، ثم هذه، ثم بعد ذلك خديجة ، فالأمر كله مرتب، والموافقة حاصلة، لكن ما بقي إلا إقناع الولي، فقالت أخت خديجة : اغد علينا إذا أصبحنا، في اليوم التالي مباشرة تعال ولا تتأخر، يقول عمار : فغدوت أنا ومحمد عليه صلوات الله وسلامه وقد ذبحوا بقرة، وألبسوا أباها حلة، وضربوا عليه قبة، فلما أكلوا من اللحم وشربوا من الخمر وسكروا، كلمت خديجة أخاها بأن يزوجها بواسطة أبيها، وأن يعرض على أبيها الأمر في تزويجها من محمد عليه الصلاة والسلام، فرضي أخوها بذلك فكلم والده فأجاب، فعقد لنبينا عليه الصلاة والسلام ووالدها كما قلت: سكران، ثم نام بعد أن أكل من الطعام وشرب من الخمر، فلما استيقظ وجد عليه الخلوق، وهو في هذه القبة، ويلبس الحلة، قال: ما هذه؟ فقالت أمنا خديجة رضي الله عنها وأختها: هذه حلة كساكها محمد ختنك، والختن هو الصهر ويقال له: ختن لأن قرابته بسبب التقاء الختانين كما قال أئمتنا، ليس عن طريق النسب، إنما عن طريق المصاهرة والزواج، يقال له: ختن، كساكها محمد ختنك عليه الصلاة والسلام، فأنكر ذلك، وخرج من بيته يصيح في شوارع مكة مستنكراً لهذا الأمر حتى أتى الحجر في الكعبة المشرفة وهو يصيح: أنا ما زوجت محمداً عليه الصلاة والسلام من خديجة .
فخرجت بنو هاشم فكلموه، فقال: ما زوجت محمداً من خديجة ، ثم قال: أين صاحبكم الذي تزعمون أنني قد زوجته؟ فبرز إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: هذا هو، فلما نظر إليه قال: إن كنت زوجته فذاك تم الأمر، وإن لم أزوجه فقد زوجته الآن، لما نظر إليه عليه صلوات الله وسلامه، وهذه الرواية تفيدنا فائدة ثانية وهي أن والد خديجة اقتنع بعد أن صحا من سكره بنبينا عليه الصلاة والسلام على وجه التمام عندما نظر إليه، فقال: إن كنت زوجته فذاك الأمر تم وانتهينا، وإن لم أزوجه فقد زوجته الآن، فقد فعلت، هو زوج لابنتي وليس عندي اعتراض على ذلك.
وكما قلت أيضاً تقدم من نفيسة وهي بنت أمية التميمي العرض على النبي عليه الصلاة والسلام، والجمع بين هذه الأمور أن نقول: عرضت أمنا خديجة على نفيسة أن تكلم النبي عليه الصلاة والسلام فقبل، ثم عرضت على أختها أن تباشر الكلام بنفسها فقبل، ثم فاتحته بنفسها فقبل عليه الصلاة والسلام، ثم تقدم ودبرت أمنا خديجة رضي الله عنها ما تقدمت الإشارة إليه من أجل إقناع والدها رضي الله عنها وأرضاها، يجمع بين هذه الأمور الأربعة بهذه الشاكلة، عرض من نفيسة ، ثم من أخت خديجة ، ثم من خديجة ، ثم موافقة النبي عليه الصلاة والسلام وتقدم.
نعم إن أمنا خديجة رضي الله عنها عرضت نفسها على نبينا عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا ينبغي أن تدرج مع الأصناف الثلاثة لتكون رابع الأصناف، وهي أشد الأصناف فراسة عندما اختارت خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، وقد ثبت في سيرة ابن هشام في الجزء الأول صفحة تسعين مائة: أن أمنا خديجة رضي الله عنها قالت لنبينا صلى الله عليه وسلم: رغبت فيك لقرابتك، وسطتك في قومك -والوسطة يعني الشرف والعز والمكانة النبيلة- قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت نفسه عليه صلوات الله وسلامه عليه.
حكم عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح ليتزوجها
وفيما فعلته أمنا خديجة رضي الله عنها يستنبط حكم شرعي منه ومن أمثاله قرره أئمتنا ألا وهو جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، وهذه المسألة من فترة قريبة جرى بحث حولها، وكنت مع بعض الإخوة والشيوخ الكرام في هذه القضية، وكأنه كتب عنها، فكأن بعض الناس استنكر وقال: هل المرأة يجوز أن تعرض نفسها على إنسان من أجل أن يتزوجها؟ قلت: وما الحرج؟ لكن لا بد من الضوابط الشرعية، يعني: هي تعرض نفسها من أجل صلاح فيه، ثم بعد ذلك هو يأتي الأمر من بابه عن طريق الولي، لكن هو علم رغبتها وأقنعته أنها تقنع أهلها، فليتقدم وهي عليها تدبير الباقي، فلا حرج، وكأن بعض الإخوة استنكر هذا غاية الاستنكار وقال: كيف هذا؟ وكان معنا بعض الإخوة من الشيوخ لما بحثنا القضية، وذكرت له الأحاديث في ذلك، وأنه حصل هذا، وذكرت له بعض الآثار الثابتة في صحيح البخاري وغيره كما سأقرأ عليكم إن شاء الله وأذكر لكم، فقال: نعم، هذا عرض، لكن هي تعرض بواسطة وليها، هذا معنى الأثر، يعني وليها يأتي يعرض ويتكلم، قلت: يا أخي لا يوجد دلالة في الأثر على ذلك أبداً، وأنس رضي الله عنه عقب على كلام ابنته كما ستسمعون في صحيح البخاري عندما قالت: وا سوأتاه! ما أقل حياءها امرأة تعرض نفسها! فقال لها أنس : هي خير منك رغبت في رسول الله عليه الصلاة والسلام فعرضت نفسها عليه، فهنا ليس موضوع ولي عرض، هي جاءت وعرضت، وقد بوب أئمتنا على هذا باباً يشير إلى الجواز، وهذا ثابت في صحيح البخاري ، أصر هو على رأيه وانفض المجلس على هذا، ورأيه باطل قطعاً وجزماً، وأنا لا أعلم خلافاً بين أئمتنا الكرام في هذه المسألة، وأن المرأة يجوز أن تعرض نفسها على الرجل الصالح حتماً كما قلت بالصفات الشرعية، هو قال: كيف ستعرض نفسها عليه؟! قلت: يا أخي! المسألة سهلة، افرض أنها قابلته في مسجد، قابلته في شارع، افرض أنها أرسلت مع قريب لها أو قريبة لها كلمت أخته وقالت: كلمي فلاناً أخاك أنني راغبة فيه، فالمسألة سهلة، ولا يلزم منه أن تحصل خلوة ويحصل ما حرم الله حتى تعرض نفسها عليه، لا يلزم هذا على الإطلاق، لكن هذا وارد في السنة الصحيحة، وقد بوب عليه أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري في كتاب النكاح باباً فقال: باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح.
والحديث في سنن النسائي وبوب عليه باب عرض المرأة نفسها على من ترضاه، أي: من ترضاه زوجاً لها وكفئاً لها وهو صالح طيب مستقيم، يقول ثابت البناني: ( كنت عند
ثم أورد بعد ذلك حديثاً آخر وهو حديث سهل بن سعد : ( عندما جاءت امرأة أيضاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام ووهبت نفسها له وقالت: إن كان لك بي حاجة، فصوب إليها النظر عليه الصلاة والسلام ثم صرفه، فقام بعض الصحابة وقال: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها... ) إلى آخر الحديث، يقول الحافظ ابن حجر : وفي الحديثين جواز عرض المرأة نفسها على الرجل، وتعريفه رغبتها فيه، وأنه لا غضاضة عليها في ذلك، وأن الذي تعرض المرأة نفسها عليه بالخيار، يعني: هذه امرأة تعرض نفسها عليك، لكن ما عندك استعداد للزواج، لكن لا ينبغي أن يصرح لها بالرد، لئلا يكسر خاطرها، بل يكتفي بالسكوت، هي إن عرضت لا غضاضة عليها، والحديثان يدلان على ذلك، وأنت إن كان لك رغبة صرحت وقلت: أنا أرغب منك فيما تقولين وتعرضين، وإذا ما لك رغبة اسكت فقط فسكوتك يعلم أنك لا تريد، فلا تكسر خاطرها وتقول: ما أريد هذا، فحقيقة كسر القلوب من العيوب، فلا تكسر خاطرها إذا رغبت فيك، فاسكت وهي تعرف المراد، فلعل الله يهيئ لها من هو خير منك، وخزائن الله ملأى.
كما قلت إخوتي الكرام هذا في فتح الباري،ـ انظروه في الجزء التاسع صفحة خمس وسبعين ومائة، وهنا أمنا خديجة رضي الله عنها فعلت هذا.
من اشترك في تزويج خديجة بالنبي
من رغّب خديجة في الزواج بالنبي
وأختها تقدم معنا أنها قالت: ما رأيت رجلاً أشد حياء ولا.. ولا.. ولا.. من محمد عليه الصلاة والسلام، فرغبت خديجة في ذلك، ومنها الثناء العام الذي كان يتميز به نبينا عليه الصلاة والسلام، فكان يعرف قبل بعثته بالصادق الأمين عليه صلوات الله وسلامه كما تقدم معنا هذا بأدلته، ومنها أيضاً أمر رابع وهو أمر غريب حقاً، وهذا من البشائر التي في الكتب السابقة بنبينا عليه الصلاة والسلام، لكن النساء استنكرنه وأمنا خديجة رضي الله عنها في ذلك الوقت فرحت به وسألت ربها أن يكون من نصيبها.
روى الإمام ابن إسحاق في المغازي قال: كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد الحرام حول الكعبة المشرفة، فاجتمعن يوماً في يوم العيد فيه، فجاء يهودي فقال: أيا معشر نساء قريش! إنه يوشك فيكن نبي قرب وجوده، فأيتكن استطاعت أن تكون فراشاً له فلتفعل، هذا اليهودي جاء إلى نساء قريش وهن يجتمعن في المسجد الحرام ووقف على رءوسهن وقال: يا معشر نساء قريش! اقترب خروج نبي من قريش، وتقدم معنا سابقاً عند خاتم النبوة فيما حصل لسلمان رضي الله عنه وأرضاه، وأن آخر الأساقفة والقسس قال له: لا يوجد أحد على الدين الحق دين النصرانية، إنما قد أظل زمان خروج نبي ووصف له نبينا عليه الصلاة والسلام.
وهنا هذا اليهودي جاء إلى مكة وألهمه الله هذا الكلام قال: يا معشر نساء قريش! سيبعث عما قريب فيكم نبي، من استطاعت منكن أن تكون فراشاً له فلتفعل، فلتغتنم هذا، قال: فحصبته النساء وقبحنه وأغلظن له، أنت الآن يهودي وتريد منا أن نعرض أنفسنا على الرجال، وأن نكون فراشاً لرجل سيبعث، فما استرحن إلى هذا الكلام، قال: وأغضت خديجة رضي الله عنه على قول اليهودي، ووقع ذلك في نفسها، فلما أرسلت معه غلامها ميسرة وعاد من التجارة، وذكر لها صفات النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن نبينا عليه الصلاة والسلام نبئ، قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقاً ما ذاك إلا هذا، ليس يبعث فينا معشر قريش إلا هذا، فتعلقت به وما ملكت نفسها، وحقيقة طينة طيبة، وقلب طاهر، وما تظن أنها ترغب في الاقتران به من أجل شهوة بشرية إنسانية، لا ثم لا، إنما هذا المعنى لما في قلبها من طهارة رسخ في ذهنها، نبي سيبعث، هنيئاً لمن تقترن به.
اليهودي يقول: من استطاعت منكن أن تكون فراشاً له فلتفعل، فالنساء استنكرن وهي كتمتها وسألت ربها أن يكون هذا النبي زوجاً لها، وما تعلم من هو عليه صلوات الله وسلامه، لكن لما ذهب غلامها معه وحكى لها صفاته عليه الصلاة والسلام قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقاً ما ذاك الذي بشرنا به اليهودي إلا محمد عليه صلوات الله وسلامه، وفراستها في محلها رضي الله عنها وأرضاها.
من ذهب مع النبي من أعمامه لطلب خديجة
وتقدم معنا أن أعمام النبي عليه الصلاة والسلام أربعة آمن اثنان حمزة والعباس ، وكفر اثنان أبو لهب وأبو طالب ، أما أبو لهب فهذا العاتي الشرير الذي كان يبذل ما في وسعه لإيذاء ابن أخيه نبينا الجليل عليه الصلاة والسلام، وأما أبو طالب فعلى العكس كان يبذل ما في وسعه لنصرته، لكن ما آمن حتى لا يعير من قبل قريش أنه ترك ملة الآباء والأجداد عبادة الأصنام ونسأل الله حسن الختام.
فذهب حمزة رضي الله عنه وأرضاه وأبو طالب مع النبي عليه الصلاة والسلام، نعم إن الذي عقد العقد هو أبو طالب ؛ لأنه كما تقدم معنا نشأ في كنفه وهو بمثابة الوالد له، وألقى أبو طالب خطبته الشهيرة في عقد ذلك الزواج المبارك الميمون، فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد -ضئضئ بمعنى: الأصل والمعدن، يعني: نحن من أصل معد- وعنصر مضر، وجعلنا سدنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجاً وحرماً آمناً، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به شرفاً وفضلاً ونبلاً وعقلاً، وهو وإن كان في المال قُلٌ -أي: قليل لا يملك منه كثيراً- فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمد عليه الصلاة والسلام من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة وبذل لها ما آجله وعاجله من مال كذا وكذا، ومقدار المهر اثنتا عشرة أوقية ونشا، وهذه هي مهور أمهاتنا أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا أن الأوقية أربعون درهماً، اثنتا عشرة أوقية تصبح أربعمائة وثمانين درهماً، والنش نصف الأوقية، يعني عشرون، فالمجموع خمسمائة درهم، مهر أمهاتنا جميعاً أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا تحمله أبو طالب .
فبعد أن تم العقد أرسلت أمنا خديجة وهي مستعجلة لتنال الخير والبركة ممن سيكون نبي هذه الأمة حسب فراستها على نبينا صلوات الله وسلامه، فقالت له: مر عمك فلينحر بكراً، وهي الفتية من الإبل، ما يؤخر الأمر، وأطعم الناس في هذا اليوم، تم العقد فلا تؤخر البناء والاتصال، وهلم فقِل مع أهلك، يعني: نم القيلولة مع أهلك فقد صرت زوجة لك، عمك ينحر بكراً، وأطعم الناس، وهلم فقل مع أهلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم معها، فأقر الله عينه، وفرح عمه فرحاً شديداً.
واستعرضت إخوتي الكرام! عند هذا المبحث بعد ذلك بداية المبحث الثاني الذي يتضمن شهادة أمنا خديجة لنبينا عليه الصلاة والسلام ضمن مراحل أولها: في بيان اختيارها لنبينا عليه الصلاة والسلام زوجاً لها قبل أن يبعثه الله نبياً لهذه الأمة المباركة المرحومة، وقد تقدم معنا أنها هي التي فاتحته بذلك وعرضت نفسها عليه كما ثبت هذا في معجم الطبراني والبزار بسند صحيح، وورد أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي تقدم لخطبتها، وأن أختها أيضاً توسطت في خطبتها، وأن نفيسة أيضاً توسطت في خطبتها، وهذه الأمور الأربعة كلها حاصلة أذكرها وأدلل عليها ثم أجمع بينها وأنتقل بعد ذلك إلى شهادة أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها في نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
تقدم معنا إخوتي الكرام في آخر الموعظة الماضية أنها عرضت نفسها على النبي عليه الصلاة والسلام فقبل، وورد في بعض الروايات أنه هو الذي تقدم، ولا معارضة بين الأمرين، تقدم بناء على عرضها وهي وفت بعد ذلك بوعدها فقامت بإقناع والدها، وتم لها ما أكرمها الله به في الدنيا والآخرة.
ثبت في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، والحديث في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة عشرين ومائتين وإسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع، والأثر رواه الإمام البيهقي في دلائل النبوة مختصراً في الجزء الثاني صفحة ثلاث وسبعين عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة ، أي: في الخطبة، ويريد أن يقترن بها وأن يتزوجها عليه صلوات الله وسلامه، وكان أبوها يرغب عنه أن يزوجه، يعني: لا يريد أن يزوجه، وتقدم معنا أن الدافع لذلك هو الدافع المادي فقط، فهو فقير عليه صلوات الله وسلامه وهي أبوها من أسرة غنية ثرية جداً، يرغب عن أن يزوجه، فصنعت أمنا خديجة رضي الله عنها طعاماً وشراباً كما تقدم معنا في الرواية الأولى، وتلك من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنهم أجمعين، فدعت أباها وزمراً من الناس، يعني: نفراً وجماعات وزمراً من الناس من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا، يعني: سكروا وفقدوا عقولهم، فقالت أمنا خديجة رضي الله عنها لأبيها: إن محمد بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه، وهو كما قلنا: أكل من اللحم وشرب فثمل، فزوجها إياه وهو سكران، قال: فخلقته، أي: جعلت له الخلوق وطيبته به، والخلوق -بفتح الخاء وضم اللام- طيب يصنع من زعفران وغيره، ويميل لونه إلى حمرة أو إلى صفرة، ونحن نهينا أن نتطيب بهذا الخلوق، أي: بالطيب الذي يظهر له أثر على الجلد.
فقد ثبت في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجه من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل)، أي: أن يتطيب من طيب له أثر من صفرة أو حمرة كما هو الحال في الزعفران.
وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه، وخير طيب الرجال ما خفي لونه وظهر ريحه، (نهى عليه الصلاة والسلام أن يتزعفر الرجل)، فهي خلقته بالخلوق الذي يظهر له أثر في بشرته على وجهه وعلى يديه وعلى أعضائه، وألبسته حلة، وهي ثياب من قطعتين من لون واحد، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء، يعني: إذا زوجت البنات يفعل بالأب هكذا، يخلق ثم يلبس حلة من قبل ختنه الذي هو زوج ابنته، فلما سري عنه سكره نظر فإذا هو مخلق وعليه حلة، فقال: ما شأني؟ ما هذا الذي حصل؟ فقالت أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها: إنك زوجتني محمد بن عبد الله ولذلك خلقك وألبسك الحلة، وعملنا هذه الوليمة، فقال أبوها وهو خويلد : أنا أزوج يتيم أبي طالب ! لا لعمري! أنا أزوج يتيم أبي طالب ! يعني: هذا الفقير أزوجه، وأنت تملكين ما يطمع أثرياء قريش بك، ثم أزوجك ليتيم أبي طالب ، هذه الثروة الطائلة كلها تذهب لهذا اليتيم، فقالت خديجة رضي الله عنه: أما تستحي، تريد أن تسفه نفسك عند قريش، يقولون: أنت زوجت ثم نكثت، فلم تزل به حتى رضي رضي الله عنها وأرضاها.
إذن هنا هو تقدم، لكن كما قلت يجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه تقدم بناء على عرضها ورغبتها، فتقدم وهي وفت بما وعدت، فدبرت هذه الحيلة الشرعية المباركة بحيث اقترنت بخير البرية عليه صلوات الله وسلامه بموافقة والدها عن طريق ما عملته من هذه الحيلة التي لا حرج في استعمالها، من أجل أن تنال موافقة ورضا والدها، وقد حصل لها ما تريد.
وهكذا إخوتي الكرام توسطت أختها، وكما قلت توسطت نفيسة ، وبعدما أقرر هذا نجمع بين هذه الآثار، أرسلت نفيسة أن تعرض على النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قبل ولتتحقق وليزداد الوثوق من موافقة النبي عليه الصلاة والسلام كلمت أختها، فكلمته فقبل، ثم فاتحته بنفسها، ثم هو تقدم عليه صلوات الله وسلامه.
أما عرض أخت خديجة خديجة على نبينا عليه الصلاة والسلام فقد رواه الطبراني أيضاً والبزار ، وانظروا الأثر في المجمع في المكان المتقدم في الجزء التاسع صفحة عشرين ومائتين كما قلت، ورواه أيضاً البيهقي في دلائل النبوة، لكن الأثر الأول تقدم معنا أن إسناده صحيح، وأما هذا ففيه عمر بن أبي بكر المؤملي ، وكان قاضياً في بلاد الأردن، وهو ضعيف وضعفه أبو زرعة وغيره، وقال أبو حاتم : متروك، انظروا ترجمته في الميزان وفي المغني في الضعفاء كلاهما للإمام الذهبي ، وقد نص الحافظ ابن حجر في التقريب على أنه متروك، وذكره ليميز بينه وبين من يشابهه في الاسم وليس لهذا رواية في الكتب الستة، وإذا رأيتم ترجمة في التقريب في نهايتها تمييز يورده من أجل أن يميز بين هذا الراوي وبين من يشاركه في الاسم من رجال الكتب الستة، ويترجمه عندما يذكره، لكن ليس له رواية في الكتب الستة، مترجم في التقريب وليس له رواية في الكتب الستة، والحديث عن عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين.
الأول تقدم معنا عن جابر بن سمرة ، والثاني عن ابن عباس ، وهذا عن عمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، ومعناه صحيح يشهد له ما تقدم، قال: كان عمار إذا سمع ما يتحدث به الناس من تزوج نبينا عليه الصلاة والسلام بأمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها يقول: أنا أعلم الناس بذلك، أي: بتزوج النبي عليه الصلاة والسلام من أمنا خديجة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، كنت له خدناً وإلفاً في الجاهلية، أي: بمعنى صاحباً مقارباً له في العمر والسن، وأنا صاحب له قبل أن يبعث عليه صلوات الله وسلامه، قال عمار بن ياسر : فخرجت معه حتى مررنا على أخت خديجة رضي الله عنها وأرضاها وهي جالسة على أدم -على جلد مدبوغ- فنادتني -نادت عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه- فانصرفت إليها ووقف النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً، كما هي حالته كما تقدم معنا في الرواية الأولى من رواية جابر بن سمرة عندما كان شريكه يذهب ليتقاضى الأجرة وهو لا يذهب؛ لأنه يستحي أن يقابل النساء عليه صلوات الله وسلامه، وهذا قبل أن يبعث، والله جل وعلا رباه فأحسن تربيته، ونشأه فأحسن تنشئته، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] عليه صلوات الله وسلامه.
فقالت أخت خديجة لعمار : أما لصاحبك في تزويج خديجة من حاجة؟ ما له رغبة في تزوجها؟ وأن تكونه خديجة زوجة له؟ فجاء عمار إلى نبينا المختار عليه الصلاة والسلام فعرض عليه الأمر فقال: بلى، أريد أن أتزوجها إذا تيسر، فأخبر عمار أخت خديجة بذلك في نفس المجلس، وسبق أن قلنا أن الأمر مرتب حيث سبقت بالعرض نفيسة ، ثم هذه، ثم بعد ذلك خديجة ، فالأمر كله مرتب، والموافقة حاصلة، لكن ما بقي إلا إقناع الولي، فقالت أخت خديجة : اغد علينا إذا أصبحنا، في اليوم التالي مباشرة تعال ولا تتأخر، يقول عمار : فغدوت أنا ومحمد عليه صلوات الله وسلامه وقد ذبحوا بقرة، وألبسوا أباها حلة، وضربوا عليه قبة، فلما أكلوا من اللحم وشربوا من الخمر وسكروا، كلمت خديجة أخاها بأن يزوجها بواسطة أبيها، وأن يعرض على أبيها الأمر في تزويجها من محمد عليه الصلاة والسلام، فرضي أخوها بذلك فكلم والده فأجاب، فعقد لنبينا عليه الصلاة والسلام ووالدها كما قلت: سكران، ثم نام بعد أن أكل من الطعام وشرب من الخمر، فلما استيقظ وجد عليه الخلوق، وهو في هذه القبة، ويلبس الحلة، قال: ما هذه؟ فقالت أمنا خديجة رضي الله عنها وأختها: هذه حلة كساكها محمد ختنك، والختن هو الصهر ويقال له: ختن لأن قرابته بسبب التقاء الختانين كما قال أئمتنا، ليس عن طريق النسب، إنما عن طريق المصاهرة والزواج، يقال له: ختن، كساكها محمد ختنك عليه الصلاة والسلام، فأنكر ذلك، وخرج من بيته يصيح في شوارع مكة مستنكراً لهذا الأمر حتى أتى الحجر في الكعبة المشرفة وهو يصيح: أنا ما زوجت محمداً عليه الصلاة والسلام من خديجة .
فخرجت بنو هاشم فكلموه، فقال: ما زوجت محمداً من خديجة ، ثم قال: أين صاحبكم الذي تزعمون أنني قد زوجته؟ فبرز إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: هذا هو، فلما نظر إليه قال: إن كنت زوجته فذاك تم الأمر، وإن لم أزوجه فقد زوجته الآن، لما نظر إليه عليه صلوات الله وسلامه، وهذه الرواية تفيدنا فائدة ثانية وهي أن والد خديجة اقتنع بعد أن صحا من سكره بنبينا عليه الصلاة والسلام على وجه التمام عندما نظر إليه، فقال: إن كنت زوجته فذاك الأمر تم وانتهينا، وإن لم أزوجه فقد زوجته الآن، فقد فعلت، هو زوج لابنتي وليس عندي اعتراض على ذلك.
وكما قلت أيضاً تقدم من نفيسة وهي بنت أمية التميمي العرض على النبي عليه الصلاة والسلام، والجمع بين هذه الأمور أن نقول: عرضت أمنا خديجة على نفيسة أن تكلم النبي عليه الصلاة والسلام فقبل، ثم عرضت على أختها أن تباشر الكلام بنفسها فقبل، ثم فاتحته بنفسها فقبل عليه الصلاة والسلام، ثم تقدم ودبرت أمنا خديجة رضي الله عنها ما تقدمت الإشارة إليه من أجل إقناع والدها رضي الله عنها وأرضاها، يجمع بين هذه الأمور الأربعة بهذه الشاكلة، عرض من نفيسة ، ثم من أخت خديجة ، ثم من خديجة ، ثم موافقة النبي عليه الصلاة والسلام وتقدم.
نعم إن أمنا خديجة رضي الله عنها عرضت نفسها على نبينا عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا ينبغي أن تدرج مع الأصناف الثلاثة لتكون رابع الأصناف، وهي أشد الأصناف فراسة عندما اختارت خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، وقد ثبت في سيرة ابن هشام في الجزء الأول صفحة تسعين مائة: أن أمنا خديجة رضي الله عنها قالت لنبينا صلى الله عليه وسلم: رغبت فيك لقرابتك، وسطتك في قومك -والوسطة يعني الشرف والعز والمكانة النبيلة- قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت نفسه عليه صلوات الله وسلامه عليه.