خطب ومحاضرات
شرح أخصر المختصرات [77]
الحلقة مفرغة
قال رحمه الله تعالى: [فصل: ويجب بعمدٍ القود أو الدّية, فيخيّر وليٌّ, والعفو مجّانًا أفضل.
ومتى اختار الدّية أو عفا مطلقًا أو هلك جان تعيّنت الدّية، ومن وكل ثم عفا ولم يعلم وكيل حتى اقتص فلا شيء عليهما، وإن وجب لقن قود أو تعزير قذف فطلبه وإسقاطه له، وإن مات فلسيده، والقود فيما دون النفس كالقود فيها، وهو نوعان: أحدهما في الطّرف, فيؤخذ كلٌّ من عين وأنف وأذن وسنّ ونحوهما بمثله بشرط مماثلة, وأمن من حيف، واستواء في صحّة وكمال.
الثّاني: في الجروح, بشرط انتهائها إلى عظم كموضحة وجرح عضد وساق ونحوهما.
وتضمن سراية جناية لا قود, ولا يقتصّ عن طرف وجرح, ولا يطلب لهما ديةٌ قبل البرء.
فصل: ودية العمد على الجاني, وغيرها على عاقلته، ومن قيّد حرًّا مكلّفًا أو غلّه أو غصب صغيرًا فتلف بحيّة أو صاعقة فالدّية, لا إن مات بمرض أو فجأةً.
وإن أدّب امرأته بنشوز، أو معلّمٌ صبيّه, أو سلطانٌ رعيّته بلا إسراف فلا ضمان بتلف من ذلك، وإن أمر مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمن، ولو ماتت حامل أو حملها من ريح طعام ونحوه ضمن ربه إن علم ذلك عادة.
فصل: ودية الحر المسلم مائة بعير، أو ألف مثقال ذهباً، أو اثنا عشر ألف درهم فضة، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، فيخير من عليه دية بينها، ويجب في عمد وشبهه من إبل ربع بنت مخاض وربع بنت لبون وربع حقه وربع جذعة، وفي خطأ أخماساً، ثمانون من المذكورة وعشرون ابن المخاض، ومن بقر نصف مسنات ونصف أتبعة، ومن غنم نصف ثنايا ونصف أجذعة، وتعتبر السلامة لا القيمة، ودية أنثى نصف دية رجل من أهل ديتها، وجراحها تساوي جراحه فيما دون ثلث ديته، ودية كتابي حر نصف دية مسلم، ومجوسي ووثني ثمانمائة درهم، ودية رقيق قيمته، وجرحه إن كان مقدراً من الحر فهو مقدر منه منسوباً إلى قيمته، وإلا فما نقصه بعد برء، ودية جنين حرّ غرّةٌ موروثةٌ عنه قيمتها عشر دية أمّه , وقنّ عشر عشر قيمتها، وتقدر حرة أمة، وإن جنى رقيق خطأ أو عمداً واختير المال، أو أتلف مالاً بغير إذن سيده خير بين فدائه بأرش جناية، أو تسليمه لوليها].
تكلم المؤلف أولاً على ما يجب بقتل العمد، ثم بعد ذلك على من تجب عليه الدية، ثم بعد ذلك على مقادير الدية.
يقول: [ويجب بعمدٍ القود أو الدية، فيخير ولي].
قد ذكرنا قصة الهذلي الذي قتل بمكة في سنة ثمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل وإما أن يدى) إما أن يقتل القاتل وإما أن يطلب الدية.
تعريف الدية والقود
وأما القود فهو القصاص، ولماذا سمي قوداً؟
لأن القاتل يقاد إلى المقتل بنسعة، أي بحبل. وفي الحديث أن اليهود قتلوا عبد الله بن سهل الأنصاري ، قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (تحلفون على رجل منهم فيقاد بنسعته) يعني: بحبله الذي يربط في عنقه، ويقاد إلى المقتل. فيخيّر الولي فيقال: لك الخيار: إما أن تقتل هذا القاتل، وإما أن تطلب الدية. وإذا اختار الصلح على أكثر من الدية فله ذلك، فإذا قال ولي القتيل: أنا أطلب كذا وكذا. أكثر من الدية فله ذلك، ولو عشر ديات، فبعضهم يطلب ثلاثة ملايين ريال سعودي أو أربعة أو خمسة، فيدفعها أهل القاتل كأنهم يشترون القاتل؛ حيث إن الولي يقول: أنا سوف أقتله إلا إن دفعتم هذا المبلغ، ولا أعفو عنه إلا بهذا المبلغ. ففي هذه الحالة إذا فدوه فإن ذلك جائز، كأنه يشتري نفسه، أو أن أولياءه يشترونه ويخلصونه من القتل، فيخير الولي ويقال: لك أن تقتل، ولك أن تطلب الدية. وقد تقدم أنه إذا كان في أولياء القتيل صغير فإنه ينتظر إلى أن يبلغ، فإذا بلغ فإن طلب الدية فليس للأولياء إلا الدية، ولو كان أكثرهم يريدون القصاص، وأما إذا اتفقوا كلهم على طلب القود فلهم ذلك، وهكذا أيضاً إذا طلبوا أكثر من الدية.
العفو عن القصاص والدية أفضل من أخذها
قال الله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، والعفو مجاناً أن يقول: لا أريد دية ولا أريد قصاصاً، وأترك ذلك لله تعالى وأتصدق على هذا القاتل، وأحرره وأعتقه من القتل. فَيَمُنَّ عليه، فيكون في ذلك قد أحسن إليه حيث خلصه أو منّ عليه.
تعين الدية
العفو مطلقاً إذا قال: قد عفوت ولم يقل: عن كذا وكذا، فينصرف العفو إلى أكبر المطالب وهو القصاص، وإذا قال: عفوت عن القصاص لا تسقط الدية؛ لأن عفوه يكون عن القصاص الذي هو المطلب الأكبر، وعليه يدل القرآن في قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178] يعني: عفي لذلك القاتل من أخيه الذي هو ولي المقتول فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]، ومعنى ذلك أن الولي أو الأولياء إذا قالوا: قد عفونا سقط القصاص وبقيت الدية، فهذا المعفو عنه عليه أن يحرص على الأداء، فيؤدي الدية بالمعروف، يقول تعالى في هذه الآية: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]، والاتباع من الأولياء، والأداء من القاتل أو من أولياء القاتل، والمعنى: إذا عفا أولياء القتيل عن القصاص فإن عليهم أن يتبعوا ذلك القاتل بالمعروف، فلا يشددون عليه، ولا يزيدون عليه زيادة تجحف بماله أو تعجزه وتعجز أسرته، وإذا قسّطوا الدية فلا يطلبوها قبل حلولها، وما أشبه ذلك.
قال تعالى: وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] يعني: أيها القاتل أو أسرته! أدوا إلى ولي القتيل الدية بإحسان بدون مماطلة. فالآية في العفو عن القصاص وبقاء الدية، فهذا معنى إذا عفا مطلقاً، فإذا قال: أريد الدية، أو قال: عفوت انصرف العفو إلى القصاص وبقيت الدية.
قوله: [أو هلك جان] أي: إن هلك القاتل تعينت الدية.
التوكيل في القصاص
صورة ذلك إذا قال: وكلتك -يا زيد- أن تقتل هذا القاتل الذي قتل ابني أو قتل أخي. فالوكيل طلب من القاضي تمكينه، فمكنه القاضي وقتل، وكان القتل يوم الجمعة مثلاً، والولي ذهب إلى جهة أخرى وأشهدهم وقال: إني قد عفوت. وكان العفو يوم الخميس، ولم يعلم الوكيل بذلك العفو حتى استقاد وقتل القاتل، ففي هذه الحال هل يطالب الوكيل ويقال: إنك تسرعت؟
لا يطالب بذلك؛ لأن معه وكالة شرعية، ويقول: إنه قد وكلني، وإني نفذت الأمر بموجب الوكالة، فكيف أكون متسرعاً؟ لأنه ما منعني ولم يحدد لي وقتاً، ولو قال: لا تقتله إلا في يوم الأحد لتأنيت، ولكنه أطلق وقال: اقتله. فأنا ذهبت إلى القاضي ومكنني من قتله يوم الجمعة، فنفذت فيه الحكم الذي حكم به القاضي، وهو أن عليه القصاص. فلا شيء على الوكيل.
وكذلك الولي الذي هو الموكل لا شيء عليه، وذلك لأنه عفا ويظن أن العفو سيدرك القاتل فلم يدركه.
القود للعبد المملوك
القن هو العبد المملوك، والمعنى: لو أن هذا العبد اعتدى عليه إنسان فقطع إصبعه، فهل لسيده أن يسقط القصاص؟ العبد يغضب ويقول: هذا الذي قطع إصبعي، أو فقأ عيني، أو قلع سني، أو جرحني موضحة ولا تطيب نفسي حتى آخذ منه بالثأر. فقال سيده: أنت مملوكي، وأنت عبدي، وأنا أملك الإسقاط، فأريد أن أسقط عنه؛ لأنه صديق لي أو نحو ذلك. والعبد يأبى ويمتنع ويقول: أنا الذي تألمت، وأنا الذي أحسست بفقد هذا العضو ولو كان أنملة، فلا تطيب نفسي إلا أن آخذ بالثأر وأقتص لنفسي.
وكذلك لو كان القتيل ابناً لهذا العبد، كرجل عنده عبد مملوك، والعبد له ابن مملوك أيضاً، فعند ذلك الرجل رجل وابنه كلاهما مملوكان، فاعتدى إنسان على الولد وقتله، ففي هذه الحال عرفنا أنه ليس فيه القصاص، وإنما فيه الدية أو القيمة، فإن كان هذا العبد له ابن حر ليس بمملوك وقتله إنسان، وليس له ولي إلا هذا العبد، فالعبد يقول: ابني حر ليس بمملوك، فاعتدي عليه، وفجعوني بابني وقتلوا ابني وتركوني وحيداً، كيف أهدأ؟! كيف أستقر؟! لا أستقر حتى أقتل ذلك القاتل الذي اعتدى على ابني، فهل لسيده أن يمنعه؟
الابن ليس مملوكاً للسيد، ولكنه ولد لذلك العبد، فليس عليه رق، ففي هذه الحال الطلب يكون للعبد، فله أن يطالب بالقصاص بأن يقتل ذلك القاتل أو يقطع منه العضو الذي قطع، فلو كان ما قتله ولكنه قطع يده أو جدع أنفه أو قطع أذنه أو قلع أسنانه فإن عليه الدية أو القصاص، فأبوه يقول: أريد أن أقتص منه، فأقلع أسنانه كما قلع أسنان ابني، حتى ولو كنت أنا عبداً، فلي أن أقطع يده أو أقطع أذنه أو أفقأ عينه؛ فله ذلك.
قذف المملوك
القود فيما دون النفس
القود هو القصاص، فإذا عرفنا الشروط التي في استيفاء القصاص في النفس فتلك الشروط هاهنا معتبرة، فمنها أن يكون المستحق مكلفاً، فإذا قطع أحد يد صبي أو إصبعه، والصبي عمره خمس سنين أو عشر سنين، ففي هذه الحال إذا طلب القصاص بعد ما يكلف تقطع يد الجاني؛ لأنه تعدى على ذلك المجني عليه ولو كان صغيراً، ولكن متى؟ إذا بلغ وأصر على طلب القصاص.
وكذلك يشترط ما اشترط هناك من عدم الحيف وعدم التعدي، فلابد إذا كان القصاص في اليد ألا يقتص مع خوف الحيف، أو خوف التسمم، بل يتركونها إلى زمن معتدل يؤمن فيه أن يتسمم الجرح أو ما أشبه ذلك.
القود في الأطراف
أحدهما الأطراف، والثاني: الجراح. فالأطراف فيها القصاص، قال الله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ [المائدة:45]، فهذه فيها قصاص، وتسمى الأطراف، فمن قطع إصبعاً وكان القاطع فيه إصبع تماثلها وطلب المقطوع القصاص فإنه يقتص له، وكذلك من قطع الكف، وكذلك من قطع اليد من الذارع أو من العضد، وكذلك من قطع من الرجل إصبعاً قطعت إصبعه، ومن قطع القدم كلها قطعت قدمه إذا طلب المجني عليه ذلك، وكذلك من قطعها من الركبة قطعت رجله من الركبة إذا طلب الجاني ذلك، أو قطعها من الفخذ فكذلك أيضاً، وهكذا إذا فقأ عيناً صحيحة فقئت عينه التي تماثلها، أما إذا لم تكن مماثلة لها فلا، وكذلك لو جدع أنفه فله أن يطلب القصاص في الأنف، وكذلك الأذن إذا استوعبت قطعاً، وكذلك إذا كسر السن أو قلعه فإن القصاص فيه؛ وأشباه ذلك من أجزاء البدن، فمن قطع شفة قطعت مماثلتها، وكذلك من قطع جفناً أو قطع حاجباً قطع منه ما يماثله، وهكذا أيضاً من قطع عضواً مماثلاً، كمن قطع ذكراً، أو قطع الأنثيين -الخصيتين-، أو قطع الإلية أو نحو ذلك، فكل هذه فيها القصاص.
وتشترط المماثلة، فلا يؤخذ إصبع اليمنى بإصبع اليسرى لو كان المجني عليه قطعت إصبعه اليسرى، وكذلك أيضاً لا يؤخذ الإبهام بالسبابة، فلا يقول: هو قطع سبابتي وأنا لا أرضى إلا أن أقطع إبهامه. فهذا ليس بمماثلة، وليس قصاصاً، فالقصاص لابد فيه من المماثلة، فهذا شرط المماثلة.
ولو كان الجاني أعور العين، كأن كانت عينه اليمنى غائرة، ثم جنى على إنسان ففقأ عينه اليمنى، فهل على المجني عليه أن يقول: آخذ عينه اليسرى؟ ليس له ذلك لعدم المماثلة، وهاهنا يرجع إلى الدية، وكذلك لو كان الجاني مقطوع اليد اليمنى، قد قطعت يده اليمنى من قديم، واعتدى عليك وقطع يدك اليمنى، فهل تقول: أقطع يده اليسرى؟ فليس له إلا يد واحدة، فلا تقل آخذ اليد باليد. ليس لك ذلك، ولكن هاهنا تعدل إلى الدية لعدم المماثلة، فلابد من المماثلة، وكذلك لو قطع شفته العليا فقال: أقطع شفته السفلى لأنها أقوى منفعة. ليس له ذلك، وهكذا لو قطع رجله اليسرى فقال: أقطع رجله اليمنى. ليس له ذلك، بل لابد من المماثلة.
وكذلك أيضاً الأمن من الحيف، والحيف هو الجور، فإذا قطع اليد من نصف الذراع ففي هذه الحال لا يمكن القصاص، ولكن يمكن قطعها من المفصل، لأنا إذا مكناه من قطع نصف الذراع فقد يكسر الذارع كله، وقد يأخذ زيادة على ما أخذ منه، فيكون بذلك حيف، فلابد من أمن الحيف -الذي هو الجور- حتى لا يأخذ زائداً عما يستحقه.
ومن الحيف أيضاً الخوف من التسمم، فإذا قال -مثلاً-: إذا قطعت يد الجاني -مثلاً- أو رجله في الشتاء خيف أن يتسمم، وأن الجرح يتآكل وتحصل الوفاة. ففي هذه الحال ينتظر إلى أن يؤمن عليه من الحيف أو من التعدي أو نحو ذلك.
وهناك شروط أخرى، مثل الاستواء في الصحة والكمال، فإذا قال: أنا ما فقأت إلا عيناً فيها بياض، وعيني سليمة ليس فيها بياض. أو: عينه التي فقئت ناقصة البصر لا يبصر بها إلى قليلاً، فكيف تفقئون عيني التي هي عين سليمة؟ في هذه الحال يعدل إلى الدية، وذلك لعدم المساواة، وكذلك أيضاً لو أن إنساناً صحيح اليدين قطع يد إنسان مشلولة، أو فيها عيب، ناقصة الأصابع أو مختلة أو نحو ذلك، فهذا المجني عليه يقول: أريد أن أقطع يده. يقال: يدك ناقصة منفعتها، وأما يده فإنها كاملة، فكيف تأخذ يداً كاملة ليد ناقصة فيها عيب؟! لابد من الاستواء في الصحة وفي الكمال.
القود في الجراح
والموضحة هي التي تنتهي إلى عظم، ضربة في الرأس تصل إلى العظم ولا تكسره، ولكن تقرع في العظم، وديتها خمس من الإبل، فلو قال المجني عليه: أنا ما أريد إبلاً ولا غنماً ولا مالاً، ولكن أريد أن أشفي غيظي، أريد أن أجرحه كما جرحني يمكّن، ولكن كيف يقتص؟ هل يقتص بالضرب. ويقول: إنه ضربني بحجر خرق الدم واللحم ووصل إلى العظم فأضربه بحجر مثله؟ لا يمكن من ذلك، ولكن يمكن من القصاص بسكين أو نحوها يحزه إلى أن يصل إلى العظم، فيحرك طرف السكين إلى أن يصل إلى العظم ويتوقف؛ لقول الله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45].
وكذلك جرح العظم والساق، فلو طعنه في عضده، أو ضربه بحجر محدد أو سكين، فوصلت الضربة إلى عظم العضد أو عظم الساق أو عظم الظهر وقرعت في العظم فقال المجني عليه: لا أقنع إلا بالقصاص يمكّن، فيعطى سكيناً ويقال: اضرب وحز في العضد إلى أن تصل إلى العظم ولا تزد. ولو قال: إنه ضربني بحجر فأضربه بحجر لا يمكّن؛ لأنه قد يكسر العضد، فقد يضربه ضربة شديدة فيأخذ أكثر مما يستحق.
ضمان السراية في القصاص
السراية جناية تضمن، والجناية ظلم، فسرايتها تضمن، وأما القود فإنه بحق فلا تضمن سرايته، فمثلاً لو أن إنساناً قطع يد رجل، فالذي قطعت يده قال: هذا جنى علي وقطع يدي، أريد القود. فمكن من القود فقطعت يد الجاني، ثم قدر أن الجاني تسمم جرحه ومات بسبب هذا القصاص هل تدفع ديته؟
لا تدفع؛ لأن قطع يده بحق قصاصاً، ولو كان الأمر بالعكس فالمجني عليه تسممت يده ثم مات، والمجني عليه حر مسلم، ومات بسبب هذه الجناية فعلى الجاني الدية، ولو قال الجاني: كيف أدفع ديته وهو قد قطع يدي قصاصاً وقد أخذ بالثأر وأخذ حقه كاملاً؟
فالجواب: إنه مات بسبب جنايتك، فأنت السبب، فعليك تتمة الدية، وليس هناك قصاص في النفس، ولكن عليه تتمة الدية، فعليه نصف الدية لأنه قد قطع يده، وديته فيها نصف الدية، فعليه نصف الدية الأخرى أو على عاقلته. وعرفنا الفرق بين الجناية والقود، والسراية: هي تآكل الجرح إلى أن يحصل أكثر مما حصل، فلو أن الجاني قطع إصبعاً كالخنصر أو الإبهام، والمجني عليه قال: أقطع إصبعه مثلما قطع إصبعي. فاقتص منه، وبعد ذلك جرح الجناية تسمم، ولما تسمم تآكلت اليد فقطعت اليد كلها بسبب تآكلها، فيقول الجاني: أنتم أخذتم حقكم، أنتم قطعتم إصبعي مثل ما قطعت إصبعه! فيقال: بقي أيضاً عليك آثار هذه السراية، فجنايتك تآكلت، فعليك بقية ثمن اليد، فادفع بقية ثمن اليد.
ولو قال المجني عليه: إن يدي تآكلت وقطعت بسبب جنايته، وأنا ما قطعت منه إلا إصبعاً، فأريد أن أقطع اليد كلها كما أن يدي قطعت فليس له إلا الدية على المشهور، وذلك لأن قطع يده بالتآكل قطع لحماية نفسه، وليس الجاني هو الذي قطعها، أما لو كان الأمر بالعكس، فالمجني عليه قطعت إصبعه وسلمت يده، والجاني قطعت إصبعه قصاصاً، ولما قطعت تآكل الجرح فمات. ففي الأثر: (الحق قَتَلَه)، ما مات إلا بسبب مباح، فالله تعالى مكن أهل القتيل وأباح لهم أن يقتلوا أو يقتصوا، وهاهنا قد اقتصوا الذي لهم، وكون هذه القود حصل منه الموت ليس بسبب المجني عليه، وإنما هو بسبب القصاص، فالحق قتله، سواءٌ أكان هذا في النفس أم فيما دون النفس، فهذا هو الفرق.
وجوب انتظار البرء قبل القصاص أو الدية في الجراح
أي: قبل تمام البرء. روي أن رجلاً طعن رجلاً في ركبته بقرن تيس أو نحوه، ولما طعنه في ركبته وصل إلى عظم الركبة أو تحتها، فجاء ذلك المجني عليه وقال: يا رسول الله! أقدني -أي: مكني أن أقتاد منه فأطعنه بقرن كما طعنني- فقال: (اصبر حتى تبرأ، فصبر أياماً ثم جاء وقال: أقدني. فردد عليه وهو يأكل: اصبر حتى تبرأ، ولكنه استعجل، فمكنه وضرب ذلك بالقرن في ركبته إلى أن وصل إلى العظم)، فالجاني برئ جرحه بسهولة، والمجني عليه تسمم فعابت رجله وعرج وصار فيه عرج، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: عرجت يا رسول الله. فقال: (قد نصحتك) يعني: نهيتك عن الاقتياد حتى تبرأ ولكن امتنعت. فأخذوا أنه لا يقتص إلا بعد البرء مخافة التسمم، أو مخافة التآكل، أو مخافة حدوث عيب أو ما أشبه ذلك.
فلو كان الجرح -مثلاً- في سن قلعه الجاني، والسن مكانه قد يتأثر، فالمجني عليه قال: أريد قلع سنه كما قلع سني نقول له: انتظر حتى يبرأ أثر قلع السن. ولكنه ما صبر وقال: أريد أن أقلع سنه، فمكنه الشرع وقلع سن الجاني، ثم إن المجني عليه تآكل مكان سنه فاحتيج إلى قلع الأسنان السفلى كلها، فإنا نقول للمجني عليه: أنت استعجلت، فلو تركت الأمر حتى تبرأ ويعلم ما تتأثر به أسنانك لكان أولى لك. ففي هذه الحال هو الذي استعجل ولا شيء له، فلذلك قالوا: لا يطلب لهما دية إلا بعد البرء.
وقوله: [لهما] الضمير يرجع على الطرف والجرح، فالطرف مثل اليد والعين، والجرح مثل الموضحة التي هي الجرح في العضد والساق، أو الموضحة في الرأس أو في الوجه، فلا يطلب لهما دية قبل البرء، ولا يقتص لهما قبل البرء مخافة أن يتأثر ذلك الجرح ويحصل الضرر عليه.
من يتحمل الدية؟
عرفنا أن القتل ثلاثة أنواع: عمد وشبه عمد وخطأ، فدية العمد على الجاني يتحملها، وأما الخطأ وشبه العمد فعلى العاقلة، وهم قرابة ذلك القاتل، فتحمل الدية عنه، وذلك لأنه غير متعمد وليس بآثم، وإنما حصل هذا عن غير قصد، فمن حقه على أقاربه تحمل هذه الدية، فغير العمد على عاقلته، وذكر المؤلف بعد ذلك صوراً لوجوب الدية.
التسبب في القتل
الجواب: أنت الذي تسببت حيث قيدته فلم يقدر على أن يهرب من السبع، ولا أن يتخلص من الحية، ولا أن يهرب من مكان الصاعقة، فعليك ديته؛ لأنك ربطته بهذا الرباط الذي قيده حتى لم يستطع التخلص، فالدية على هذا المقيِّد.
والمكلف هو البالغ العاقل، قال: [حراً مكلفاً]، وإذا كان مملوكاً فعليه قيمته لسيده.
قال: [أو غله] الغلُّ هو أن تربط الأيدي في الرقبة، قال تعالى: إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ [غافر:71]، وقال: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة:64] يعني: ربطت في أعناقهم. فإذا ربط يديه وعلقهما في رقبته سواء من الخلف أو من الأمام فقد تحسر، فلا يستطيع أن يحرك يديه، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه حية أو نحوها.
وكذلك إذا غصب صغيراً في الخامسة أو السادسة من عمره، أي: أخذه من أهله وأخفاه، ففي هذه الحال أيضاً يكون عليه الدية إذا لدغته حية أو أكله سبع أو مات بالبرد أو بالشمس أو نحو ذلك، فإن هذا الغاصب الذي اعتدى عليه يدفع الدية، أما إذا مات بمرض أو مات فجأة ففي هذه الحال يقال: لا دية عليه؛ لأنه مات بالمرض، ويقول: كان قبل أن أوثقه مريضاً بمرض كذا وكذا، وموته بسبب مرضه ليس بسببي.
وكذلك موت فجأة، لكن قد يقال: إن موته فجأة بسبب الحسرة، بمعنى أنك لما أوثقته وتحسر اشتدت عليه هذه الآلام وهذه الأمراض النفسية، فأدت إلى موته موت حسرة أو موت فجأة، فأنت السبب، فعليه دية.
تأديب الزوجة أو الأطفال لا ضمان فيه إن كان بلا إسراف
المرأة إذا نشزت جاز لزوجها ضربها؛ لقوله تعالى: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34].
فأولاً: يعظها، وثانياً: يهجرها في المضاجع، وثالثاً: يضربها ضرباً غير مبرح، فلو قدر أنه ضربها وذلك الضرب نتج عنه موت، أو نتج عنه تعطل عضو من الأعضاء فلا ضمان عليه؛ لأنه ضرب مأذون فيه، ويقول: أنا ما ضربتها إلا ضرباً معتاداً، وحصل أنها ماتت، أو حصل أن تعيبت يدها، أو ذهب بصرها أو سمعها، أو جرح جلدها أو نحو ذلك، فأنا ضربتها ضرباً مأذوناً فيه غير مبرح، فلا ضمان.
قال: [أو معلم صبيَّه].
معلم الصبيان العادة أنه مباح له الضرب، ويعلم بذلك آباؤهم، فهم يقولون: أدبهم واضربهم الضرب الذي يرتدعون به. فقدر أنه صفع أحدهم في خده فذهب سمعه، أو انفجرت الأذن وانشقت الطبلة، فهو مباح له أن يضربه، فلا ضمان عليه، أو أراد ضربه بعصا فانحرف الطفل فوقعت الضربة على عينه فانفقأت لا ضمان على ذلك المعلم؛ لأنه مأذون له فيه، وهذا إذا كان الضرب بلا إسراف ولا شدة.
قال: [أو سلطان رعيته].
السلطان له أن يؤدب الرعية، فقد يظهر من بعض الرعية شيء من العصيان وشيء من المخالفة وشيء من الأضرار، سواءٌ أكانت تلك الأضرار على نفس السلطان أم على بعض الرعية، فإن هؤلاء يسببون ضعف الأمن واشتداد الخوف ونحو ذلك، فإن ظفر بواحد منهم، وأمر الجلاد فجلده فقال: اجلده وشدد عليه فقدر أنه مات تحت الجلد ففي هذه الحال لا ضمان؛ لأن هذا ضرب مأذون فيه، ويشترط ألا يكون هناك إسراف، وقد فسر المفسرون قول الله تعالى: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34] فقالوا: ضرباً غير مبرح. أي: ليس بشديد، وإنما هو ضرب تأديب لا ضرب قتل.
أمر المكلف بأمر هلك به
وكذلك لو قال: أريد أن تصعد هذه النخلة لصرم التمر منها فصعد باختياره والنخلة طويلة، ولما وصل إلى أعلاها قدر أنه سقط ومات، فهل يضمن صاحب النخلة أو الذي أمره بالصعود؟ لا يضمن؛ لأن هذا هو الذي خاطر بنفسه.
الموت من ريح طعام ونحوه
هذا قد يكون قليلاً، كون الحامل تموت بسبب ريح طعام يمكن أن الحمل قد يتأثر ببعض الروائح فيموت في الرحم، فإذا قدر عادة أنه يموت الجنين في الرحم بسبب ريح طعام كريهة، كما لو اشترى شيئاً من اللحوم ولكنها أنتنت، ولما شمها إنسان رجل أو امرأة فمن آثار هذه الرائحة حصل عليه ضرر أو مرض أو موت بسبب الرائحة الشديدة الكريهة، فصاحب هذا الطعام أو صاحب هذا اللحم فرط وتسبب، فيضمنه إذا كان العادة في ذلك أنه يؤثر، فأما إذا كانت العادة أن الروائح ولو كانت كريهة لا تؤثر ولا يحصل على الذي يشمها موت ولا ضرر فإنه لا يكون هناك ضمان.
الدية أصلها: (ودية)؛ لأنها من (وداه) أي: فداه. وتسمى الدية عقلاً، وذلك لأنهم يأتون بالإبل فيعقلونها في فناء ولي القتيل.
وأما القود فهو القصاص، ولماذا سمي قوداً؟
لأن القاتل يقاد إلى المقتل بنسعة، أي بحبل. وفي الحديث أن اليهود قتلوا عبد الله بن سهل الأنصاري ، قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (تحلفون على رجل منهم فيقاد بنسعته) يعني: بحبله الذي يربط في عنقه، ويقاد إلى المقتل. فيخيّر الولي فيقال: لك الخيار: إما أن تقتل هذا القاتل، وإما أن تطلب الدية. وإذا اختار الصلح على أكثر من الدية فله ذلك، فإذا قال ولي القتيل: أنا أطلب كذا وكذا. أكثر من الدية فله ذلك، ولو عشر ديات، فبعضهم يطلب ثلاثة ملايين ريال سعودي أو أربعة أو خمسة، فيدفعها أهل القاتل كأنهم يشترون القاتل؛ حيث إن الولي يقول: أنا سوف أقتله إلا إن دفعتم هذا المبلغ، ولا أعفو عنه إلا بهذا المبلغ. ففي هذه الحالة إذا فدوه فإن ذلك جائز، كأنه يشتري نفسه، أو أن أولياءه يشترونه ويخلصونه من القتل، فيخير الولي ويقال: لك أن تقتل، ولك أن تطلب الدية. وقد تقدم أنه إذا كان في أولياء القتيل صغير فإنه ينتظر إلى أن يبلغ، فإذا بلغ فإن طلب الدية فليس للأولياء إلا الدية، ولو كان أكثرهم يريدون القصاص، وأما إذا اتفقوا كلهم على طلب القود فلهم ذلك، وهكذا أيضاً إذا طلبوا أكثر من الدية.
يقول: [والعفو مجاناً أفضل].
قال الله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، والعفو مجاناً أن يقول: لا أريد دية ولا أريد قصاصاً، وأترك ذلك لله تعالى وأتصدق على هذا القاتل، وأحرره وأعتقه من القتل. فَيَمُنَّ عليه، فيكون في ذلك قد أحسن إليه حيث خلصه أو منّ عليه.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح أخصر المختصرات [21] | 2739 استماع |
شرح أخصر المختصرات [28] | 2716 استماع |
شرح أخصر المختصرات [72] | 2607 استماع |
شرح أخصر المختصرات [87] | 2570 استماع |
شرح أخصر المختصرات [37] | 2483 استماع |
شرح أخصر المختصرات [68] | 2348 استماع |
شرح أخصر المختصرات [81] | 2339 استماع |
شرح أخصر المختصرات [58] | 2332 استماع |
شرح أخصر المختصرات [9] | 2319 استماع |
شرح أخصر المختصرات [22] | 2269 استماع |