أرشيف المقالات

دعوة النبي إلى توحيد العبادة

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى توحيد العبادة

لما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم دعا إلى كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وإلى تحقيق معناها، والعمل بها؛ لأن ذلك هو المراد من هذه الكلمة فناصَبَه مشركو قريش العداوةَ لما علموا مرادَه بدعوتهم إلى كلمة التوحيد، وأنه إنما أراد معناها لا مجردَ لفظها فقط؛ لتكون العبادة كلُّها لله وحده لا شريك له، ولئلَّا يُصرَفَ منها شيءٌ لغيره سبحانه وتعالى.
 
والعجب كلُّ العجب من أناسٍ يَدَّعون الإسلام وهم لا يعرفون من تفسير لا إله إلا الله ما عرفه جُهَّال الكفرة، بل يُفسِّرونها بغير تفسيرها الذي قُصِد منها؛ بدليل ما يُقدِمون عليه من شركيَّات بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم لِمَحْوِها والقضاء عليها.

فمن هذه الشركيَّات التي يفعلها أولئك المُدَّعُون للإسلام: الذبحُ، والنذر، وتقريبُ القرابين لغير الله؛ كفعلهم ذلك عند القِباب والقبور.

ومنها: دعاؤهم الأمواتَ، وطلبُهم منهم الحوائجَ، واعتقادُ النفع والضر فيهم، وفي بعض الأحياء.

ومنها: التمسُّح بقبورهم، وحَمْلُ ترابها، والاستشفاعُ بهم.

ومنها: الحلفُ بغير الله، ونحو ذلك من الظلم العظيم الذي ما سَبَق إليه إلا أهلُ الجاهليَّة الذين وجَد الرسولُ صلى الله عليه وسلم أن منهم مَن يدعو الملائكة؛ لأجل صلاحهم وقُرْبهم إلى الله؛ ليشفعوا له، ومنهم من يدعو رجلًا صالحًا؛ مثلَ: اللَّاتِ، أو نبيًّا؛ مثل: عيسى عليه السلام، ووجَد منهم مَن ينذرُ لغير الله، ويذبحُ لغير الله، ويستغيثُ بغير الله، إلى غير ذلك مما هم عليه من شرك؛ فدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى إخلاص هذه العبادات وغيرها من أنواعِ العبادة لله وحدَه، ثم قاتلَهم لعدم امتثالِهم لما دعاهم إلى إخلاصه لله من: دعاءٍ، وذبح، ونَذْر، وتقرُّبٍ، واستعانةٍ، واستعاذةٍ، وخوفٍ، ورجاءٍ، إلى غير ذلك من أنواع العبادة.
 
وبيَّن لهم صلى الله عليه وسلم الشفاعةَ المشروعة، ومَن يَستحقُّها، وأنها لا تكون إلا بإذن الله لمَن يشاءُ ويرضى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ [الأنبياء: 28]، وكما قال سبحانه: ﴿ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [سبأ: 23].

فالله سبحانه قد علَّق الشفاعةَ في كتابه بأمرين: أحدهما: رضاه عن المشفوع له، والثاني: إذنُه للشافع؛ فهي لا تحصل لمن طلب من الأموات شفاعتَهم عند الله؛ لأن طلبَه هذا مخالف لأمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ومَن خالف أمرَ الله، فقد سلك سبيلَ سُخْطِه.
 
وشفاعةُ الأنبياء والصالحين تُرجَى لمن حقَّق التوحيد، وعرف أن الشفاعةَ كلَّها لله؛ فسأله سبحانه مباشرة وبدون واسطة أن يُشفِّعَهم فيه؛ كأن يقول: اللهم شفِّع فيَّ رسولَك، قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 44].

وقال سبحانه: ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ﴾ [السجدة: 4].

فالشفاعة في الحقيقة لله وحدَه؛ فلا تُطلَب إلا منه؛ لأنه ليس للعبادِ شفيعٌ من دونه.


بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض فيما يقدرون عليه؛ بسبب قوة السلطان، أو الرغبة في الإحسان، أو نحو ذلك من الأسباب التي تؤثِّر على المخلوق، فيقبل شفاعةَ مخلوقٍ مثله، أما الخالقُ جلَّ وعلا فلا يُؤثِّر عليه شيءٌ من ذلك ألبتة؛ لأن الكلَّ فقراءُ إليه، وهو الغنيُّ الحميد، ولا يُطلَبُ من الميت أيُّ مَطلَبٍ ألبتة، ولا يُقسَمُ به على الله، فمن فعل ذلك فقد أشرك بالله، ودعا غيره.

وغايةُ ما في المسألة: أن الحيَّ يُسلِّم على الميت سلامًا فقط، ويدعو له، فإن كان الميتُ المُسلَّمُ عليه النبيَّ صلى الله عليه وسلم، صلَّى عليه الزائرُ، وشهد له بالبلاغِ وتَأْديتِه الأمانةَ والنصيحة للأمة، وسأل اللهَ أن يُجزيَه عن المسلمين خيرَ الجزاء، ولا يرفعُ صوته بذلك، بل يدعو سرًّا بينه وبينَ الله، ويتوجَّهُ إلى القِبلة لا إلى القبر، وإن سلَّم وانصرف، فحَسَنٌ.
 
والصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم يَحصُلُ بها الثوابُ على بُعْد المكان وقربِه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((وصلوا عليَّ فإن صلاتَكم تبلغني حيث كنتم))؛ رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


وإن كان الميتُ غيرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ممن مات على الإسلام، سلَّم عليه، ودعا اللهَ له ولنفسه بما ورد، لا يزيد على ذلك؛ كما ثبت عن بُريدَةَ رضي الله عنه، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولَ قائلهم: ((السلامُ عليكم أهلَ الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لَلاحقون، أسألُ اللهَ لنا ولكم العافية))؛ رواه مسلم.
 
والسلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم جرَّدوا العبادةَ لله تعالى، فلم يفعلوا عند القبور شيئًا إلا ما أَذِن فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ من السلام على أصحابها، والاستغفار لهم، والترحُّم عليهم.
 
والحاصلُ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم وغيرَه من الصالحين لا يشفعُ في أحد عند الله إلا بعد إذن اللهِ له، واللهُ لا يأذَنُ للشافع في الشفاعة إلا لمن وحَّده عز وجل.

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَشفَعُ في أحدٍ قد أشرَك بالله غيرَه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].

وقال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
 
ومن قال ممَّن يتوسَّلون بالأموات، ويستشفعون بهم: إننا لسنا نعبدُهم من دون الله، وإنما نتقرَّبُ بهم عند الله؛ لما لهم عندَه من الجاه والولاية؛ ولأننا نستحي من الله؛ بسبب ذنوبنا؛ فنتوسط بهم؛ ليشفعوا لنا.

فجوابُه على ذلك: أن هذا القولَ هو عينُ مقالة المشركين التي ذكَرَها الله في كتابه، حيث يقول سبحانه وتعالى عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]، وحيث يقول جل وعلا: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [يونس: 18].
 
ويُقال أيضًا: من الذي يحولُ بينك وبينَ الله حتى تجعلَ بينك وبينه واسطة؟! أتقيسُه على المخلوق الذي يُتوسَّطُ إليه بمخلوق مثله؟! إما لبخله، وإما لجهله بحال المتوسط له، وإما لظلمه وعدم رحمته؟!

فالله سبحانه مُنزَّه عن ذلك كلِّه؛ فهو أكرمُ الأكرمين، وأرحمُ الراحمين، وهو بكل شيء عليم، يجيبُ السائلين، ويغفرُ ذنوب المذنبين، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].

وروى الترمذيُّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا غلام، إني أعلِّمُك كلمات: احفظ الله يَحفَظْك، احفَظِ اللهَ تجدْه تُجاهَك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنْتَ فاستعن بالله)).
ولما سألَ جبريلُ عليه السلام النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: ((أن تَعبُدَ اللهَ كأنك تراه، فإن لم تَكُن تراه، فإنه يراك))؛ رواه مسلم.
 
فعلى مَن أراد النجاة أن يتوب إلى الله، ويلجأ إليه وحدَه في السرَّاء والضرَّاء، ولا يتوسَّط إليه بأحد من خلقه، ويسأله الهداية إلى صراطه المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين، والصدِّيقين، والشهداء والصالحين.
 
توحيد الذات والأسماء والصفات:
وأما توحيد الذات والأسماء والصفات فهو: أن نؤمِن بأن لله ذاتًا لا تُشبهها الذوات، وصفاتٍ لا تشبهُها الصِّفات، وأن أسماءَه دالَّة دلالةً قطعيَّة على ما له سبحانه من صفاتِ الكمال المُطلَق؛ كما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
 
وطريقة الفرقة الناجية أهلَ السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته:
إثباتُ ما أثبته اللهُ لنفسه في كتابِه، أو أثبَتَه له رسولُه صلى الله عليه وسلم، إثباتًا يليقُ بجلاله من غير: تشبيهٍ، ولا تمثيلٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تحريفٍ، ولا تأويلٍ، ولا تكييف.

نسأل الله أن يجعلَنا منهم، وأن يُجنِّبَنا طريقَ فريق الزَّيْغ والضلال، إنه سميع قريب مجيب

شارك الخبر

المرئيات-١