أسباب عذاب القبر


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن العاقل إذا كان يعلم أنه سيقطع مسافةً شاسعةً في سفر له، وفيها مفازة ليس فيها ماء ولا غذاء فلا بد أن يصطحب الزاد معه، ومن علم أنه سيقطع هذه المسافة فترك زاده وشرابه في بيته يتمتع به وينعم به من سواه وخرج هو منه، لا يجد ما يرفع به ظمأه ولا ما يزيل به جوعه في تلك المفازة هل هو عاقل؟

القبر أول منازل الآخرة

إننا جميعاً سائرون في طريق موحش وأمامنا موقع لا بد من الحلول به، ألا وهو القبر الذي هو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله وأعظم منه كل ما بعده، أول ضجعةً فيه تنسي الإنسان كل ما مر عليه من النعيم والعذاب، فإذا عاش الإنسان في حياته منعما ًمرفهاً طيلة سنواته، ثم بعد ذلك وجد ضغطة القبر لحظةً واحدة، فإنه لا يتذكر شيئاً مما مضى في حياته فوق الأرض، وإذا عاش فوق الأرض كذلك في هوان وأذىً ومذلة، فإنه بضغطة القبر وضمته ينسى كل ما مر به في حياته، ولو عاش فوق هذه الأرض مائة سنة أو أكثر، فإنه باللحظة الأولى في القبر ينسى كل ما مر عليه من الأيام والليالي: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا[طه:104]، قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ[المؤمنون:112-116].

مقومات الإنسان في القبر

إن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة، وإما أن يكون حفرةً من حفر النار، وقد عجل الله فيه العذاب الأدنى قبل العذاب الأقصى وهو عذاب الآخرة، ولذلك قال تعالى في وعيده للمشركين: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ[السجدة:21]، فهذا العذاب الأدنى هو عذاب القبر، وفيه حياة تختلف عن الحياة فوق الأرض، ومقوماتها غير مقومات هذه الحياة، فالحياة فوق الأرض مقوماتها الهواء الذي يتنفس الإنسان به، والغذاء الذي يسد به رمقه، والشراب الذي هو رطوبة بدنه.

ومنها كذلك: صحته وسلامة جسمه، والحياة البرزخية تخلو من هذه المقومات جميعاً، فما يحتاج إليه الإنسان من الهواء ليس في القبر، لا ينال منه حظاً ولا نصيباً في القبر، وما يحتاج إليه من الغذاء وما يحتاج إليه من الماء لا يجد شيئاً من ذلك، والصحة معدومة فيه، فالبدن يبلى: (كل ابن آدم يبلى إلا عظماً واحداً منه خلق ومنه يركب وهو عجب الذنب).

تأكل عظامه الأرض فيبلى بالكلية إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب عجب الذنب هو العصص، منه خلق ومنه يركب.

وبذلك يعدم مقومات الحياة الدنيا، لكنه يحيى حياةً برزخية تخالفها.

الفرق بين روح الإنسان في الدنيا والقبر

فالحياة الدنيا يغلب فيها البدن على الروح، والحياة البرزخية تغلب فيها الروح على البدن، والحياة الأخروية يستوي فيها الأمران معاً، فالروح والبدن على حد السواء، ولذلك كانت الحياة الحقيقية، كما قال الله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].

في الحياة الدنيا روح الإنسان محجوبةً عنه، وهو مؤمن بها حتى لو كان ملحداً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يعلم أن له روحاً، وأنها تعرج وتصعد وتنزل، ويحس بها باللذة والألم، ويؤمن بها وهو لا يعرف لها وصفاً ولا يتصور لهاه تصوراً، ولم يرَ لها مثيلاً ولا جنساً، وقد جعلها الله تعالى شاهداً من شواهد وحدانيته، ودليلاً من أدلة ربانيته، فكما تؤمن بروحك التي بين جنبيك وتعلم أنها موجودة وأنت لا تعرف لها مثالاً ولا تعرف لها وصفاً ولم ترها قط، فكذلك إيمانك بالله سبحانه وتعالى وأنت تعلم أنه: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام:103]، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11].

إذا كنت تؤمن بنفسك التي بين جنبيك فمن باب أولى إيمانك بالله سبحانه وتعالى.

كشف أمور الغيب للميت بعد ضجعه ومقر أرواح المؤمنين والكافرين

كذلك فإن الحياة البرزخية في القبر يحس فيها الإنسان باللذة والألم بروحه لا ببدنه؛ لأن الروح تزايل البدن عند النزع منه، وتعود إليه في القبر عند السؤال، ولكنها تفارقه بعد ذلك، فأرواح أهل السعادة في حواصل طير خضر تتفيأ من ظلال الجنة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأرواح أهل الشقاوة محبوسة في سجين في الأرض السابعة.

وبذلك يعلم أن الحياة البرزخية تختلف عن الحياة الدنيا وتغايرها بالكلية، وهذه الحياة البرزخية بدايتها من ضجعة الإنسان الأولى في قبره، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خرج في جنازة فلما وضع الميت في قبره أشار بيده أن كفوا فنظر ساعةً ثم قال: (أي إخواني أعدوا لمثل هذه الضجعة)، فتلك الضجعة يبدو فيها للإنسان من الله ما لم يكن يحتسب، وتزول عنه الغشاوة فيرى كثيراً مما كان محجوباً عنه، فنحن الآن نمر على القبور فلا نرى شيئاً مما بداخلها، ولا نتصوره، ونرى الموت فنظن أن الأمر هين، وأنه مجرد مزايلة الروح للبدن، ولكن هيهات هيهات فذلك بداية عهد جديد، وانتقال عظيم جداً من حال إلى حال ومن دار إلى دار، ولذلك سمى الله الموت مصيبة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ[المائدة:106]، فالموت مصيبة لكل أحد، فإن كان محسناً فتقطعه عن إحسانه والزيادة فيه، وإن كان مسيئاً فتعجله إلى جزاء عمله السيء.

فلذلك الموت مصيبة لكل أحد على كل حال، ومن هنا فأول ما يلقى الإنسان في قبره بعد هذه الضجعة أن يكشف عنه الغطاء، فيرى ما كان مخفياً عنه، كما قال تعالى: وَبَدَا لَهمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47]، وقد قال تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22]، يكشف الغطاء عن الإنسان فيبدوا له ما وراء هذا البرزخ العظيم، وما وراء هذا الحائل الكبير يراه رأي العين وهو منه قريب.

ضمة القبر وشدتها

ثم بعد ذلك ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، وهي تهيئة لسؤال الملكين؛ لأن الإنسان العادي لا يتحمل كلام الملائكة، ولا يستطيع محاورتهم ولا جوابهم، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان أقوى الناس لم يستطع سماع ومحاورة جبريل إلا بعد ثلاث ضغطات، قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ[العلق:1-3]).

سؤال منكر ونكير وصفاتهما

فكذلك ضمة القبر هي استعداد لسؤال الملكين، وسيأتيان في صورة مروعة، وهما منكر ونكير، صوتهما كالرعد القاصف ونظرهما كالبرق الخاطف، يجلسانه فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، ديني الإسلام، الرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبيات والهدى فأمنا به واتبعناه، فيقولان له: صدقت وبررت قد علمنا إن كنت لموقناً، نم نومة عروس ويملئان عليه قبره خضراً ونوراً.

وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمعا عليها أهل منىً ما أقلوها، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الإنس والجن.

عرض الأعمال في القبر على هيئة صورة

ثم بعد ذلك يأتي مشهد آخر وهو عرض العمل على الإنسان في قبره، فإن كان محسناً جاءه عمله في أحسن صورة وأطيب رائحة، فيقول: أبشر بخير، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح وأنا أنيسك في غربتك، وإن كان مسيئاً، جاءه في أقبح صورة وأنتن رائحة فيقول: أبشر بسوء، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بسوء فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك السيء وأنا صاحبك في غربتك.

صور النعيم والعذاب في القبر

ثم بعد ذلك نعيم القبر أو عذابه، فنعيمه يعرض على الإنسان فيه مقعده من الجنة ويصل إليه من روح الجنة وريحانها، ويملأ عليه قبره بالخضر والنور ويفسح له فيه ويمد إلى مد البصر، حتى لو أكلت عظامه التراب فنعيمه روحي في قبره، وتكون روحه في حواصل تلك الطير الخضر تتفيأ من ظلال الجنة وتأكل من ثمارها، وهو ينتظر البعث ويعلم مصيره إذ ذاك وسينساه عندما ينشق عنه القبر، فكل مرحلة تنسي ما قبلها، كما أن القبر ينسيه أمور الدنيا، فكذلك انشقاق القبر ينسي الإنسان أيضاً ما بشر به في قبره، فينسى ذلك بالكلية، ثم إذا تجاوز أي مرحلة فكل مرحلة تنسي التي قبلها، إذا أخذ كتابه بيمينه فإنه سينسى ذلك الفرح الذي حصل له بمجرد رؤية الصراط منصوباً على متن جهنم.

وكذلك بوقوفه على الصراط وتجاوزه ينسى ما مر به من قبل، من الأزمات والمشكلات جميعاً، فإذا كان الإنسان مؤمناً بأنه لا محالة صائر إلى القبر، والقبر هنا مستقر الإنسان بعد موته مطلقاً، سواء كان أرضاً يدفن فيها أو أجواف سباع أو غير ذلك، فمستقره هو قبره أياً كان هذا القبر، وهذا القبر كتب للإنسان فهو محدد سلفاً لا يمكن أن يتغير مكان الإنسان وتربته، فهي مكتوبة معه وهو جنين في بطن أمه، قد حدد له تربته ومكان موته، ووقت موته وأجله وعمله وشقي أو سعيد، كل ذلك قد كتب من قبل، فرفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن من ذلك.

فإذا كان مؤمناً بذلك وهو يعلم أنه صائر إليه لا محاله، فليعلم البون الشاسع بين حال المنعمين والمعذبين في القبر، فنعيم القبر صاحبه في لذة دائمة، وقد بشر بهذه البشارة وانقطع عنه الأذى وانقطعت عنه المسائلة، وبشر بعمله الطيب وأنيسه في غربته، وإن كان من أهل نوع من العبادة راح عليه ذلك النوع وأمسى، وإن كان مرابطاً في سبيل الله لم يختم على عمله، بل يبقى عمله مستمراً، الوقت الذي كان يقوم فيه يكتب أنه قام، والوقت الذي كان يصلي فيه يكتب أنه صلى، واليوم الذي كان يصوم فيه يكتب أنه صام.

حال المرابط في سبيل الله عند الموت

فكل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله وحده، فعمله لا يختم عليه يبقى مع الزمن كأنه فعله لا ينقطع منه شيء، ويأمن الفتان كذلك، فالمرابط في سبيل الله يأمن الفتان لا يفتن بفتنة الموت، لا يأتيه الفتان عند الموت فلا يقول له: مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية، وغيره من الناس عند الموت يتعرض لهم الفتان، فيقول: مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية، اعتقد كذا قل كذا، فيفتنه ويلقنه تلك الفتنة، والمرابط في سبيل الله لا يجرؤ عليه الفتان فلا يفتنه.

كذلك إن كان معذباً في قبره-نسأل الله السلامة والعافية-فعذاب القبر فيه من الأذى والهوان الشيء الكثير، فصاحبه لا يجد راحةً ولا قرارا، فالموت الذي ننتظره إما أن يكون راحةً وإما أن يكون شغلاً، فهو راحة لأهل السعادة، ويرتاحون به من عناء الدنيا وما كانوا يخشونه من الأمراض والأعراض والمشكلات يخرجون من كل ذلك، وهو عناء وتبعة لأهل الشقاء، فهم مشغولون فيه قد بدأوا شغلاً جديداً، كانوا في الحياة الدنيا ينامون ويستيقظون ويصيحون ويمرضون، وهم في القبر في عناء مستمر لا انقطاع له: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ[غافر:46]، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا[غافر:46]، أي: أن من عذاب القبر أن يعرض المشركون على النار غدواً وعشياً، فيرون هولها فيرتاعون لها، وهم يرونها رأي العين، ويسمعون حسيسها ويصل إليهم من نتنها وشدة بردها وشدة حرها ما يتأذون به غاية الأذى.

أنواع عذاب القبر

ثم بعد ذلك ما في القبر من الحيات والتنانين، فمانع الزكاة في قبره شجاع أقرع له لهزمتان يعضه في خديه وأنفه ولسانه وشفتيه حتى يبعث.

كذلك فإن من أوجه عذاب القبر: العطش الشديد الذي يظمأ به الإنسان، فهو يستسقي في كل أوقاته ولا يسقى، يمنع الشراب، ومن عذاب القبر كذلك: السلاسل التي يسلسل بها الإنسان من نار جهنم-نسأل الله السلامة والعافية-تستجلب له السلاسل من النار فيسلسل بها في قبره.

ومن عذاب القبر كذلك: نتنه نسأل الله السلامة والعافية، نتن القبر أن يملأ على الإنسان من النتن والرائحة الكريهة، ومن عذاب القبر ضيقه أن يضيق على الإنسان فيه ضيقاً شديداً، فهذه من أوجه العذاب التي يجدها الإنسان في قبره.

وإذا كان الإنسان يعلم البون الشاسع بين هذا النعيم وذلك العذاب، فعليه أن يسعى للنجاة من عذاب القبر، والنجاة من أي أمر إنما تكون بمعرفته قبل الإقدام عليه؛ لأن المجهول لا يمكن أن يهرب منه في أي وجه من الوجوه، ولذلك قال لبيد بن ربيعة العامري :

وغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها

فهذه الظبية سمعت صوت القناص فلم تدرِ هل هو من أمامها أو من خلفها، فلم تستطع الهرب، الخوف من أمامها ومن خلفها فهي مترددة، كذلك الإنسان الذي لا يعرف ما يخافه يبقى متردداً؛ لأنه لا مهرب له، أما إذا كان يعرف وجه الخوف فإنه سيحاول النجاة بنفسه من ذلك الذي يخافه، فعلينا أن نستوعب أسباب عذاب القبر، وأسباب النجاة من عذاب القبر، وأسباب نعيم القبر.

إننا جميعاً سائرون في طريق موحش وأمامنا موقع لا بد من الحلول به، ألا وهو القبر الذي هو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله وأعظم منه كل ما بعده، أول ضجعةً فيه تنسي الإنسان كل ما مر عليه من النعيم والعذاب، فإذا عاش الإنسان في حياته منعما ًمرفهاً طيلة سنواته، ثم بعد ذلك وجد ضغطة القبر لحظةً واحدة، فإنه لا يتذكر شيئاً مما مضى في حياته فوق الأرض، وإذا عاش فوق الأرض كذلك في هوان وأذىً ومذلة، فإنه بضغطة القبر وضمته ينسى كل ما مر به في حياته، ولو عاش فوق هذه الأرض مائة سنة أو أكثر، فإنه باللحظة الأولى في القبر ينسى كل ما مر عليه من الأيام والليالي: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا[طه:104]، قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ[المؤمنون:112-116].

إن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة، وإما أن يكون حفرةً من حفر النار، وقد عجل الله فيه العذاب الأدنى قبل العذاب الأقصى وهو عذاب الآخرة، ولذلك قال تعالى في وعيده للمشركين: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ[السجدة:21]، فهذا العذاب الأدنى هو عذاب القبر، وفيه حياة تختلف عن الحياة فوق الأرض، ومقوماتها غير مقومات هذه الحياة، فالحياة فوق الأرض مقوماتها الهواء الذي يتنفس الإنسان به، والغذاء الذي يسد به رمقه، والشراب الذي هو رطوبة بدنه.

ومنها كذلك: صحته وسلامة جسمه، والحياة البرزخية تخلو من هذه المقومات جميعاً، فما يحتاج إليه الإنسان من الهواء ليس في القبر، لا ينال منه حظاً ولا نصيباً في القبر، وما يحتاج إليه من الغذاء وما يحتاج إليه من الماء لا يجد شيئاً من ذلك، والصحة معدومة فيه، فالبدن يبلى: (كل ابن آدم يبلى إلا عظماً واحداً منه خلق ومنه يركب وهو عجب الذنب).

تأكل عظامه الأرض فيبلى بالكلية إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب عجب الذنب هو العصص، منه خلق ومنه يركب.

وبذلك يعدم مقومات الحياة الدنيا، لكنه يحيى حياةً برزخية تخالفها.

فالحياة الدنيا يغلب فيها البدن على الروح، والحياة البرزخية تغلب فيها الروح على البدن، والحياة الأخروية يستوي فيها الأمران معاً، فالروح والبدن على حد السواء، ولذلك كانت الحياة الحقيقية، كما قال الله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].

في الحياة الدنيا روح الإنسان محجوبةً عنه، وهو مؤمن بها حتى لو كان ملحداً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يعلم أن له روحاً، وأنها تعرج وتصعد وتنزل، ويحس بها باللذة والألم، ويؤمن بها وهو لا يعرف لها وصفاً ولا يتصور لهاه تصوراً، ولم يرَ لها مثيلاً ولا جنساً، وقد جعلها الله تعالى شاهداً من شواهد وحدانيته، ودليلاً من أدلة ربانيته، فكما تؤمن بروحك التي بين جنبيك وتعلم أنها موجودة وأنت لا تعرف لها مثالاً ولا تعرف لها وصفاً ولم ترها قط، فكذلك إيمانك بالله سبحانه وتعالى وأنت تعلم أنه: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام:103]، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11].

إذا كنت تؤمن بنفسك التي بين جنبيك فمن باب أولى إيمانك بالله سبحانه وتعالى.