الهجرة النبوية [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد مضى بنا الحديث عن الهجرة من بيان أسبابها ومقدماتها، وبدأنا في طريقتها ومنهجها وخطتها، وتقدم ما كان من اعتزام أبي بكر رضي الله تعالى عنه على الهجرة مراراً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمهله ويقول: (لعل الله يجعل لك رفيقاً)، وكان يطمع أبو بكر في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم.

وذكرنا ما كان من السرية والتخطيط لإنجاح هذا الحدث، وأن من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن له في الهجرة جاء إلى بيت أبي بكر وقت القيلولة، ولم يكن يأتي في مثل ذلك الوقت، وبعد أن أخبره وشاوره معه خرج من خوخة خلف البيت، ولم يخرج من الباب العام، وكذلك: مبيت علي رضي الله تعالى عنه في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسجيه ببرده، وأيضاً: اتفاق أبي بكر رضي الله تعالى عنه مع ولده عبد الله أن يكون في مكة نهاراً يستمع أخبار الناس ويأتي إليهم في الغار ليلاً يخبرهم به، ويأتي بعد ذلك الراعي عامر بن فهيرة ويمشي بالغنم على أثر عبد الله فيمحو الأثر؛ لئلا يستهدي به الأعداء إلى الغار.

ثم خرج صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى الغار، واستبرأ أبو بكر الغار في التحفظ والخوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الطريق كان تارة يمشي أمامه، وتارة يمشي وراءه، وتارة عن يمينه، وتارة عن شماله، فانتبه إليه صلى الله عليه وسلم وقال: ما بالك يا أبا بكر هكذا؟ فيقول: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون من ورائك، وأتذكر العدو فأكون عن يمينك أو عن شمالك، فيقول صلى الله عليه وسلم ويبين فضل الصديق رضي الله تعالى عنه: (أتود يا أبا بكر إن يكن شيء يكون فيك أنت؟ قال: بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله، إن أهلك أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة) .

وهكذا يمضي الصديق في طريقه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا ما وصلا الغار يطلب من رسول الله أن يتأنى حتى يسبق أبو بكر إلى الغار ليستبرئه، مخافة أن يكون فيه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وانتهينا إلى دخول الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الغار، ومكثا فيه ثلاثة أيام، وقلنا: إن الحديث على أحداث الغار يتناول من كان خارج الغار من الطالبين، ومن كان داخل الغار من المطلوبين، أما من كان خارج الغار فإن الله قد ردهم بنسج العنكبوت وبيض الحمام ونبات أخضر متدل، وانتهى أمرهم.

وهناك الصديق رضي الله عنه كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا)، فكان الصديق خائفاً بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئنه غاية الطمأنينة ويقول: (يا أبا بكر ! ما بالك باثنين الله ثالثهما!) وانتهت مدة الغار ثلاثة أيام، وهي كما يقول العلماء: مدة الضيافة، ولكأنهما كانا في ضيافة الرحمن.

تسجيل وقائع نصرة الله لنبيه في القرآن

يأتي القرآن الكريم يسجل هذا الموقف، ويلزمنا الوقوف مع من بداخل الغار وقفة طويلة.

أولاً: النص الكريم إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40] حقيقة النصر مذكورة في قول الله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126].

ثم يبين سبحانه وسائل النصر ووقائعه الفعلية، فيقول: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40] أول وقفة مع هذا النص النظر إلى المقابلة، فإنه ذكر الكفار، وذكر اللذين أُخرجا، فالكفار جماعة أقوياء أشداء، وهما اثنان: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40]، ليسا في برحة في الأرض بل هما في غار مصمت إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ [التوبة:40] والصحبة فضيلة ومنقبة لـأبي بكر لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].

جاء رجل إلى أحد أولاد الحسين بن علي رضي الله عنه وتكلم على الأحداث الماضية المؤلمة التي وقعت بين الصحابة فسب من خالف علياً فقال له رضي الله تعالى عنه: يا هذا هل أنت من أهل هذه الآية: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ [الحشر:8] هل أنت من هؤلاء المهاجرين؟ قال: لا. قال: هل أنت من أهل هذه الآية وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر:9] قال: لا. لست من المهاجرين ولا من الأنصار، قال: وأنا أشهد أنك لست ممن قال الله فيهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] فقم عني.

وجاء رجل من الشيعة إلى ابن عمر ونال من أبي بكر في حرمانه لـفاطمة من ميراث أبيها، فقال له: رويدك! أتتهم أبا بكر !! فأخبرني في قوله سبحانه: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40] من الثاني معه؟ قال: أبو بكر إِذْ هُمَا [التوبة:40] ما المقصود بـ(هما)؟ قال: الرسول وأبو بكر إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ [التوبة:40] من صاحبه؟ قال: أبو بكر لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] مع من؟ قال: مع الرسول وأبي بكر ، قال: ائتني بواحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له اثنتان من هذه الأربع، فأدبر عنه ومضى.

ولما ذكرت المقارنة بين أبي بكر وبين عمر وبين علي وعثمان قال عمر :والله! لليلة من أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار خير من آل الخطاب جميعاً.

إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:40]، إذاً: فليس فقط العنكبوت وبيض الحمام، بل هناك جنود أيضاً لم نرها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا [التوبة:40].

تشابه مواقف الأنبياء في الأزمات

هنا وقفة مقارنة بين أمور تختص بالغار، وأمور فيها عامل مشترك في جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم.

أولاً: قال: الله في الآية: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، لا نقول: إن النون في: (معنا) نون العظمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم من أخلاقه التواضع، فيكون ضاماً معه أبا بكر ، فمعية الله لهما.

وبالمقارنة مع هذا المأزق الضيق داخل الغار فهناك موقف آخر مشابه، وهو موقف موسى عليه السلام ببني إسرائيل على ساحل البحر، فإن الله أمره أن يخرج ببني إسرائيل ويمضي، قال: إلى أين يا رب؟

قال: حيث ترى السحابة فامش خلفها، فمشى وراء السحابة، فإذا بالسحابة توقفه على ساحل البحر، وأتبعهم فرعون وجنوده، فنظر من كان مع موسى فإذا البحر أمامهم والعدو وراءهم، فقالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، لكن قال نبي الله موسى: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي [الشعراء:62].

فموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول في هذا الموقف المشابه: (إِنَّ مَعِيَ) ، وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).

ولنعرف أيضاً منزلة الصديق ومشاركته الفعلية في الهجرة حتى استحق أن يكون داخلاً ضمن تلك المعية، ولذا جمع الضمير: (إن الله معنا)

بينما موسى مع قومه كانوا خائفين وليسوا على مستوى موسى عليه السلام ويقينه بالله، بل اليقين الراسخ لموسى وحده، ولهذا أفرد الضمير في المعية فقال: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)، وما قال: (ربكم) فكانت ثقة موسى بربه وعناية الله بموسى أقوى وأشد من البقية؛ فهذه مقارنة في نوع المعية التي سجلها الله لرسوله وصاحبه في الغار.

فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة:40]، ما قال: (عليهما)؛ لأن النبي هو الأصل ومن سكينة الله عليه أخذ يطمئن أبا بكر : (ما بالك باثنين الله ثالثهما)، فقد كان أبو بكر خائفاً، وأشرنا إلى المقارنة بين خوف أبي بكر في الغار وطمأنينة أبي بكر في العريش في بدر.

أبو بكر في الغار خائف والرسول يطمئنه، وأبو بكر في العريش مطمئن والرسول مبتهل بالدعاء إلى الله، وفي غاية الضراعة: (اللهم وعدك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض بعد، اللهم انجز لي ما وعدتني) واجتهد في الدعاء حتى إن رداءه ليسقط في الأرض ويأخذه أبو بكر ويرده على كتفيه.

وأشرنا فيما سبق بأن الفارق: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان في الغار لم تكن توجد بعد جماعة ولا أمة يتحمل مسئوليتها في ذلك الوقت، ويعلم بأن الله معه ومع صاحبه، ولكن في بدر كان قد خرج بعدد من المسلمين وكانوا سبعمائة وأربعة عشر رجلاً، يقابلون ألفاً من المشركين بكامل العدة، إذاً: كان يجتهد في الدعاء من أجل غيره لا لنفسه، كما قال الله: أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] وقال: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

يأتي القرآن الكريم يسجل هذا الموقف، ويلزمنا الوقوف مع من بداخل الغار وقفة طويلة.

أولاً: النص الكريم إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40] حقيقة النصر مذكورة في قول الله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126].

ثم يبين سبحانه وسائل النصر ووقائعه الفعلية، فيقول: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40] أول وقفة مع هذا النص النظر إلى المقابلة، فإنه ذكر الكفار، وذكر اللذين أُخرجا، فالكفار جماعة أقوياء أشداء، وهما اثنان: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40]، ليسا في برحة في الأرض بل هما في غار مصمت إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ [التوبة:40] والصحبة فضيلة ومنقبة لـأبي بكر لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].

جاء رجل إلى أحد أولاد الحسين بن علي رضي الله عنه وتكلم على الأحداث الماضية المؤلمة التي وقعت بين الصحابة فسب من خالف علياً فقال له رضي الله تعالى عنه: يا هذا هل أنت من أهل هذه الآية: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ [الحشر:8] هل أنت من هؤلاء المهاجرين؟ قال: لا. قال: هل أنت من أهل هذه الآية وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر:9] قال: لا. لست من المهاجرين ولا من الأنصار، قال: وأنا أشهد أنك لست ممن قال الله فيهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] فقم عني.

وجاء رجل من الشيعة إلى ابن عمر ونال من أبي بكر في حرمانه لـفاطمة من ميراث أبيها، فقال له: رويدك! أتتهم أبا بكر !! فأخبرني في قوله سبحانه: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40] من الثاني معه؟ قال: أبو بكر إِذْ هُمَا [التوبة:40] ما المقصود بـ(هما)؟ قال: الرسول وأبو بكر إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ [التوبة:40] من صاحبه؟ قال: أبو بكر لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] مع من؟ قال: مع الرسول وأبي بكر ، قال: ائتني بواحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له اثنتان من هذه الأربع، فأدبر عنه ومضى.

ولما ذكرت المقارنة بين أبي بكر وبين عمر وبين علي وعثمان قال عمر :والله! لليلة من أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار خير من آل الخطاب جميعاً.

إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:40]، إذاً: فليس فقط العنكبوت وبيض الحمام، بل هناك جنود أيضاً لم نرها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا [التوبة:40].


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
دروس الحرم [15] 3175 استماع
دروس الحرم [7] 3055 استماع
دروس الحرم [12] 2964 استماع
دروس الحرم [6] 2946 استماع
الهجرة النبوية [8] 2904 استماع
دروس الحرم [9] 2902 استماع
الهجرة النبوية [4] 2888 استماع
دروس الحرم [14] 2799 استماع
دروس الحرم [16] 2727 استماع
دروس الحرم [1] 2665 استماع