شرح الأربعين النووية [20]


الحلقة مفرغة

عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، رواه مسلم .

وجوب الإحسان عند القتل والذبح ومعناه

هذا الحديث فيه أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإحسان يكون في كل شيء، وأنه ليس خاصاً ببعض الأمور أو الأحوال وإنما هو عام، فهو يشمل أولاً إحسان العبد عمله لله عز وجل؛ فلا بد أن يكون فيه محسناً، ويكون الإحسان أيضاً في من يستحق القتل؛ وذلك بأن يقتل القتلة التي فيها خروج روح المقتول بسهولة من غير تعذيب أو تمثيل، وسواء كان ذلك في قتال الكفار، أو قتل القاتل قصاصاً، أو حداً، فإنه يراعى في ذلك أن يكون القتل على وجه يريح المقتول، دون أن يناله شيء من الإيذاء قبل قتله، إما بالتمثيل أو عدم قتله القتلة المريحة له، بأن يكون هناك تعذيب له في قتله.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) يفيد العموم، وأن الإحسان عام وليس خاصاً في شيء دون شيء، و(كتب) هنا بمعنى: شرع وأوجب؛ لأن الكتابة تنقسم إلى: كونية قدرية، ودينية شرعية، وهي هنا من قبيل الكتابة الدينية الشرعية، مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، فهذا كله من قبيل الكتابة الشرعية وليس من قبيل الكتابة الكونية القدرية.

ومعنى ذلك أن الواجب عند القتل سواء كان قصاصاً أو حداً أن يقتل القتلة التي فيها سهولة خروج الروح، وسهولة قتله بدون أن يناله شيء من الضرر أو الإيذاء أو التمثيل الذي قد يكون عند القتل.

ولما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)، مثل بمثال يتعلق بالقتل والذبح، وأن ذلك كله يجب أن يكون على وجه فيه راحة للمقتول أو للذبيحة من الحيوان، فهو توضيح لتلك القاعدة العامة بمثال من أمثلتها، كما تقدم في حديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، أنه مثل لذلك بالهجرة فقال: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

وهنا لما ذكر هذه القاعدة العامة، وهي أن الإحسان يكون في كل شيء، وليس خاصاً بشيء دون شيء، بين أن مما يدخل في ذلك إزهاق الروح، سواء كان قتلاً لإنسان أو ذبحاً لحيوان فإنه يجب فيه الإحسان، ويكون ذلك على وجه الإحسان للمقتول وللذبيحة، ولهذا جاء عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في وصيته للغزاة في سبيل الله عز وجل كما في حديث بريدة بن الحصيب في صحيح مسلم (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليداً ولا وليدة)، فقوله: (ولا تمثلوا)، يعني: أنه لا يحصل منهم القتل الذي فيه إيذاء وتشويه للإنسان، وإنما إذا قتل فإنه لا يمثل به.

معنى الإحسان في القصاص والحدود

من قتل قصاصاً فإنه يقتل بالطريقة التي قتل بها فإذا كان قد مثل بالمقتول أو قتله رضاً بالحجارة، فإنه يقتل بالطريقة التي قتل بها، وهذا هو القصاص، وكونه يقتل بالطريقة التي قتل بها مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهودي الذي رض رأس جارية بين حجرين، فأمر بأن يرض رأسه بين حجرين، فقتل بنفس القتلة التي قتل بها، وكذلك العرنيون الذين قتلوا الراعي ومثلوا به أمر بأن يفعل بهم كما فعلوا بالراعي، ومثل بهم كما مثلوا به.

إذاً: الواجب أن يقتل الإنسان في القصاص بالطريقة المريحة كأن يقتل بالسيف، إلا إذا كان قد قتل بطريقة فيها تمثيل أو إيذاء للمقتول فإنه يقتل كما قتل، وهذا هو القصاص؛ لأن القصاص يعني أنه يقتص منه كما فعل، لكنه إذا قتل حرقاً بالنار، فقد جاء في الحديث: (لا يعذب بالنار إلا رب النار)، فلا يحرق بالنار، وإنما إذا حصل منه القتل بطريقة فيها شدة وفيها سوء، فإنه يعامل بتلك المعاملة التي عامل بها غيره.

وكذلك إذا كان القتل حداً فإنه يقتل بسهولة وتزهق روحه بأقرب طريق يكون فيها خروج روحه بدون تعذيب وبدون تمثيل، وقد جاء في القرآن -وهو من المنسوخ تلاوته الباقي حكمه- وكذلك في السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الزاني المحصن حده الرجم، والرجم كما هو معلوم فيه إزهاق للنفس بشدة، فقيل: يحتمل أن يكون هذا مستثنى من عموم قوله: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، أو يقال: إن الإحسان يكون بموافقة الشرع فيما جاء به، والشرع قد جاء بالقتل بهذه الطريقة فيكون ذلك إحساناً؛ لأن الإحسان هو موافقة الشرع فيما جاء به، ويكون ذلك داخلاً تحت هذا العموم، أو يقال: إنه مستثنى من هذا العموم الذي هو إحسان القتلة؛ لأنه جاء بطريقة خاصة في القتل، وهي أنه يرمى بالحجارة حتى يموت، وقد قيل: إن الحكمة في رميه بالحجارة أنه كما حصلت اللذة لجميع الجسد عند فعل هذا الأمر المنكر المحرم، فإن العقوبة تكون لجميع الجسد بأن يرمى بالحجارة حتى يموت وتخرج روحه.

إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى حد الشفرة وإراحة الذبيحة

لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل الإنسان ثم ذبح الحيوان حيث قال: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، بين عليه الصلاة والسلام بعد ذلك ما ينبغي ويجب أن يتخذ عند ذبح الحيوان، حتى تزهق روحه بسهولة، وذلك بأن يتفقد الإنسان الآلة التي يكون الذبح بها، وأن تكون حادة، وأن يتحقق من كونها تذبح بسهولة، فلا تكون كالة فيتعذب الحيوان عند ذبحه بها، بل يتفقد الإنسان تلك الآلة التي يكون بها الذبح وهي الشفرة أو السكين أو المدية، فيتحقق من كونها تقتل بسهولة، وأنه يحصل بها المطلوب بسهولة، لا أن تكون كالة يتعذب الحيوان بالذبح بها، ولا تخرج روحه بسهولة، فالمطلوب هو التفقد لتلك الآلة، وكون الإنسان يحدها بأن يجريها على الحديدة التي تجعلها حادة، وتجعلها تمضي عند الذبح بسهولة ويسر، بحيث لا يتعذب الحيوان عند الذبح.

كلام ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث

لـابن رجب رحمه الله كلام نفيس في شرحه لهذا الحديث، يقول رحمه الله: وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال، لكن إحسان كل شيء بحسبه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب.

وأما الإحسان فيها باستكمال مستحباتها فليس بواجب، والإحسان في ترك المحرمات الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120]، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب، وأما الإحسان في الصبر على المقدورات فأن يأتي بالصبر عليها على وجه من غير تسخط ولا جزع، والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله، والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم القيام بواجبات الولاية كلها، والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب، والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها وأرجاها من غير زيادة في التعذيب فإنه إيلام لا حاجة إليه، وهذا النوع هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ولعله ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، والقتلة والذبحة بالكسر أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح وهيئة القتل، وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه.

وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة، وأسهل وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق، قال الله تعالى في حق الكفار: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4]، وقال تعالى: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ [الأنفال:12] ، وقد قيل: إنه عين الموضع الذي يكون الضرب فيه أسهل على المقتول وهو فوق العظام دون الدماغ، ووصى دريد بن الصمة قاتله أن يقتله كذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية تغزو في سبيل الله قال لهم: (لا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً)، وخرج أبو داود وابن ماجة من حديث ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أخف الناس قتلة أهل الإيمان).

قال المعلق: حديث حسن رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد من حديث ابن مسعود ، وابن أبي شيبة وابن الجارود وابن أبي عاصم في السنة والبيهقي والطحاوي في شرح معاني الآثار وابن حبان ، ثم شرح قوله: (أخف الناس قتلة أهل الإيمان)، قال المناوي : هم أرحم الناس بخلق الله، وأشدهم بعداً عن التمثيل والتشويه بالمقتول وإطالة تعذيبه، وهذا من إجلالهم لخالقهم، وامتثال لما صدر عن صدر النبوة من قوله: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) بخلاف أهل الكفر وبعض أهل الفسوق ممن لم تذق قلوبهم حلاوة الإيمان، واكتفوا بمسماه بلقلقة اللسان، وأشربوا القسوة حتى أبعدوا عن الرحمن، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي: (ومن لا يرحم لا يرحم).

وفي طبعة أخرى قال المعلق: أخرجه أبو داود وأحمد وابن ماجة وهو حديث ضعيف، وفي إسناده اختلاف. راجع العلل للدارقطني ، والسلسلة الضعيفة (1232) وسؤالات البردعي لـأبي زرعة ، وكتاب النافلة.

وعلى كل: المعنى صحيح، فأهل الإيمان هم أخف الناس قتلة؛ لأنهم متقيدون بأحكام الإسلام، لكن بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا يتوقف على صحته وثبوته، وأما من حيث المعنى فهو مستقيم.

هذا الحديث فيه أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإحسان يكون في كل شيء، وأنه ليس خاصاً ببعض الأمور أو الأحوال وإنما هو عام، فهو يشمل أولاً إحسان العبد عمله لله عز وجل؛ فلا بد أن يكون فيه محسناً، ويكون الإحسان أيضاً في من يستحق القتل؛ وذلك بأن يقتل القتلة التي فيها خروج روح المقتول بسهولة من غير تعذيب أو تمثيل، وسواء كان ذلك في قتال الكفار، أو قتل القاتل قصاصاً، أو حداً، فإنه يراعى في ذلك أن يكون القتل على وجه يريح المقتول، دون أن يناله شيء من الإيذاء قبل قتله، إما بالتمثيل أو عدم قتله القتلة المريحة له، بأن يكون هناك تعذيب له في قتله.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) يفيد العموم، وأن الإحسان عام وليس خاصاً في شيء دون شيء، و(كتب) هنا بمعنى: شرع وأوجب؛ لأن الكتابة تنقسم إلى: كونية قدرية، ودينية شرعية، وهي هنا من قبيل الكتابة الدينية الشرعية، مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، فهذا كله من قبيل الكتابة الشرعية وليس من قبيل الكتابة الكونية القدرية.

ومعنى ذلك أن الواجب عند القتل سواء كان قصاصاً أو حداً أن يقتل القتلة التي فيها سهولة خروج الروح، وسهولة قتله بدون أن يناله شيء من الضرر أو الإيذاء أو التمثيل الذي قد يكون عند القتل.

ولما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)، مثل بمثال يتعلق بالقتل والذبح، وأن ذلك كله يجب أن يكون على وجه فيه راحة للمقتول أو للذبيحة من الحيوان، فهو توضيح لتلك القاعدة العامة بمثال من أمثلتها، كما تقدم في حديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، أنه مثل لذلك بالهجرة فقال: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

وهنا لما ذكر هذه القاعدة العامة، وهي أن الإحسان يكون في كل شيء، وليس خاصاً بشيء دون شيء، بين أن مما يدخل في ذلك إزهاق الروح، سواء كان قتلاً لإنسان أو ذبحاً لحيوان فإنه يجب فيه الإحسان، ويكون ذلك على وجه الإحسان للمقتول وللذبيحة، ولهذا جاء عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في وصيته للغزاة في سبيل الله عز وجل كما في حديث بريدة بن الحصيب في صحيح مسلم (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليداً ولا وليدة)، فقوله: (ولا تمثلوا)، يعني: أنه لا يحصل منهم القتل الذي فيه إيذاء وتشويه للإنسان، وإنما إذا قتل فإنه لا يمثل به.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الأربعين النووية [30] 2559 استماع
شرح الأربعين النووية [17] 2544 استماع
شرح الأربعين النووية [32] 2456 استماع
شرح الأربعين النووية [25] 2333 استماع
شرح الأربعين النووية [11] 2306 استماع
شرح الأربعين النووية [23] 2271 استماع
شرح الأربعين النووية [33] 2206 استماع
شرح الأربعين النووية [5] 2205 استماع
شرح الأربعين النووية [31] 2139 استماع
شرح الأربعين النووية [21] 2103 استماع