الانتخابات البلدية مسائل ورسائل


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، لا يضل من استهداه ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً ويمحو الله به عنا وزراً ويجعله لنا عنده ذخراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فحديثنا متعلق بالانتخابات البلدية مسائل ورسائل حولها، وهذا الموضوع قد يقال على منابر المساجد في خطب الجمعة وغيرها، فما علاقة منبر المسجد وخطبة الجمعة بمثل هذا؟! وأي صلة لهما؟! كما قد يجول في خواطر بعض الناس، أو كما هو اعتراض بعض آخر، وهنا أقول: خطبة الجمعة تُعنى بكل أمر يتصل بشأن الناس وقضاياهم وحوائجهم، وهذا هو جوهر نفعها وفائدتها وحقيقة قوتها وتأثيرها، وهذا مدخل أولي.

وأمر ثان مهم: هو تأكيد وتجلية حقيقة شمولية إسلامنا العظيم، لكل جوانب الحياة فلا يصح قصره على أسس الاعتقاد وأحكام الفقه في تفصيلات العبادات، بل هو معني بكل شأن من شئون الحياة، معني بأن يوجه الناس ويبين لهم حكم الله جل وعلا في معاملاتهم المالية الاقتصادية وفي شئونهم الزوجية الاجتماعية، وفي أحوالهم القضائية العدلية، وفي كل باب من أبواب الحياة، كما قال الحق سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ [المائدة:3]، وكما عبر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن شمول ما جاءهم به وما أرشدهم إليه في أدق الأمور وأصغرها فضلاً عن جليلها وأكبرها، كما روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة) أي: حتى قضاء الحاجة، وكما قال أبو ذر رضي الله عنه: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما) فذلك هو الإسلام العظيم في كل شأن من شئون الحياة يبينها ويفصلها ويظهر جوانبها المختلفة.

وأمر ثالث: وهو حسن الإرشاد والتوجيه في أي مسألة تحدث للناس وفيها خواطر وحوائج يريدون فيها بياناً للحكم أو تفضيلاً لأمر على أمر أو كشفاً لشبهة، وحري وجدير أن يكون ذلك من دور المسجد ومن أمانته ورسالته.

وقد قال الشاطبي رحمه الله: الشرع جاء ليقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة، وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة فليس بخارج عن كونه قاصداً لإقامة مصالح الدنيا حتى يأتي فيها سلوك الآخرة.

فليس في ديننا دنيا منعزلة عن الدين أو دين ليس له شأن بالدنيا، فذلك أمر لا يصح في الإسلام، بل هو مناقض لأصوله وقواعده ومخالف لحقيقته وتاريخه، وهو أساس ومقصد أعظم لمن يريدون إضعاف الإسلام وأهله بالفصل ما بين دينهم واعتقادهم وأحكامهم وتشريعاتهم وبين مسالك حياتهم، فلتمتلئ المساجد بالمصلين ولتعج أجواء الفضاء بهم تالين وذاكرين، ثم يكونون في الاقتصاد مرابين وفي الاجتماع مختلطين وغير ملتزمين بحجاب ولا غيره، ذلك هو غاية ما يريده أعداء الإسلام وبعض المسئولين من أبناء المسلمين ممن اختل فهمهم أو اعوج سلوكهم وفتنوا بغيرهم.

إذاً فنحن مدخلنا إلى ذلك مدخل أصيل نتحدث فيه ونتناوله، وربما يكون لنا به أحقية أكثر من غيرنا؛ ذلك أننا نريد دائماً وأبداً أن نكون كما ينبغي، وأن يكون هذا المنبر أخلص قصداً وأنزه مسلكاً وأرشد رأياً وأصوب قولاً فيما يعود إليه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقفتنا الأولى في مشروعية هذه العملية، وهنا مسائل:

أولها: أن هذه الانتخابات وغيرها إنما هي وسيلة لغاية، فقد تكون اليوم على هذا النحو في سبعة أجزاء، وقد تكون من بعد في عشرة، وقد يكون الأمر في أشخاص عدتهم كذا ثم يكونون كذا، فهي وسيلة، والقاعدة تقول: إن للوسائل أحكام الغايات ما لم تناقض شرعاً أو يكون فيها محرم.

والغاية لمثل هذا الأمر هو أن يكون من بين الناس من يؤدي أدواراً مهمة كما هو معلن وكما هو مراد، وأولها: تحسين الأداء والعمل الذي تقوم به هذه البلديات، ونحن نعلم -ولا إشكال في وضوح ذلك وبيانه- أن من أكثر الجهات التي يشتكي منها الناس وقد يعانون من خدماتها وقد يكون فيها من التجاوزات ما فيها هذه البلديات، وهذه المشاركة -مما هو ظاهر فيها ومعلن عنها- تهدف إلى تحسين الأداء.

وثانيها: أنها تهدف إلى الضبط والمراقبة ومنع ما قد يكون من خلل أو تجاوز أو تغيير لحق أو تأخير له ونحو ذلك، وهذا أيضاً أمر مهم وغاية محمودة ينبغي الحرص عليها.

والثالث: توصيل حوائج الناس وقضاؤها والتعجيل في تحقيق مطالبهم، ذلك أن الذين ينتخبون ليسوا محسوبين على الوظائف المعتادة التي يستند فيها الموظف إلى تعيينه دون التفات إلى مصالح الناس، وأول مهمة هؤلاء أنه ينبغي أن يسمعوا أصوات الناس، وأن يسمعوا مشكلاتهم، وأن يكونوا ساعين لهم وأجراء عندهم ووكلاء عنهم في حقيقة الأمر؛ لأن هذه هي حقيقة الولاية في الإسلام، حتى الولاية العظمى -أي: ولاية أمر المسلمين- إنما ولي أمر المسلمين فيها وكيل عنهم في إقامة الدين وسياسة مصالح الدنيا، وإنما هو أجير عند الأمة يقوم بما كلفه الله عز وجل إياه لتحقيق مصالح الأمة، فإذا كانت هذه هي الغايات المحمودة من حسن الأداء والعمل ووجود الرقابة والضبط، وكانوا أجراء عند الناس ووكلاء عنهم في الحرص على مصالح الناس وتحقيقها، فالوسيلة حينئذٍ تأخذ حكم هذه الغاية في جوازها وفي مشروعيتها وفي استحبابها.

ثاني تلك المسائل: أن مثل هذا بالنسبة للناس هو لون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن قلنا: إن هناك خللاً أو فساداً أو تقصيراً وجاءت وسيلة يمكن من خلالها أن نقوم هذا الخلل أو نكمل ذلك النقص أو نقوم هذا الاعوجاج فلا شك أن هذا مطلب في حق كل مسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل سمة المؤمنين في المجتمع المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال جل وعلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71]، بل جعل سمة الأمة كلها مرتبطة بذلك، كما في قوله سبحانه وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

فهذه وسيلة لك ولمن يصل إلى ذلك الموقع ليؤدي هذه المهمة ويتقي الله سبحانه وتعالى، فلا يرى منكراً إلا ويمنعه بقدر جهده وطاقته، ولا يرى خيراً إلا ويسعى إلى إنفاذه وإقراره ونشره وإقامته بين الناس.

الثالث: أن هذا الانتخاب شهادة، فإن قيل لك: إن هذا موقع من المواقع ومنصب من المناصب يتنافس فيه عشرة من الناس ونريد منك أن تشهد شهادة لله عز وجل لمن ترى أو تعرف أنه أقدر على قيامه بالواجب في هذه المهمة والمسئولية، فالشهادة حينئذٍ مطلوبة، والمؤمن لا يشهد إلا بالحق، وإذا قصر عن الشهادة في وقت يحتاج فيه إلى شهادته فترتب على غياب شهادته إقرار لباطل، أو تقديم لفاسد أو نحو ذلك فإنه قد يكون آثماً بهذا؛ إذ سكت عن حق وكتم شهادة، وكلنا يعلم ذلك في قوله جل وعلا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140]، والله جل وعلا يقول: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]، فاشهد بالحق، وقل بما يغلب على ظنك أنه الصواب، وتحر الإخلاص، وتنزه عن أن يكون لك مقصد غير إقرار الحق والنطق به والشهادة به، كما قال عز وجل: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2].

فقوله تعالى: (أقيموا الشهادة لله) أي: ابتغاء وجهه ومرضاته، لا لمصلحة ولا ميل إلى من لك عنده مصلحة.

فانتخابك شهادة فلا ينبغي لك أن تكتم الشهادة وأنت قادر على إنفاذها، وأنت تعلم أن إنفاذها يكون فيه خير.

إن مقالات أهل العلم في هذا الشأن من علماء الأمة المعاصرين وأقوالهم كثيرة، فقد قال الشيخ ابن باز رحمه الله عن الانتخابات التشريعية أو المجالس النيابية إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) لذا فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله.

إذاً فهذه ومضات ظاهرة واضحة للمشروعية، بل وفي الندب إلى ما فيه أمر بمعروف ونهي عن المنكر وشهادة بالحق، وتحقيق لغايات فيها مصالح للناس وقضاء لحوائجهم.

الرسائل نوجهها لمن يدلون بأصواتهم ولمن يرشحون أنفسهم قبل ذلك، يقول الحق سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام في مدين حكاية عن شعيب: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26].

أن يكون الاختيار مبنياً على أساس إسلامي

أول رسالة أن يكون اختيارنا مبنياً على أساس إسلامي ومنهج قرآني وهدي نبوي، فقد قالت الفتاة: (إن خير من استأجرت القوي الأمين) قال السعدي في تفسيره: أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة.

وهذان الوصفان ينبني عليهما الإنجاز في كل من يتولى أمراً من الأمور في إدارة أو غيرها، فإن الخلل يكون بفقدهما أو فقد أحدهما، وأما باجتماعهما فإن العمل يتم ويكمل، فلابد من أن ننظر إلى من يقدر وإلى من يظن أنه يستطيع أن يقوم بالمهمة على وجه حسن، وأن ننظر إلى ديانته وأمانته وصدقه وإخلاصه فيما نرى وفيما نجتهد؛ لأن من لا يقصد وجه الله عز وجل ويخلص له قد يُفتن وقد يَفتن، وقد ينصرف إلى حظ نفسه، وقد يغلب مصالحه، وقد يضيع أمانته ويفرط في مسئوليته، فينبغي أن ننتبه لذلك جميعاً.

مقصود الولاية العظمى إقامة الشرع

ورسالة ثانية توجه للجميع، فما المقصود من هذه المسئولية أو المهمة؟ بل ما المقصود مما هو أعظم منها وهو الولاية العظمى؟

إن مقاصد الإسلام في كل ولاية هي إقامة الدين ورعاية المصالح في الدنيا، فكل ولاية ومهمة الجزء الأساسي في غايتها هي مصالح الناس ورعاية أمور دنياهم، وإقامة الحق والشرع فيهم.

قال ابن تيمية رحمه الله: فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربةً يتقرب بها إلى الله؛ فإن التقرب إلى الله بطاعته وطاعة رسوله أفضل القربات.

ثم تكلم عن واقع مهم، وهو قول مطرد في المجتمعات، قال: إن الناس انقسموا إلى قسمين: الأول: من اتخذ الولاية لحظ نفسه فاستعملها في مصالحه وفي تحصيل المال، وضيع أمور الناس.

وقسم آخر لما رأى الولاية والسلطان اقترنا في كثير من الصور بالاستئثار بالمال والاعتداء على الحقوق وتضييع المصالح رأى أن لا يكون له في ذلك نصيب وأن ينقطع عنه وينعزل. قال: وكلا السبيلين غير محمودٍ، بل ذكر أن هذين السبيلين هما سبيلا المغضوب عليهم والضالين من الأمم، فاليهود أخذت المال، وجعلت السلطان حظاً للمال وللفساد في الأرض، وغيرهم انقطعوا وانعزلوا أو جعلوا انقطاعهم وانعزالهم إلى الصوامع وإلى البيع وتركوا أمور الناس وشئون الحياة.

قال: وسبيل الحق بينهما، وهو أن يأخذ المسلم من هذه الولايات ما يعتبره أمانة يحملها ومسئولية يؤديها فيقوم فيها بالصلاح والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال رحمه الله: إن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لأجل ذلك وبه أنزل الكتب وأرسل الرسل.

وقال أيضاً: وجميع الولايات إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل ولاية السلطان، والصغرى مثل ولاية الشرطة، ودون ذلك مثل ولاية المال أو ولاية الدواوين المالية وولاية الحسبة، فكل ولاية هي ضرب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الدين ورعاية مصالح الدنيا.

ولذلك ينبغي أن ندرك هذا المعنى فيكون للذي ينتخب نية في أنه يسهم في هذا الأمر إحقاقاً للحق وتقديماً له ورعاية للمصلحة، وأن يعرف من يرشح نفسه أنه إنما ينتدب لمهمة يتقرب فيها إلى الله، ويخلص فيها له سبحانه لا لحظ نفسه، ولا لشهرته أو جاهه أو غير ذلك.

الولاية في الإسلام لا تعطى لمن يطلبها

وهنا -أيضاً- رسائل أخرى تبين لنا عظمة ديننا من جهة، وتبين لنا ما ينبغي أن نكون عليه من جهة أخرى، وهي أن الولاية في الإسلام -كما هو معلوم- لا تعطى لمن يطلبها، ولا ينبغي أن يستشرف لها من ليس أهلاً لها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال بصريح حديثه: (إنا لا نعطي هذا الأمر من سأله) وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي ذر المشهور: (يا أبا ذر ! إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها).

فليست المسألة أن نسارع إلى أمر نظنه هيناً، إنها أمانة عظيمة، ومسئولية جسيمة ومهمة دقيقة، ومن أخلص فيها كانت له عبادة جليلة، ومن فرط فيها وأساء وأفسد ربما كانت له سمة ذميمة وإثماً عظيماً، نسأل الله عز وجل السلامة.

ومن هنا نجد التوجيهات النبوية في هذا الشأن وهي تدلنا على أمور كثيرة مهمة، منها: ما الذي ينبغي لمن يقوم بمهمة أو يتولى مسئولية؟ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم! من ولي من أمر المسلمين شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئاً فرفق بهم فارفق به) وهذا يدلنا على الواجب المطلوب لكل مسئول من أعلى مسئول إلى أدنى مسئول، وأنه إنما هو أجير وخادم للناس وراع لمصالحهم، وفي الحديث: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وجاء -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلم أن في المسلمين من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) رواه الحاكم في مستدركه وصححه، وسكت عنه الذهبي .

إذاً فالمسألة دين وأمانة، نسأل الله عز وجل أن يعيننا في كل أمورنا أن نقصد وجه الله وأن نتابع شرع الله، وأن نقتفي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نجتهد في إصابة الحق، وأن نتناصح به وبالصبر.

تقديم المرشح نفسه من خلال برنامجه الانتخابي خلاف الأولى وليس محرماً

إن الانتخاب أو التصويت هو أمر بمعروف ونهي عن المنكر، وشهادة ينبغي أن تقوم بالحق، وأن يكون فيها تقوى الله سبحانه وتعالى، وأما وقد جاء في هذه الوسائل ما يقدم فيها المرء نفسه ويذكر للناس ما يعرف ببرنامجه أو ما يريد أن يفعله لهم، وقد تكون هناك صور أخرى أنسب أو أوجه منه، فإنا نقول: هذه الصورة في ذاتها ليست محرمة، وإن كانت النصوص قد يكون فيها ما يدل على أن هناك ما هو أولى، إلا أن قول الله سبحانه وتعالى في قصة يوسف عليه السلام: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] فيه إشارة إلى أن من وجد في نفسه كفاءة لأمر يرى أنه يحقق فيه للمسلمين مصلحة فلا بأس أن يتقدم له، وأن يذكر ما عنده فيه، فإن يوسف عليه السلام لما علم ما علم من شأن الرؤيا التي أراه الله إياها ورأى أن للناس مصالح وهو قادر عليها قال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ [يوسف:55] فطلب الولاية، وكذلك بين ما لديه من قدرات فقال: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، ومن هنا فإن الجمع بين هذا وهذا يرجى أن يكون واضحاً، وأنَّ ذكر ما يعمله الإنسان أو ما عنده من علم إنما هو باب من الأبواب التي فيها اجتهاد بين الجواز أو المنع عند بعضهم، أو رؤية غير ذلك أولى، لكن الأمر المهم في وجوب ذلك أو جوازه هو أن لا يكون مظنةً أو مدخلاً إلى الغرور والاغترار والإعجاب بالنفس والاستكبار أو طلب الشهرة بين الناس ونسيان المقصد الأعظم، وهو أنه يريد أن يقوم بواجب وأن يؤدي أمانة وأن يتحمل مسئولية، وأن يكون وكيلاً عن الناس في تحقيق مصالحهم.

فلا يلتفت المرء عن مثل هذا لمثل ذاك، فإن من فعل فإنه أساء -ولا شك- وأخطأ، ولذلك ينبغي أن ندرك أن من يتصدى لذلك فإن عليه أن ينتبه إلى الأمانة، فإن كل مسئولية صغرت أو كبرت فهي أمانة، وينبغي أن نتذكر قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].

وأن يعلم أن الأمانة العظمى ومثلها الأمانات الأخرى مسئول عنها، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وأن ندرك أيضاً أنه يؤدي واجبه، وأنه بعد ذلك مسئول بين يدي الله سبحانه وتعالى عما استأمنه الله عليه وعما ولاه الله إياه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). وكذلك أن يدرك المسئولية وأنها عظيمة، وأن الله سبحانه وتعالى قال: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] أي: مرتهنة بعملها إن أحسنت أعتقت نفسها وإن أساءت أوبقت نفسها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) إما أن يعتقها من النار ومن العذاب بأن يؤدي الواجب ويحفظ الأمانة ويقوم بقدر استطاعته بما ينبغي عليه القيام به، وإما أن يفرط فيوبقها ويلجمها بالإثم ويستحق بذلك العقاب.

على المسلم أن يتقن ما أنيط به من عمل ومسئولية

وثمة مسألة أخرى تقال هنا، وهي الإتقان، فليس أداء الواجب بأدنى الدرجات، بل ينبغي الحرص فيه على أعلاها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما روت عائشة رضي الله عنها: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) فينبغي لمن يتصدى لذلك أن يعلم أنه لا يلزمه القيام بالواجب فحسب، بل الإتقان فيه والحرص على أعلى المراتب، وحسبنا ما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عندما تولوا المسئوليات الكبرى، فقد تولى أبو بكر الخلافة وقال قولته المشهورة: (وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) وقوله: (إنما وليت بقولكم ورأيكم واجتماع كلمتكم) وفيه إشارة إلى أن قول أهل الحق والإسلام في أمر يكون به مثل ذلك.

وعمر رضي الله عنه كان يفعل ويفعل ويفعل ثم يقول: (والله لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله لم لم تسو لها الطريق؟!) إن كنت تريد أن تتصدى لمسئولية عامة فتذكر هذه الأمثلة، وتذكر الذين سهروا ليلهم ونهارهم وكان أمر المسئولية يؤرق نومهم ويقض مضاجعهم إخلاصاً لله ورعاية لمصالح الناس، واستشعاراً للمسئولية وحرصاً على الإتقان.

نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا جميعاً لطاعته ومرضاته، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم وفقنا للصالحات واصرف عنا السيئات، واغفر لنا ما مضى وما هو آت، وأنزل علينا الرحمات وأفض علينا البركات، وضاعف لنا الحسنات وارفع لنا الدرجات، وامح عنا السيئات وكفر عنا السيئات برحمتك يا رب الأرض والسماوات!

اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداةً مهديين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم ألفِّ على الحق قلوبنا، وثبت على طريقه أقدامنا، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا نادمين برحمتك يا أرحم الراحمين!

اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم!

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء!

اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين!

اللهم الطف بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمأسورين في كل مكان يا رب العالمين!

اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم ردهم على أعقابهم خائبين، نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.

اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ عليها سلمها وإسلامها، وأمنها وإيمانها، ورزقها ورغد عيشها، اللهم ولِّ علينا خيارنا ولا تول علينا شرارنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.

وفق اللهم ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.

اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2907 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2729 استماع
فاطمة الزهراء 2694 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2627 استماع
المرأة والدعوة [1] 2541 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2533 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2533 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2485 استماع
خطبة عيد الفطر 2467 استماع
التوبة آثار وآفاق 2449 استماع