شرح أخصر المختصرات [40]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى:

[فصل:

وتصح الإجارة بثلاثة شروط:

معرفة منفعة، وإباحتها، ومعرفة أجرة إلا أجيرًا وظئرًا بطعامهما وكسوتهما. ‏

وإن دخل حمامًا، أو سفينةً، أو أعطى ثوبه خياطًا ونحوه صح وله أجرة مثل. ‏

وهي ضربان:

إجارة عين: وشرط معرفتها، وقدرة على تسليمها، وعقد في غير ظئر على نفعها دون ‏أجزائها، واشتمالها على النفع، وكونها لمؤجر، أو مأذوناً له فيها.‏

وإجارة العين قسمان: إلى أمد معلوم يغلب على الظن بقاؤها فيه.‏

الثاني: لعمل معلوم، كإجارة دابة لركوب أو حمل إلى موضع معين.

الضرب الثاني: عقد على منفعة في الذمة في شيء معين أو موصوف، فيشترط تقديرها بعمل أو ‏مدة كبناء دار وخياطة، وشرط معرفة ذلك وضبطه، وكون أجير فيها آدمياً جائز التصرف، ‏وكون عمل لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة]. ‏

تعريف الإجارة

يعرفون الإجارة: بأنها عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة في الذمة أو عمل مباح بعوض مباح، والعقد: لا يكون إلا بين اثنين، عاقد: وهو المالك، وكذلك: العاقد الثاني: وهو المستأجر، والمعقود عليه: وهو المنفعة.

ويعرفون الإجارة: بأنها بيع المنافع، والحاجة داعية إليها؛ وذلك لأنه ليس كل أحد يستطيع أن يحصل ما يحتاجه من الأعيان للاستعمال، فيحتاج إلى أن يستأجر، ويقال أيضاً: إن حاجته لا تدوم، بل تنقضي في يوم أو في سنة أو نحو ذلك؛ فلذلك يحتاج إلى أن يستأجر العين لينتفع بها، ويدفع أجرتها، ثم يردها إلى مالكها، والمالك يكون عنده أعيان هو مستغنٍ عن استعمالها بخاصة نفسه، فيؤجرها لمن ينتفع بها ويدفع أجرةً، وترد إلى المالك بعد استيفاء المنافع التي فيها.

شروط الإجارة

ذكر المؤلف أنه يشترط لها ثلاثة شروط:

الأول: معرفة المنفعة.

الثاني: إباحة المنفعة.

الثالث: معرفة الأجرة.

وهذه شروط لابد منها في صحة الإجارة، فأولاً: معرفة المنفعة: فمعروف أن هناك أشياء منفعتها ظاهرة، فالدار مثلاً: يستأجرها ليسكن فيها مدة محددة، وقد يستأجرها ليجعلها مخزناً لتجارته أو نحو ذلك، فإذا استأجرها لهذا الغرض، فإنه يستوفي هذه المنفعة، فإن استأجرها للسكنى فلا يجوز له أن يجعلها مستودعاً للدواب -للبقر، وللغنم، وللحُمُر وللخيل- ؛ وذلك لأنها تفسدها بحوافرها مثلاً، وتلوثها بالروائح -الروث ونحوه-، ولا يستأجرها للسكنى ويجعلها مثلاً: مصنعاً من المصانع التي يكثر فيها الدَّقُّ بالسندان أو بالحجارة الثقيلة التي تزلزل الحيطان وتتصدع منها.. وما أشبه ذلك.

وإذا استأجرها للسكنى فيسكن فيها من تتحمله، فإذا كانت تتحمل مثلاً: عشرة، فلا يسكن فيها عشرين أو ثلاثين؛ لأنهم بدخولهم وخروجهم وصعودهم ونزولهم قد يؤثرون على بنائها، وقد يؤثرون على أرضيتها وفرشها وحيطانها.. وما أشبه ذلك، فلا يسكنها إلا ما تتحمل.

وكذلك أيضاً: إذا استأجر الدار ونحوها، فلا يسكنها من يتضرر الجيران منهم.

فالحاصل: أن سكنى الدار منفعةٌ مباحة، وسكنى المخزن منفعةٌ مباحة، يخزن فيه تجارته، وكذلك: سكنى الدكاكين لإيداع البضائع فيها، وفتحها للاتجار فيها.. وما أشبه ذلك.

وكذلك استئجار الخيمة للاستظلال بها، والسجاد والفرش تستأجر من أجل أن تفرش فرشاً عادياً، ويجلس عليها جلوساً عادياً، ولا يجوز مثلاً: أن تفرش في الشمس التي تفسدها، ولا أن تتعرض للإحراق وما أشبه ذلك.

واستئجار السرر والكراسي هو للجلوس عليها والنوم عليها.. وما أشبه ذلك.

واستئجار القدر أو الإبريق للطبخ فيه، وإذا استأجره ليجعله زينةً فإنه ليس من المرافق، فيتجمل بها مثلاً.

واستئجار الثوب ليلبسه، وكذلك: ما يلبس كالنعل ونحوه.

ولابد أن تكون الأجرة معروفة، كسكنى دار وحمل إلى موضع معين، فإذا استأجر السيارة فلابد أن يحدد ما يحمله، أن يحمل عليها كذا وكذا -كيلو أو طن- وأن يحدد المسافة، فيقول: السير عليها من كذا إلى كذا، مثلاً: من الرياض إلى مكة أو ما أشبه ذلك.

وكذلك أيضاً: الخدمة: فإذا استأجر خادماً فلابد أن يحدد نوع الخدمة، فلا يكلفه أن يحمل الأشياء الثقيلة، وهو استأجره مثلاً: لإصلاح طعام، أو لإصلاح فرش، أو إصلاح القهوة، أو قيادة سيارة أو تنظيفها وتغسيلها، أو سقي حديقة، أو إخراج قمامة من المنزل، يعني: خدمةٌ يقدر عليها ذلك المستخدم، فلا يكلفه ما لا يطيق، فإذا كانت خدمته متواصلة كالذي يعمل في دكان أو الذي يعمل في بستان أو الذي يرعى دواب؛ فلا يكلفه أكثر مما يطيق، فيكلفه ما يستطيع، كأن يخدم عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة إذا لم يكن العمل شاقاً، ويريحه بقية الوقت.

وكذلك: إذا استأجر معلماً، فالتعليم يكون بقدره، كأن يعلم الأولاد -مثلاً- كل يوم عشر ساعات أو نحوها، وقد تكون المنفعة على شيء معين، كأن يقول: كلما حفظوا جزءاً فلك أجرة كذا وكذا، وكلما حفظوا باباً من العلم، أو تعلموا كتاباً فأجرتك كذا وكذا.

والحاصل أنه لابد من معرفة المنفعة التي تستغل من تلك العين، وفي كل عين منفعة، فاستئجار الكتاب ليس للزينة، وإنما للقراءة فيه، وكذا المصاحف، واستئجار السكين ليس للزينة وإنما ليقطع بها مثلاً، واستئجار الساعة ليستخدمها لمعرفة الوقت عند حاجته إليها، واستئجار السيارة للحمل عليها، لا ليتجمل بها، واستئجار السراج ليوقده في الليل مثلاً إذا كان محتاجاً إليه، وكذلك: استئجار مكيف ليتبرد به، فكل شيء منفعته محددة ومعروفة.

الأشياء التي لا تصح الإجارة فيها

ثم ذكر المصنف الشرط الثاني: وهو إباحتها، وذكر في التعليق الأشياء التي لا تباح إجارتها يقول: فلا تصح الإجارة على الزنا والزمر والغناء، ولا على التياتو -يعني: الضرب بالأدوات التي فيها ملاهي من الأوتار وما أشبهها- ولا على النياحة، ولا على إيجار الدار أو الحانوت لبيع الخمر أو القمار، سواء شرط ذلك في العقد أم لا؛ لأن هذه محرمةٌ شرعاً، ولا يجوز أن يستأجر الأمةَ ليزني بها، وهي مملوكة لغيره، فيقول: أجرني هذه الأمة مدةَ شهر أستمتع بها أو يقول للمرأة: أجريني نفسكِ لفعل الزنا، هذا حرام، وأجرتها حرام، وقد حرمها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مهر البغي خبيث أو سحت) ومهرُ البغي: هو ما يبذل للبغي الزانية مقابل تمكينها من الزنا بها، فهذه المنفعة محرمة.

وكذلك الزمر -يعني: المزامير التي ينفخ فيها ويكون لها صوت-، وكذلك استئجار الطبول ليتلذذ بها؛ فإنها أيضاً: ملحقةٌ بالمزامير التي هي محرمة، واستئجار المغني أو المغنية يعتبر أيضاً: منفعةً محرمة.

وكانوا قديماً يعلِّمون الأمةَ الغناء، فإذا تعلمت الغناء وصارت مطربةً ومغنيةً ارتفع ثمنها، وزيد فيها عند البيع إذا قيل: إنها مغنية، فكان العلماء يحرمون هذه الزيادة، ويقولون لبائعها: لا تبعها على أنها مغنية، بعها على أنها ساذجة جاهلة لا تعرف شيئاً، فإذا بعتها بألف، وزيد ثمنها لأجل غناها؛ فإن تلك الزيادة محرمةٌ عليك، فإذا كان هذا في بيعها، فكذلك في إجارتها، فالذين يؤجرون أنفسهم للطرب والغناء والتلحين والفن.. وما أشبه ذلك؛ هذه الأجرةُ حرام، واستئجار المغنين والمطربين ونحوهم حرامٌ، وما يدفعُ لهم حرام، وسماع أصواتهم حرام، فالغناء حرام بجميع أنواعه، سواءً بواسطة أشرطة الكاسيت، أو أشرطة الفيديو التي فيها شيء من الغناء والطرب، ويحرم تأجيرها، كما أنه حرامٌ بيعها.

وكذلك: أدوات اللهو واللعب التي تستعمل للطرب، مثل: الطبول التي تضرب في الأفراح ونحوها، ويستثنى ما رخص فيه، وهو الدف لقوله عليه السلام: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف) ، وهو: الذي ختمت جهةٌ منه، ولم تختم الثانية، أما الطبل فإنه مختومٌ من الجهتين، وإذا ضرب سمع له طنينٌ مطرب، فلذلك: لا يجوز بيع الطبول وما أشبهها، ولا تجوز إجارتها.

وكذلك: استئجار النائحة، فهناك نساءٌ يعرفن النياحة، فيتعلمن الندب والنياحة والصياح وتعداد محاسن الميت، كقولهم: وا محمداه! وا إبراهيماه! وا مطعماه! وا كاسياه! وا أخواه! وا ولداه! ففعلهن هذا يسبب الحزن والبكاء والصراخ، فأجرتهن واستئجارهن محرم.

وكذلك استئجار الدار أو الحانوت لبيع الخمور؛ وذلك لأنه حرم ثمنه، فتحرم أجرته، والذين يؤجرونهم لا شك أنهم شركاء لهم في الإثم، ويدخلون في قوله تعالى: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] ، وهكذا تأجيره على من يحلق اللحى، فإن ذلك محرمٌ، أما إذا كان يحلق الرأس مثلاً فلا بأس؛ لأن حلق الرأس من المباحات.

وكذلك الخياطون، إذا كان الخياط يخيط للنساء الملابس الضيقة فإنه يدخل في الوعيد، فإذا استأجر دكانه الخياط، فعليه أن يشترط عليه ألا يخيط الثياب الضيقة ولا الشفافة ولا القصيرة التي يتبين منها شيءٌ من أعضاء المرأة، وكذلك أيضاً: الثياب الزائدة بالنسبة للرجال التي فيها إسبال إلى تحت الكعبين فهذه أجرتها محرمة، فإذا استأجر منه الخياط اشترط عليه ألا يعمل مثل هذه الأعمال.

وهكذا أيضاً: إذا استأجره للبيع، فيشترط عليه ألا يبيع أجهزة الأغاني كالأشرطة المحرمة، وكذلك أدواتها المحرمة كالطبول وما أشبهها.

وهكذا الذين يستأجرونها للعب المحرم، فهناك من يعمل ما يسمى بالاستراحات، ثم يؤجرونها على أناس وفيها الخمور أو الدخان والشيش وما أشبهها، ويلعبون فيها طوال ليلهم بما يسمى بالزنجفة أو البلوت يعني: الأوراق التي هي لهو، فيلعبون فيها إلى آخر الليل، ويتركون الصلوات: مغرباً وعشاءً وفجراً، فنرى أن هؤلاء قد أعانوهم على الإثم والعدوان، فليتنبهوا لمثل ذلك، فلابد أن تكون العين مباحة، والمنفعة مباحة، ولا يشترط أن تكون العين التي فيها المنفعة نفسها مباحة، إنما اشترطوا إباحة المنفعة، فمثلاً: الحمار لا يؤكل، ولكن يؤجر للحمل عليه، أو ليركب.. وما أشبه ذلك.

وأما إذا كانت العين مباحة المنفعة كركوب الخيل والحمر والأواني، فإنه يصح التأجير لها، والعين التي لا تباح منفعتها، ولا يباح ثمنها كالكلب لا يصح تأجيره.

وتقدم أنه لا يصح أن يباع -مثلاً- العصير لمن يعمله خمراً، وهكذا أيضاً: لا يؤجر عليه -إذا كان يعمل خمراً- قدوراً أو أدوات وقود كآلات الطبخ، والوقود الذي هو (البوتجاز) لا يجوز تأجيره على من يستعين به على عمل محرم.

معرفة الأجرة

الشرط الثالث: معرفة الأجرة، أي: تسمية الأجرة؛ وذلك لأنها أحد العوضين، المستأجر يستوفي المنفعة، والمؤجر يستحق الأجرة، فلابد من تسمية الأجرة؛ مخافة أن يكون هناك اختلاف ونزاع يؤدي إلى الضرر؛ لذلك: لابد من تسمية الأجرة.

كثيراً ما تركب سيارات الأجرة، ثم يقع اختلاف إذا لم تُسمِ الأجرة، فيطلب منك -مثلاً- ثلاثين، وتقول: لا تستحق إلا عشرين أو عشرةً، المسافة قليلة، والزمن قليل.

وهكذا أيضاً: قد يحسّن الإنسان الظن إذا استأجر فرشاً كقطع الزلِ، ولا يحدد أجرة، ثم عند المحاسبة يطلبون منه أكثر، ويقولون: كنا نؤجرها بكذا وكذا، كنا نؤجر الأباريق بكذا، ونؤجر القدور بكذا، فيطلبون منه أكثر؛ لذلك يقال: إن تسمية الأجرة في العقد أولى حتى ينقطع النزاع، وحتى لا يحصل الاختلاف.

ويصح في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما، والأجير: الخادم، فقد يكون هناك بعض الفقراء يعجز أحدهم عن تحصيل لقمة العيش، يعجز أن يجد ما يقوت به نفسه أو يستر به عورته، فيقول: أنا أقنع أن أخدمك بمجرد إطعامي وكسوتي، فيصح استئجار الخادم بطعامه وكسوته، وقد يقال: إن هذا يختلف! فيقال: الاختلاف قليل، فبعض الخدام لا يشبع إلا بثلاثة أرغفة، وبعضهم يكفيه رغيفٌ واحد في كل وجبة، فمثل هذا يتسامح فيه، والعادة أن التفاوت بسبب كثرة العمل، فإذا كان يشتغل شغلاً متواصلاً كثيراً؛ فلا يستنكر منه إذا أكل رغيفين أو ثلاثة أرغفة، أو أكل كثيراً، وإذا كان عمله يسيراً -يعمل وهو جالس، أو يجلس أكثر الوقت- فالغالب أنه لا يأكل كثيراً.

والحاصل: أن هذا يتسامح فيه ولو وقع فيه اختلاف.

وكذلك أيضاً: الكسوة، قد يكون لكثرة مزاولته الأعمال يحتاج إلى كسوة كل شهرين، وبعضهم قد تكفيه كسوة نصف سنة أو سنةً كاملة؛ لذلك يتسامح في ذلك، فيستأجر الخادم بطعامه وكسوته.

وكذلك الظئر: وعرفها في الحاشية بأنها: المرضعة، فإذا استؤجرت على طعامها وكسوتها؛ صح الإيجار، فكثيراً ما تكون المرأة عاجزةً عن إرضاع ولدها، فتستأجر له ظئراً -أي: مرضعةً-، فهذه المرضعة قد تكون فقيرة يعجزها تحصيل القوت، فتقنع بالطعام والكسوة، فتقول: أنا أرضع لكم ولدكم، ولو كان الرضاع يختلف، فالكبير يرضع منها كثيراً، والصغير أقل، ولو كان أيضاً: الطعام يختلف، قد تكون إحدى المرضعات تأكل كثيراً، وبعضهن تشبع بقليل، وهذا أيضاً مما يتسامح فيه.

يقول: (وإن دخل حماماً، أو سفينةً، أو أعطى ثوبه خياطاً.. أو نحوه؛ صح وله أجرة المثل) لأن هؤلاء عادةً تعرف الأجرة عندهم، والحمامات: هي أماكن تؤجر للاستحمام، وهي توجد في البلاد الباردة، مثل الشام ومصر والعراق، وهي بيوت تحت الأرض فيها حمامات -يعني: مستحمات-، وفيها ماءٌ ساخن، يدخلها الإنسان ويغسل بدنه بذلك الماء الحميم، والأجرة معروفة عندهم، فلا حاجة إلى أن تفرض الأجرة على كل من دخل، وإذا كانت أجرته مثلاً خمسة قد يكتبونها على البوابة، فيكتبون: أجرة الاستحمام خمسة أو عشرة أو عشرين، فلا حاجة إلى إيقاف كل واحد.

وكذلك: إذا ركب سفينةً معتادة التردد من قطر إلى قطر، ومن بلد إلى بلد، تحمل الركاب؛ فهذه أيضاً: قد تكون معروفة الأجرة؛ لأنها تتردد دائماً، فلا حاجةَ إلى أن كل من ركب تفرض عليه الأجرة.

ويلحق بها السيارات والطائرات والباخرات والقطارات، فإنها وسائل نقل حديثة، والمسافة محددة، فمسافة القطار من الرياض إلى الأحساء أو إلى الدمام معروفة، وكل راكب محددة قيمة إركابه، بأنها بكذا وكذا، وكذلك سيارات النقل من الرياض إلى مكة أو إلى جدة أو الطائف معروفة الأجرة عندهم، فلا حاجة إلى أن كل راكب يشارطهم بأجرة كذا وكذا، بخلاف البلاد التي ليست مأهولةً دائماً، فإذا استأجر -مثلاً- من الرياض إلى برية معروفة، وقد يكون الطريق إليها غير مسفلت، فلابد أن يسمي الأجرة، سواءً أجر ركاباً يركبون كل راكب بكذا، أو أجر سيارته لمن يحمل عليها.

وهكذا الثياب، فالأصل أن الخياطين معروفة أجرة الخياطة عندهم، فيقولون: الثوب التام أجرته بكذا، وثوب الطفل أجرته بكذا، والسراويل أجرته بكذا، والقلنسوة أجرتها بكذا -يعني: أجرة الخياطة- وكذلك البنطلون أو الجبة أو ما أشبه ذلك، كل شيء خياطته محددة عندهم، فمثل هؤلاء لا حاجة إلى أن يتعاقد عند كل واحد.

وألحق بالخياط الدلال الذي يدل على السلع، يدلك على من تستأجر منه، أو يدلك على من تبتاع منه، أو تخطب منه خطبة نكاح، هؤلاء يسمون دلالين، وكذا الحمالين الذين يحملون على ظهورهم، وأجرتهم على الكيس كذا وكذا من الدكان إلى السيارة، وما أشبهها، وكذلك الحلاقين: والحلاق غالباً يكتب أجرة الحلاقة بكذا وكذا، حلق الرأس بكذا، وقصه بالماكنة بكذا، وكذلك الصباغ الذين يصبغون الأواني أو يصبغون الثياب، وكذا المطرِّز الذي يصلح القلنسوة فيدقها، ويصلح النقوشات، فهؤلاء يلحقون بالخياط.

أنواع الإجارة

ذكر المؤلف أن الإجارة ضربان:

أولاً: إجارة العين، والثاني: عقدٌ على منفعة في الذمة، فإجارة العين: هي أن يتعاقد على استيفاء المنفعة من هذه العين التي هي معينة أو موصوفةٌ في الذمة، فإذا كان فيها منفعة فإنها تصلح إجارتها، ويشترط لهذا الإجارة شروط:

الشرط الأول: معرفة العين، وإن كانت غير معينة فلابد أن توصف وصفاً دقيقاً، فإذا استأجر منه داراً فلابد أن يراها، ويكفي أن توصف له وصفاً كاملاً، يقال مثلاً: سعتها كذا وكذا متراً مربعاً، وارتفاع سقفها كذا، وفيها من الغرف كذا، وفيها من المستحمات كذا وكذا، وتوصف الصهاريج ونحوها، وفيها من المجالس كذا، ومن السطوح كذا، ويذكر نوع بنائها، ونوع بلاطها، وما فيها من المرافق والمكيفات.. وما أشبه ذلك، فإذا وصفت وصفاً دقيقاً صح عقد الإجارة عليها وإن لم يرها.

كذلك: إذا استأجر دابةً للركوب فلابد أن توصف له، فيوصف له الفرس أنه قويٌ، وأنه سمين، وأنه ثابتٌ، وأنه مذلل، أو توصف له الناقة أو الجمل، وكذلك المراكب الجديدة، فتوصف له السيارة التي يريد أن يستأجرها يومياً أو إلى مكان معين أنها تتحمل كذا، وأنها من نوع كذا وكذا.

وهكذا: إذا استأجر ثوباً ولم يره صح أن يوصف له بأنه ثوب من صوف أو من قطن طوله كذا، جديد أو مستعمل، وإذا استأجر كتاباً ليقرأ فيه، أو قدراً ليطبخ فيه، أو كأساً ليشرب فيه.. أو ما أشبه ذلك؛ فلابد أن يعرفه معاينة أو يوصف له وصفاً دقيقاً.

الشرط الثاني: القدرة على التسليم، فلا يصح أن يؤجره جملاً شارداً ولا عبداً آبقاً؛ لأنه لا يقدر على تسليمه، إلا إذا كان بالإمكان القدرة عليه، فإذا قدر على أن يدركه بالسيارة ويقبض عليه بأن كان في محيط؛ فلا بأس بذلك.

الشرط الثالث: العقد على نفعها دون أجزائها إلا في الظئر، فقد عرفنا أن العقد فيها هو على شيء من أجزائها وهو لبنها، ويلحق بها أيضاً: ذوات اللبن، فيصح أن تستأجر شاةً لتحلبها، مع أن المنفعة جزءٌ من أجزائها، وكذا البقرة أو الناقة تستأجرها لأجل أن تشرب لبنها، وتكون الأجرة عليك؛ وذلك لأن التفاوت فيه يسير، فأما بقية الأدوات فإن الأجرة تكون على النفع لا على الأجزاء؛ وذلك لأن الأجزاء تهلك بالاستعمال، فمثلاً: لا يقول: أجرني هذا الكيس -كيس بر مثلاً- لآكل منه ثم أرده، فإن هذا لا يسمى انتفاعاً بالعين، بل استهلاكاً لها، وكل شيء يهلك بالاستعمال لا يستأجر، فلا يستأجر -مثلاً- التفاح لأجل أن يؤكل أو نحوه، ولا الطيب والعود لأجل أن يتطيب به؛ لأنه يتلف بالاستعمال، وأجاز بعضهم استئجاره للشم إذا كانت له رائحةٌ عطرة يقول مثلاً: رائحته عطرة، أجرنيه يوماً أتلذذ بشمه، ثم أرده عليك بأجرة كذا وكذا، فمثل هذا منفعة، ولكن ليست مقصودةً عادة؛ وذلك لأن الأصل أنه يتلف، وهكذا الشمعة معلومٌ أنه إذا أوقد فيها فإنها تتلف، فهل يجوز استئجارها لأجل أن يوقدها؟

لا يجوز؛ وذلك لأنها تتلف بالاستعمال، ويجوز استئجار السراج، ويكون الوقود على المستأجر يجعل فيه وقوداً مثل (القاز) أو ما أشبه ذلك، ويستأجر المكيف ليتبرد به، ثم يرده، أو يستأجر الأنوار الكهربائية ليستنير بها يوماً -مثلاً- ثم يردها، فهذه منفعتها مباحة، أو يستأجر -مثلاً- المكبر أو يستأجر المسجل ليسجل فيه، ثم يرده، كل هذه منافعها مباحة، والأجرة على المنفعة لا على الأجزاء، وإذا كان يخلولق، جاز ذلك، فمعلوم أن الثوب يخلولق إذا لبس، ولكن صاحبه يأخذ أجرة منفعة الثوب في اللباس، ومنفعة الحذاء -مثلاً- بالانتعال، ومنفعة الفرش بالجلوس عليها، فالإجارة تكون على نفعها لا على أجزائها.

الشرط الرابع: أن تكون العين فيها منفعة مقصودة، فإذا كانت لا تشتمل على منفعة ولا فائدة فيها فلا تؤجر، فمثلاً: سيارةٌ خربة لا تصلح أن يركب فيها، ولا أن يقودها قائد، فهذه لا منفعة فيها، وكذلك: جمل هزيل، لا يمكن أن ينتفع به في حمل، ولا في ركوب؛ على أي شيء يستعمل؟! ليس هو محلوبٌ ولا مركوب! فلا فائدة في تأجيره، وكذلك مثلاً: إذا استأجر أرضاً سبخة ليزرعها! ما يمكن، ليس فيها منفعة ولا تزرع؛ لأن الأرض السبخة لا تنبت نباتاً كقوله في الحديث: (إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً). فالحاصل أنه لابد أن تكون فيها منفعة، فالدار فيها منفعة للسكنى، والدابةُ التي تركب فيها منفعة، والثوب فيه منفعة، والقدور فيها منفعة، والخيمة فيها منفعة، فأما الذي لا منفعة فيه فلا تصح إجارته.

الشرط الخامس: كونها ملكاً للمؤجر أو مأذوناً له فيها، أي: لابد أن يكون مالكاً لتلك العين أو مرخصاً له في تأجيرها، فلا يؤجر كتاب غيره، ولا قدر غيره، ولا بيت غيره، ولا سيارة غيره، حتى ولو رأى في ذلك مصلحة، لو رأى إنساناً محتاجاً للسيارة، وسوف يدفع أجرةً رفيعة كثيرة، ورأى أن جاره عنده سيارة واقفة، وأنه ليس بحاجة لها هذا اليوم أو هذه الأيام، فهل يقول: أتجرأ على جاري -ولو كان غائباً- وآخذ مفاتيح سيارته، وأؤجرها بأجرة رفيعة، لمصلحة جاري؟

ليس له ذلك؛ وذلك لأنه غير مأذون له، إلا إذا كان هناك إذن عام، بأن قال له جاره: متى رأيت مصلحةً مناسبةً فلا مانع من أن تتجرأ على ما يختص بنا، ولك الحرية في ذلك، فلابد أن يكون مالكاً للعين أو موكلاً مأذوناً له فيها.

أقسام إجارة العين

ذكر المؤلف أن إجارة العين قسمان:

الأول: إجارةٌ إلى أمد معلوم يغلب على الظن بقاؤها فيه، الثاني: لعمل معلوم، والغالب أن الذي إلى أمد تكون في بعض الأعيان التي تستغل غلتها ومنفعتها، ويجوز أن تكون المدة طويلة، ولكن يفضل ألا تطول طولاً يختلف به السعر، فقد رأينا أناساً أجروا دكاكين لمدة عشرين سنة، أجر هذا الدكان مدة عشرين سنة، وكل سنة -مثلاً- بعشرة آلاف، ثم في هذه المدة ارتفع السعر أو انخفض، فصار جيرانه يؤجرون -مثلاً- بخمسين ألفاً، وهو بعشرة آلاف مدة عشرين سنة! فيتأسف ويقول: هذا من الغبن، كوني أجرته عشرين سنة فارتفع السعر، وكذلك أيضاً: العكس، فكثير من الناس استأجروا أماكن لمدة عشرين سنة أو ثلاثين سنة، وربما مائة سنة، ثم نزل السعر أو ارتفع، فصار الناس يؤجرونها بعشرة، وهو محسوبٌ عليه بعشرين أو بثلاثين، فيندم، فالأولى ألا تكون المدةُ طويلة، وذكروا أن أوقافاً في بعض البلاد أجرت لمائة سنة، وكل سنة بعشرين صاع من البر أو من التمر، وبعدما طالت المدة صارت مثلها تؤجر بعشرين ألفاً، وبثلاثين ألفاً، وهو لا يزال يستغلها بهذا الشيء الزهيد، وكانوا ما يؤملون ارتفاع الأسعار في كثير من المدن؛ فيكره أن تؤجر مدةً طويلةً يحتمل فيها تغير السعر بزيادة فيغبن المؤجر أو بنقص فيغبن المستأجر.

القسم الثاني: تأجير الإنسان -مثلاً- لعمل معلوم، كأن يستأجره لبناء حائط أو لحفر بئر أو لسقي نخل أو شجر، فلابد أن يكون العمل معلوماً، فتكون الخياطة -مثلاً- معلومة، نوعها كذا وكذا، أو معتاداً، ويكون البناء من كذا وكذا، من اللبن أو من البلوك أو ما أشبه ذلك، ومثل أيضاً: إجارة دابة لركوب إلى موضع معين أو لحمل إلى موضع معين، ومثلها أيضاً: السيارة، وفي هذه الحال لا تحدد المدة، والغالب أنها تخضع لعمل صاحبها الذي هو قائد السيارة أو سائق البعير، فأحياناً يستأجر السيارة من الرياض إلى القصيم ليحمل عليها متاعه أو أهله أو نحو ذلك، فيبقى في الطريق يومين، يسير بتؤدة، وأحياناً يقطعها في ثلاث ساعات.

فالحاصل أن هذا عمل معلوم، استأجرتك تحمل هذه البضاعة من الرياض إلى القصيم بمائة أو ألف سواءً وصلت في يوم أو وصلت في خمسة أيام أو في عشرة، هذا عمل معلوم، مثل: حمل لمتاع أو ركوب على دابة أو على سيارة أو ما أشبهها إلى موضع معين.

الإجارة على منفعة في الذمة

انتهينا من الضرب الأول: وهو إجارة العين، والضرب الثاني: العقد على منفعة في الذمة في شيء معين أو موصوف، منفعة في الذمة: مثل خياطة الثوب، وبناء الجدار، وحفر البئر، وحرث الأرض وزرعها، وتلقيح الأشجار، وتلقيح النخل وجدادها، وصرامها، وحصاد هذا الزرع، ولقط هذا الثمر، كل هذا منفعة في الذمة، يعني: تستأجره على أن يعمل لك هذا العمل بأجرة معينة، تقول: استأجرتك أن تحصد هذه البقعة من الزرع -سواء حصدها في يوم أو في عشرة أيام أو في ساعة- بمائة أو بألف، هذه منفعة في الذمة يبذلها لك، أو تبني هذا الجدار الذي طوله كذا وسمكه كذا وعرضه كذا، بأجرة معينة، وإذا خشيت أنه يتلاعب في ذلك فلك أن تحدد له مدة، فتقول: في ظرف خمسة أيام أو شهر أو سنة، وإذا لم تفعل ذلك فإنك متساهل، ونضرب عليك غرامة عن تأخيرك ونحو ذلك كما تفعل ذلك الشركات التي تتقبل بناء الدور أو المساجد أو المدارس أو المشاريع الكبيرة، أو تتقبل إصلاح الطرق وصيانتها وتنويرها أو ما أشبه ذلك، وكل هذه منفعةٌ معلومة في الذمة يأتي بها ذلك المستأجر، ولابد أن تكون في شيء معين، أو موصوف، مثال الشيء المعين أن تقول: الطبخ في هذا القدر أو في قدر كذا وكذا، فهذه منفعةٌ معينةٌ من هذه العين، وكذلك أيضاً: العمل، إذا استأجرت الطحان لطحن هذا الكيس، هذه منفعة في الذمة، يطحنه بكذا، والغسال يغسل ثوبك بكذا، والقصار يقصره بكذا وكذا، والدباغ يدبغ لك هذا الجلد بكذا وكذا، والحلاق يحلق رأسك بكذا وكذا، هذه تسمى عقوداً على منفعة في الذمة في شيء معين أو موصوف، الشيء المعين: منفعة في هذه السيارة وهو الحمل عليها، والموصوف: منفعةٌ في خيمة كذا وكذا غير معينة، لا يقول: الخيمة الفلانية، أو يقول: تبني هذه الدار في المكان الفلاني كذا وكذا لأسكنها، إذا كان موصوفاً.

ويشترط تقديرها بعمل أو مدة، تقديرها بعمل: كالخياط يقدر عمله بالخياطة، وكذلك يقدر للمدة، فيقال مثلاً: لمدة شهر تبني داراً أو نحو ذلك، ويشترط معرفة ذلك وضبطه، معرفة الخياطة ونوعها، معرفة البناء ومقداره وارتفاعه.. وما أشبه ذلك.

وذكر أنه يشترط معرفة المنفعة وضبطها، يعني: نوع الخياطة وجنسها وصفتها، وارتفاع الجدار ونوع المادة التي يبني بها.

كذلك يشترط كون الأجير آدمياً جائز التصرف، والأجير في العادة يكون من الآدميين، لكن قد يستعين بالبهائم ونحوها، فالحفر -مثلاً- ما يكون إلا بالآدمي الذي ينزل في البئر ويحفرها، لكن إخراج التراب قد يحتاج إلى آلة، أو يحتاج إلى دابة يعلق فيها الدلو فيخرج التراب، ولكن الأصل أن الذي تعاقد معه آدمي. وكذلك أيضاً: البناء، الأصل أنه يتولاه الآدميون، ولكن قد يستعملون الرافعة التي ترفع اللبن إلى السطح أو إلى المكان الرفيع أو الحيطان، وقد يستعملون الآلة التي تصب الصبة فوق السطوح، فهذه وإن لم تكن آدمياً ولكن الذي يستعملها آدمي.

الإجارة على القرب

وشرط أيضاً: كون عمل يختص صاحبه أن يكون من أهل القربة، فإذا كان العمل من القربة لم يجز التأجير عليه؛ وذلك لأن القرب يتقرب بها إلى الله تعالى، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) ، فلا يجوز أن يستأجر أحداً على عمل من الأعمال الصالحة، فلا يستأجره على أن يصلي، فيقول: أستأجرك على أن تصلي هذه الصلاة، ولك أجرةٌ على الصلاة، أو لك أجرة على الصيام مثلاً، أو لك أجرةٌ على الأذان، أو على الإمامة، أو على الخطابة، أو على تعلم القرآن ونحو ذلك، فمثل هذه أعمال يبتغى بها وجه الله، ومن عملها للدنيا فسد أجره، ولا يجوز أن يكون العمل الذي يبتغى به وجه الله وتعالى يراد به الدنيا.

وذكرنا أنه يصح أن يستأجر من يحج عنه أو يعتمر عنه، ولكن ذلك الأجير لا يعمل العمل لأجل الأجرة، وإنما يأخذ المال لأجل العمل، فيحج لأجل الحج لا لأجل النقود التي تبذل له، حتى لا يبطل عمله، ويكون ممن عمل عملاً دينياً لأجل مصلحة دنيوية، وهكذا بقية القربات.

يعرفون الإجارة: بأنها عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة في الذمة أو عمل مباح بعوض مباح، والعقد: لا يكون إلا بين اثنين، عاقد: وهو المالك، وكذلك: العاقد الثاني: وهو المستأجر، والمعقود عليه: وهو المنفعة.

ويعرفون الإجارة: بأنها بيع المنافع، والحاجة داعية إليها؛ وذلك لأنه ليس كل أحد يستطيع أن يحصل ما يحتاجه من الأعيان للاستعمال، فيحتاج إلى أن يستأجر، ويقال أيضاً: إن حاجته لا تدوم، بل تنقضي في يوم أو في سنة أو نحو ذلك؛ فلذلك يحتاج إلى أن يستأجر العين لينتفع بها، ويدفع أجرتها، ثم يردها إلى مالكها، والمالك يكون عنده أعيان هو مستغنٍ عن استعمالها بخاصة نفسه، فيؤجرها لمن ينتفع بها ويدفع أجرةً، وترد إلى المالك بعد استيفاء المنافع التي فيها.