شرح الأربعين النووية [23]


الحلقة مفرغة

يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في الحديث الثالث والعشرين من أحاديث الأربعين:

عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) رواه مسلم.

هذا حديث عظيم من أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو من جوامع الكلم، وقد اشتمل على جمل تدل على فضائل جملة من الأعمال.

معنى قوله: (الطهور شطر الإيمان)

قوله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان) فسر الطهور بأنه ترك الذنوب والمعاصي والشرك بالله عز وجل، وذلك أن الإيمان منه ما هو فعل ومنه ما هو ترك، فالترك يكون للشرك والذنوب والمعاصي وسائر المنهيات، والفعل يكون بتوحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وتصديق الأخبار، وامتثال الأوامر وعبادة الله عز وجل وفقاً لما جاء في الكتاب والسنة.

وقيل: إن المقصود بالطهور هو: الوضوء، وقد جاء عند الترمذي هذا الحديث بنحو هذا اللفظ الذي عند مسلم، وفيه بدل (الطهور) لفظ (الوضوء)، وجاء الحديث أيضاً عن أبي مالك الأشعري في سنن ابن ماجة وفيه بدل الطهور (إسباغ الوضوء) وهذا يبين ويرجح أن يكون المقصود بالطهور هو الوضوء، وليس الطهارة الأخرى التي هي ترك الشرك والمعاصي والذنوب؛ لأن مجيء بعض الروايات بالتنصيص على الوضوء يدل على أن المقصود الطهارة التي هي الوضوء.

وعلى هذا فلفظ (الإيمان) إما أن يراد به الصلاة، وإما أن يراد به عموم الإيمان الذي يشمل الصلاة وغير الصلاة، وعلى القول بأن الإيمان ليس المراد به خصوص الصلاة يكون المراد أن الطهارة طهارتان: طهارة للباطن، وطهارة للظاهر، والإيمان يكون في الظاهر وفي الباطن، والذي في الظاهر هو التطهير، أي: الطهارة الحسية، أو الطهارة بالوضوء والغسل، وعلى القول بأن المراد بالإيمان الصلاة فإن الصلاة من شرطها الطهارة، ولا تقبل الصلاة بدون طهارة، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول).

وعلى هذا فيكون قوله: (الطهور شطر الإيمان) دالاً على أن الصلاة لا بد فيها من الطهارة، وكل صلاة يؤتى بها بغير طهارة فإنها لا تصح ولا تعتبر، وعلى هذا يكون المراد بالإيمان الصلاة، وقد ورد ذلك في القرآن في قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] وفسر بأن المقصود به صلاة المسلمين إلى بيت المقدس، فإنهم قبل أن تنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فالذين ماتوا قبل أن يصلوا إلى القبلة كانوا يصلون إلى قبلة مشروعة وهي بيت المقدس، فلما حولت القبلة ظن بعضهم أن صلاة من مات ذاهبة سدى، فأنزل الله تعالى قوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى تلك الجهة، ومن ماتوا إنما صلوا إليها بتشريع، وما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة إلا بتشريع.

وقوله: (شطر الإيمان) الشطر يطلق على النصف، ويطلق على الجزء وإن لم يكن نصفاً، والطهور -بالضم- المقصود به الفعل، وهو فعل الوضوء، ففعل الوضوء يقال له: (الطُّهور) بالضم، وأما الماء الذي يتوضأ به فيقال له: (طَهور) بفتح الطاء، فالماء المستعمل للوضوء يقال له: طَهور، وفعل الوضوء من الإنسان حيث يتطهر ويغسل وجهه، ويغسل يديه إلى المرافق، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه إلى الكعبين، هذا الفعل يقال له: طُهور.

ومثل ذلك لفظ (الوُضوء) و(الوَضوء) فإن الوُضوء اسم للفعل الذي هو التوضؤ، والوَضوء بالفتح يقال للماء الذي يتوضأ به، وهناك أيضاً كلمات تشبه هاتين الكلمتين -الطهور والوضوء- مثل: السُّحور والسَّحور، فإن السَّحور اسم للطعام الذي يؤكل في السحر، والسُّحور -بالضم- الفعل الذي هو الأكل، وكذلك السُعوط والسَعوط، فالسَعوط -بالفتح-: اسم للشيء الذي يوضع في الأنف، والسُعوط -بالضم- هو: وضع ذلك الشيء، وكذلك (الوُجور) و(الوَجور) أي: ما يوضع في الحلق. فنفس الوضع يقال له: وُجور، والشيء الذي يوضع يقال له: وَجور.

فالحاصل: أن هناك كلمات على هذه الصيغة، إذا كانت بالضم فالمراد بها الفعل، وإذا كانت بالفتح فالمراد بها الشيء المستعمل.

وقوله: (الطهور شطر الإيمان) هذا يدلنا على فضل الوضوء، وعلى فضل الطهارة، ويدل على بيان عظيم شأنها حيث وصفت بأنها شطر الإيمان.

فضل التسبيح والتحميد

ثم قال: (والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض).

الميزان: هو الميزان الذي توزن به الأعمال. والمعنى أن حمد الله عز وجل -وهو الثناء عليه سبحانه، ووصفه بصفات الكمال- يملأ الميزان، فكلمة (الحمد لله) تملأ ميزان الأعمال، بمعنى أن الأعمال يقلبها الله أعياناً توضع في الميزان, وتكون ثقيلة في الميزان، كما جاء في الحديث الآخر الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).

وهذا الحديث يدل على إثبات الميزان وعلى أن الأعمال توزن، وعلى أن الأعمال تقلب أعياناً توضع في الميزان، وقد جاء أن الأعمال تقلب أعياناً، فقد جاء أن عمل الإنسان الصالح يأتي إلى الميت في قبره بصورة الشاب الحسن الهيئة ويقول: أنا عملك، وأنه إذا كان العمل على العكس فإنه يأتي بأقبح صورة.

وقوله: (وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض) فيه ذكر التسبيح والتحميد، وهو جمع بين تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به، وبين الثناء عليه ووصفه بكل ما يليق بكماله وجلاله، ففيه جمع بين التنزيه والوصف بالكمال، لأن التسبيح تنزيه، والحمد وصف بالمحامد وكل ما هو كمال لائق به سبحانه وتعالى. ولهذا يأتي الجمع بينهما، كما في قول: (سبحان الله وبحمده)، وقوله: (سبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض) قيل: إنهما بمجموعهما يملآن ما بين السماء والأرض. وقيل: إن كل واحدة منهما تملأ ما بين السماء والأرض.

والراوي شك هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تملآن) بالتثنية، أو قال: (تملأ) بدون تثنية؟ فمن أهل العلم من قال: يحمل قوله: (تملآن) عليهما جميعاً، فهما يملآن ما بين السماء والأرض. وقيل: إن كل واحدة منهما تملأ ما بين السماء والأرض، وذلك لمجيء الفعل (تملأ) للمفرد وللمثنى.

فسواء جاء بالتثنية بأن قيل: (سبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض) أو جاء بالإفراد فقيل: (سبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض) فالمعنى صحيح، فيكون الشك في صيغة الخبر، هل هو بالتثنية أو بالإفراد، والخبر الراجح أنه للاثنين اللذين هما: التسبيح والتحميد، وهذا كما قال بعض أهل العلم: إنه يحتمل أن تكون كل واحدة منهما تملأ، أو أن كلتيهما تملأ، ويكون الراوي قد شك هل الخبر بالتثنية أو بدون تثنية؟

وهذا يدلنا على فضل هذا الذكر، وهو حمد الله سبحانه وتعالى وتسبيحه، وقد جمع بهما بين التنزيه والإثبات، فالتنزيه هو نفي كل نقص عن الله، والإثبات هو إثبات كل كمال لله سبحانه وتعالى.

فضل الصلاة وعظيم منزلتها

ثم قال: (والصلاة نور) هذا يدلنا على عظم شأن الصلاة، ووصفها بأنها نور، وهي نور في القلب، ونور في الوجه، ونور هداية، ونور في الدار الآخرة، وكل هذه الصفات للنور هي حاصلة بالصلاة في الدنيا والآخرة، فهي نور في البصيرة وفي القلب، ونور في الوجه بسبب ملازمة الطاعة؛ وذلك لأن الإنسان يصلي لله عز وجل في اليوم والليلة خمس مرات، وهو يكون بهذا على صلة وثيقة بالله سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً يحصل صاحبها على نور الهداية؛ لأن الإتيان بالصلاة في اليوم والليلة لا شك أنّه من الهداية، والهداية نور، كما جاء في القرآن الكريم وصف القرآن بأنه نور، أي: نور يضيء الطريق إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8] فهو نور هداية، وليس مقصوداً به نور حسي يشع، فإن المصحف لا يشع، ولا يحصل منه إشعاع، وإنما يحصل منه الهداية، وكذلك النور المضاف إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن المقصود به نور الهداية، وليس المقصود من ذلك -كما يقول بعض الصوفية- أنه نور لا ظل له؛ لأنه يعكس ضوء الشمس فلا يكون له ظل. فمن المعلوم أنه جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في حجرتها ورجلاها إلى قبلته، فإذا سجد غمزها فكفت رجليها، وإذا قام بسطتهما. قالت: والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح) فلو كان نوره نوراً حسياً يشع لكانت الحجرة مضيئة، ولا يحتاج إلى أن تقول: (والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح)، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يجلس في ظل الكعبة، ولو كان ليس له ظل كما يقولون وأنه يضيء وأنه يعكس نور الشمس لما كان هناك حاجة إلى أن يجلس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه في ظل الكعبة، فهذا غلو فيه صلى الله عليه وسلم وادعاء لأشياء لا حقيقة لها ولا وجود لها، وإنما النور الذي وصف به في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45-46] المقصود به: نور الهداية، وليس نوراً يشع، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يمشى في الظلام، وعائشة رضي الله عنها وأرضاها لما فقدته كانت تتلمسه حتى وقعت يداها على رجليه وهو ساجد.

فالمقصود بالنور المضاف إلى القرآن نور الهداية، والنور المضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نور الهداية، وعلى هذا فالصلاة نور في قلب صاحبها وفي بصيرته، وأيضاً نور في وجهه، ونور يضيء أمامه يوم القيامة.

فضل الصدقة

قوله: (والصدقة برهان) يعني: أنها دليل على صدق المتصدق وعلى إيمانه؛ لأنها علامة واضحة ودلالة بينة، كما أن الحجة يقال لها: برهان لأنها تبين عن الحق، فكذلك الصدقة برهان وعلامة واضحة على إيمان صاحبها؛ وذلك لأن النفوس تشح بالمال وتبخل بالمال، فمن تصدق وجاد بالمال فذلك دليل على سلامته من البخل وسلامته من الشح، والله عز وجل لما ذكر الأنصار وما وصفهم به من الصفات قال في ختام الآية: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، فالمتصدق الذي يبذل المال ويتصدق به يكون فعله دليلاً وبرهاناً على سلامته من شح النفس ومن البخل، وأنه متصف بهذا الخلق الكريم الذي هو التصدق والإحسان إلى الناس.

الصبر فضله وأنواعه

قوله: (والصبر ضياء) الصبر يكون على طاعة الله، ويكون عن معاصي الله، ويكون على أقدار الله المؤلمة، والصبر لا بد فيه من هذه الأمور، فيصبر الإنسان على الطاعات ولو شقت على النفوس، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكارة).

فالطريق إلى الجنة ليس مفروشاً بالورود والرياحين، بل فيه تعب ونصب ومشقة، ولا يصل إليها إلا من جاهد نفسه وكبح جماحها وجعلها تنقاد وتستلم لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك شاقاً، ولهذا جاء في الحديث: (وإسباغ الوضوء على المكاره) يعني: في شدة البرد يتوضأ ويسبغ الوضوء ولو كان الماء بارداً.

وكذلك الصبر عن معاصي الله، فيصبر الإنسان على طاعة الله ولو شقت على النفوس، ويصبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس؛ فإن الجنة حفت بالمكارة، فيحتاج طالبها إلى صبر على طاعة الله عز وجل ولو شقت على النفوس، ويحتاج أيضاً إلى صبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس؛ لأن النار حفت بالشهوات، والإنسان إذا أرخى لنفسه العنان فيما تشتهي ولو كان محرماً فإن ذلك يفضي به ويوصله إلى النار.

وكذلك الصبر على أقدار الله المؤلمة، كالمصائب والنكبات التي تحل بالإنسان، فيصبر ويحتسب ولا يتسخط ويجزع، فقد وصف الصبر بأنه ضياء، وذلك لكون صاحبه يصبر على طاعة الله وعن معاصي الله وعلى أقدار الله المؤلمة، فلا شك أن من صبر قد هدي، وأنه حصل له الضياء، وحصل له النور الذي يكون بسبب صبره على الطاعات وصبره عن المعاصي وصبره على أقدار الله.

وعبر بالضياء مع الصبر لأن الضياء يكون معه حرارة، ولهذا وصف نور الشمس بأنه ضياء، والقمر وصف بأنه نور، فالشمس ضياء نورها معه حرارة، ومعلوم أن الصبر يحتاج إلى تحمل ويحتاج إلى احتساب وفيه مشقة، فمن صبر فإنه يحصل هذا الثواب ويحصل هذا الأجر، ويحصل هذا الضياء، ففيه الدلالة على فضل الصبر، وأن فيه هذا الثوب من الله عز وجل.

القرآن حجة للمرء أو حجة عليه

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (والقرآن حجة لك أو عليك) أي: أن الناس ينقسمون إلى قسمين بالنسبة للقرآن: فمنهم من يكون القرآن حجة له، وهو الذي يقوم بما يجب عليه نحوه من تلاوته حق تلاوته، وتدبره، وتصديق أخباره، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

وإذا أعرض عنه، وأهمل حدوده، ولم يحصل منه الإتيان بالأوامر وترك النواهي فإنه يكون حجة عليه، فالناس بين رابح وخاسر، فالرابح من كان القرآن حجة له، والخاسر من كان القرآن حجة عليه, فإما أن يكون القرآن حجة للمرء؛ وذلك إذا أتى بما هو مطلوب منه نحو القرآن، أو يكون حجة عليه إذا لم يأت بما هو مطلوب منه نحو القرآن بأن يخل بالأوامر والنواهي، فيقصر في المأمورات ويقع في المحظورات، ولا يحصل منه الالتزام بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون القرآن حجة عليه.

وهذا الذي جاء في هذا الحديث عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) هو نظير ما جاء في صحيح مسلم -أيضاً- عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) فمن رفعه الله بالقرآن كان القرآن حجة له، ومن وضعه بالقرآن وخفضه بالقرآن فإنه يكون حجة عليه.

وقوله: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين) هذا الحديث أخرجه مسلم عن عمر رضي الله عنه، وكان استشهاده بهذا لمناسبة، فإنه كان له أمير على مكة، فلقيه فقال له: من وليت على مكة في مدة غيبتك؟ فقال: وليت عليهم ابن أبزى. فقال: ومن ابن أبزى ؟ قال: مولى من الموالي. قال: وليت عليهم مولى؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين! إنه عالم بكتاب الله عارف بالفرائض. فقال رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين).

بيان كون العبد هو الذي يعتق نفسه أو يوبقها

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).

الغدو هو: الذهاب في الصباح، فالناس فيه يسعون وينتشرون ويقومون من نومهم ويخرجون من بيوتهم لأعمالهم المختلفة، فمنهم من يستقيم على طاعة الله، ومنهم من ينحرف عن ذلك ويقع في المعاصي، فمن كان مستقيماً على الطاعة فإنه يكون بذلك قد باع نفسه لله، وحصل الثواب من الله، وذلك بالتزامه بما جاء عن الله عز وجل، فكان خروجه وكان عمله في هذا الخروج في سبيل الله، فيكون لذلك أعتق نفسه من أن تقع فريسة للشيطان، وأن تستسلم للشيطان، وأن تفعل الأفعال التي تؤدي إلى النار وتوصل إلى النار، فهذا هو الرابح في بيعه.

ومنهم من باع نفسه للشيطان واستسلم وانقاد للشيطان، فهو يتصرف ويعمل وفقاً لما تشتهي نفسه الأمارة بالسوء، ووفقاً لما يمليه عليه الشيطان، فيكون بذلك قد أوبق نفسه بأن جعلها أسيرة للشيطان، وجعل ذلك العمل موصلاً له إلى النار التي يحصل فيها العذاب.

فهذا الحديث العظيم من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والله تعالى أعلم.

قوله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان) فسر الطهور بأنه ترك الذنوب والمعاصي والشرك بالله عز وجل، وذلك أن الإيمان منه ما هو فعل ومنه ما هو ترك، فالترك يكون للشرك والذنوب والمعاصي وسائر المنهيات، والفعل يكون بتوحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وتصديق الأخبار، وامتثال الأوامر وعبادة الله عز وجل وفقاً لما جاء في الكتاب والسنة.

وقيل: إن المقصود بالطهور هو: الوضوء، وقد جاء عند الترمذي هذا الحديث بنحو هذا اللفظ الذي عند مسلم، وفيه بدل (الطهور) لفظ (الوضوء)، وجاء الحديث أيضاً عن أبي مالك الأشعري في سنن ابن ماجة وفيه بدل الطهور (إسباغ الوضوء) وهذا يبين ويرجح أن يكون المقصود بالطهور هو الوضوء، وليس الطهارة الأخرى التي هي ترك الشرك والمعاصي والذنوب؛ لأن مجيء بعض الروايات بالتنصيص على الوضوء يدل على أن المقصود الطهارة التي هي الوضوء.

وعلى هذا فلفظ (الإيمان) إما أن يراد به الصلاة، وإما أن يراد به عموم الإيمان الذي يشمل الصلاة وغير الصلاة، وعلى القول بأن الإيمان ليس المراد به خصوص الصلاة يكون المراد أن الطهارة طهارتان: طهارة للباطن، وطهارة للظاهر، والإيمان يكون في الظاهر وفي الباطن، والذي في الظاهر هو التطهير، أي: الطهارة الحسية، أو الطهارة بالوضوء والغسل، وعلى القول بأن المراد بالإيمان الصلاة فإن الصلاة من شرطها الطهارة، ولا تقبل الصلاة بدون طهارة، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول).

وعلى هذا فيكون قوله: (الطهور شطر الإيمان) دالاً على أن الصلاة لا بد فيها من الطهارة، وكل صلاة يؤتى بها بغير طهارة فإنها لا تصح ولا تعتبر، وعلى هذا يكون المراد بالإيمان الصلاة، وقد ورد ذلك في القرآن في قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] وفسر بأن المقصود به صلاة المسلمين إلى بيت المقدس، فإنهم قبل أن تنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فالذين ماتوا قبل أن يصلوا إلى القبلة كانوا يصلون إلى قبلة مشروعة وهي بيت المقدس، فلما حولت القبلة ظن بعضهم أن صلاة من مات ذاهبة سدى، فأنزل الله تعالى قوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى تلك الجهة، ومن ماتوا إنما صلوا إليها بتشريع، وما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة إلا بتشريع.

وقوله: (شطر الإيمان) الشطر يطلق على النصف، ويطلق على الجزء وإن لم يكن نصفاً، والطهور -بالضم- المقصود به الفعل، وهو فعل الوضوء، ففعل الوضوء يقال له: (الطُّهور) بالضم، وأما الماء الذي يتوضأ به فيقال له: (طَهور) بفتح الطاء، فالماء المستعمل للوضوء يقال له: طَهور، وفعل الوضوء من الإنسان حيث يتطهر ويغسل وجهه، ويغسل يديه إلى المرافق، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه إلى الكعبين، هذا الفعل يقال له: طُهور.

ومثل ذلك لفظ (الوُضوء) و(الوَضوء) فإن الوُضوء اسم للفعل الذي هو التوضؤ، والوَضوء بالفتح يقال للماء الذي يتوضأ به، وهناك أيضاً كلمات تشبه هاتين الكلمتين -الطهور والوضوء- مثل: السُّحور والسَّحور، فإن السَّحور اسم للطعام الذي يؤكل في السحر، والسُّحور -بالضم- الفعل الذي هو الأكل، وكذلك السُعوط والسَعوط، فالسَعوط -بالفتح-: اسم للشيء الذي يوضع في الأنف، والسُعوط -بالضم- هو: وضع ذلك الشيء، وكذلك (الوُجور) و(الوَجور) أي: ما يوضع في الحلق. فنفس الوضع يقال له: وُجور، والشيء الذي يوضع يقال له: وَجور.

فالحاصل: أن هناك كلمات على هذه الصيغة، إذا كانت بالضم فالمراد بها الفعل، وإذا كانت بالفتح فالمراد بها الشيء المستعمل.

وقوله: (الطهور شطر الإيمان) هذا يدلنا على فضل الوضوء، وعلى فضل الطهارة، ويدل على بيان عظيم شأنها حيث وصفت بأنها شطر الإيمان.

ثم قال: (والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض).

الميزان: هو الميزان الذي توزن به الأعمال. والمعنى أن حمد الله عز وجل -وهو الثناء عليه سبحانه، ووصفه بصفات الكمال- يملأ الميزان، فكلمة (الحمد لله) تملأ ميزان الأعمال، بمعنى أن الأعمال يقلبها الله أعياناً توضع في الميزان, وتكون ثقيلة في الميزان، كما جاء في الحديث الآخر الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).

وهذا الحديث يدل على إثبات الميزان وعلى أن الأعمال توزن، وعلى أن الأعمال تقلب أعياناً توضع في الميزان، وقد جاء أن الأعمال تقلب أعياناً، فقد جاء أن عمل الإنسان الصالح يأتي إلى الميت في قبره بصورة الشاب الحسن الهيئة ويقول: أنا عملك، وأنه إذا كان العمل على العكس فإنه يأتي بأقبح صورة.

وقوله: (وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض) فيه ذكر التسبيح والتحميد، وهو جمع بين تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به، وبين الثناء عليه ووصفه بكل ما يليق بكماله وجلاله، ففيه جمع بين التنزيه والوصف بالكمال، لأن التسبيح تنزيه، والحمد وصف بالمحامد وكل ما هو كمال لائق به سبحانه وتعالى. ولهذا يأتي الجمع بينهما، كما في قول: (سبحان الله وبحمده)، وقوله: (سبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض) قيل: إنهما بمجموعهما يملآن ما بين السماء والأرض. وقيل: إن كل واحدة منهما تملأ ما بين السماء والأرض.

والراوي شك هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تملآن) بالتثنية، أو قال: (تملأ) بدون تثنية؟ فمن أهل العلم من قال: يحمل قوله: (تملآن) عليهما جميعاً، فهما يملآن ما بين السماء والأرض. وقيل: إن كل واحدة منهما تملأ ما بين السماء والأرض، وذلك لمجيء الفعل (تملأ) للمفرد وللمثنى.

فسواء جاء بالتثنية بأن قيل: (سبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض) أو جاء بالإفراد فقيل: (سبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض) فالمعنى صحيح، فيكون الشك في صيغة الخبر، هل هو بالتثنية أو بالإفراد، والخبر الراجح أنه للاثنين اللذين هما: التسبيح والتحميد، وهذا كما قال بعض أهل العلم: إنه يحتمل أن تكون كل واحدة منهما تملأ، أو أن كلتيهما تملأ، ويكون الراوي قد شك هل الخبر بالتثنية أو بدون تثنية؟

وهذا يدلنا على فضل هذا الذكر، وهو حمد الله سبحانه وتعالى وتسبيحه، وقد جمع بهما بين التنزيه والإثبات، فالتنزيه هو نفي كل نقص عن الله، والإثبات هو إثبات كل كمال لله سبحانه وتعالى.