أرشيف المقالات

اعرف عدوك

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
إنَّ الناسَ على ظهر هذا الكوكب يخوضون الكثيرَ من الصراعاتِ فيما بينهم، سواءٌ كانت سياسيةً أو اقتصاديةً أو عسكرية، وكلٌّ يسعى ليكون في هذه الصراعات من المنتصرين، ومن المبادئ الأساسية التي لا يمكن الانتصارُ بغيرها في أي صراع، المبدأ القائل: اعرِفْ عَدُوَّك، وهذا يعني أولاً تحديد العدو أو الأعداء الفعليين والمحتملين، ثم تحديد طبيعة كل عدو من هؤلاء الأعداء ونقاط ضعفه ونقاط قوته، ثم ترتيب الأعداء من حيث القوة والضرر؛ للتعامل بداية مع الأخطر فمن هو دونه.
إن كل إنسان يولد على هذه الأرض، منذ أن نزل إليها آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يخوضُ وحدَه معركةً هي الأخطرُ على الإطلاق، هي أخطر من معركة الحصول على الجاه والسلطان، وأخطر من معركة الحصول على لقمة العيش، بل إنها أخطر من معركة البقاء على قيد الحياة!

إنها معركةُ الخلود..
معركة العودة من الغربة إلى أرض الوطن:فحي على جنات عدن  فإنها        منازلك  الأولى  وفيها  المخيمُ
ولكننا سبي العدو  فهل  ترى        نعود إلى أوطاننا ونُسَلّم[1]؟!إنها معركة مصيرية بكل ما في الكلمة من معنى؛ لأن نتيجتها تحدد مصير الإنسان ومستقبله، ليس لسنوات تالية أو قرون آتية فحسب، بل إنها تحدد مصيره في خلود أبدي لا نهاية له، فإما في جنة النعيم، وإما في نار الجحيم.
إذا كان الأمر كذلك، فإنَّ ألدَّ أعداء الإنسان إنما هو من كان سبباً في غربته هذه، وإخراج أبيه من الجنة ، حيث كان له ألاَّ يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، وإهباطه إلى الأرض ليشقى.
ألد أعداء الإنسان هو من امتلأ حقداً وحسداً على أبينا وذريته من بعده لما آتاهم الله من فضله؛ أن خلق آدم بيده، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، فكرمه وكرم ذريته من بعده.
ألد أعداء الإنسان هو من لا تُرجى مودته قط، ومن لا ينام بالليل ولا بالنهار؛ ليكيد لهذا الإنسان، فيصرفه عن ربه عز وجل، ويقطع عليه طريقه إليه سبحانه.
إنه من لا تقر له عينٌ ولا يهدأ له بال، حتى يجعل ذرية آدم عليه السلام معه في العذاب مقترنين.
ومن رحمة ربنا عز وجل بنا، أن عرَّفنا عدوَّنا بأوضحِ عبارة، وبيَّنَ لنا هدفَه بالتصريح دون الإشارة، فقال عَزَّ مِن قائلٍ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، وبرغم ذلك أعرضَ الكثيرُ من الناس عن هذه الرحمة وعن هذا الإنذار الخطير، بل منهم من عكس الآية تماماً حتى بلغ مبلغاً لا يصل إليه إلا من سفه نفسه، كما قال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]، فعن هؤلاء قال الله: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50].
وقد بين لنا سبحانه تاريخ بدء هذه العداوة؛ حيث كان الأبوان ما يزالان في الجنة {فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} [طه: 117] وبين لنا سلاح العدو الذي استخدمه مع أبينا كي نتقيه {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120]، وبين أثر استخدامه أول مرة على آدم وبنيه من بعده {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36]، وبين لنا عز وجل أن سلاحه مع بني آدم هو نفس سلاحه مع الأبوين، حيث وصفه أنه {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5]، وأن حيلته مع الذرية هي الحيلة نفسها التي أخرجت الأبوين من الجنة والتي يريد بها أن يدخل الذرية النار {يَا بَنِي آَدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27].
وحتى لا يتعاظم الشيطان في نفسه فيوقع الإنسان في حبائل العجز عن دفع كيده ووسوسته، أظهر لنا الله سبحانه وتعالى حقيقة هذا العدو فقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [ النساء : 76]، وهذا إنما يكون لمن حقق العبودية لله عز وجل، واعتصم به، والتجأ إليه، واستعان به على عدوه، وهي الحقيقة التي أدركها الخبيثُ من أول يوم كما أخبر عنه ربنا عز وجل أنه قال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40]، وأما من اتخذ ربه وخالقه وراءه ظهرياً فهؤلاء يكونون ألعوبة في يد الشيطان {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} [النساء: 120]، ثم يوم القيامة تتكشف الحقائقُ، وتُرفع الحجب إذ يقول لأتباعه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22] مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].
فإذا عرفنا العدو، وعرفنا طبيعته، وعرفنا خطورة عداوته ومراده الأعظم من هذه العداوة، وعرفنا السبيل لمقارعة هذا العدو وهزيمته وإفساد خطته، يبقى لنا أن ندرك أن هذا العدو –لشدة خبثه وعداوته– إنْ أخفق في تحقيق مراده في إيقاع بني آدم في الكفر ليكونوا وإياه خالدين في سواء الجحيم، فإنه يسعى لإيقاعهم فيما دون الكفر ليذوقوا شيئاً من عذاب الله وإن لم يخلدوا فيه، أو ليباعد بينهم وبين الدرجات العلى في جنات النعيم!
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله مجامع حيل الشيطان التي يوقع بها بني آدم في حبائله، وهي مما ينبغي لكل عبد أن يتفكر فيه ويتنبه له، وهذه الحيل هي[2]:1- إيقاع المرء في الكفر والنفاق على اختلاف أنواعه، وفيه قرة عين الشيطان، ولا يقع في حبائل هذه الحيلة إلا كل مخذول مرذول.
 
2- فإن اعتصم الإنسان بالتوحيد أعملَ العدوُّ الحيلةَ في إلقائه في البدعة على اختلاف أنواعها، ولا يقع فيها إلا من أسلم نفسه للشبهات، ولم يدرك حقيقة قوله: "أشهد أن محمداً رسول الله"، وأنها تقطع كل الطرق إلى الله إلا طريق نبيه عليه السلام.
3- فإن تمسك الإنسان بالسنة وهجر البدعة، حاول أن يلقيه في الكبائر، وزين له فعلها بكل طريق، ولا يقع في هذه إلا من أسلم نفسَه للشهوات، فانساق وراء نزواته.
4- فإن أعجزته هذه الحيلةُ، وعظم وقارُ الله في قلب العبد، هوّن عليه الصغائرَ، وقال: له إنها تقع مكفَّرة باجتناب الكبائر حتى كأنها لم تكن، وهذه التي يقع فيها عامة الموحدين.
 
5- فإن عجز عن ذلك نقله إلى الفضول من أنواع المباحات والتوسع فيها، كالتوسع في المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك، فينغمس القلب في ملاذّ الدنيا وإن كانت من المباحات، ويتباعد عن الآخرة شيئاً فشيئاً، وهذه حيلتُه مع الأتقياء الصالحين.
6- فإن عجز عن ذلك نقله إلى الطاعات المفضولة الصغيرة الثواب ليشغله بها عن الطاعات الفاضلة الكثيرة الثواب، وهذه حيلته مع العُبَّاد، ولا يقع فيها إلا من لم يأخذ من العلم بحظ وافر. فلكلِّ طالبٍ للانتصار في هذه المعركة المصيرية، نقولُ كما قال الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
فمن صبرَ على مقارعة عدوه، وصابرَ، ورابط، واتقى الله، فإنما هو صَبْرُ ساعة، ثم توشك الحرب أن تضع أوزارها.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم فيها من المفلحين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.ـــــــــــــــــــــ[1] البيتان لابن القيم رحمه الله.[2] ينظر إعلام الموقعين لابن القيم 3/329-330.  

شارك الخبر

المرئيات-١