الهجرة النبوية [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين. أما بعد:

أيها الإخوة: تقدم الكلام على موضوع الهجرة، وتقدم بيان أن الحديث يتناوله من عدة جهات،

وذكرنا الدوافع والأسباب التي أدت إلى الهجرة، سواء كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو هجرة الأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وكان ملخص ذلك: اشتداد إيذاء الكفار للمسلمين، وتضييقهم عليهم، وعدم تمكينهم من أداء عبادتهم لله على الوجه المطلوب، ومعلوم أن الأرض كلها لله، والإسلام لا يعرف وطناً.

ثم ذكرنا من مقدمات الهجرة: خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهو من الأسباب والمقدمات، وكان من أقوى المقدمات مجيء أناس من الأوس والخزرج كانوا يسمعون من اليهود بقرب مبعث نبي سينتمون إليه، ويقاتلون العرب معه ويستأصلونهم، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على العرب في مواسم الحج وفي أسواق العرب، فعرض نفسه على هؤلاء النفر وعرفوه، ثم رجعوا إلى المدينة وفشا الخبر بها، وفي العام الثاني تضاعف العدد، وكانت بيعة العقبة من المقدمات.

وأيضاً مما قوى ودعم تلك المقدمات: ما جاء في قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كانت الحرب بين الأوس والخزرج مائة سنة، كلما أخمدت اشتعلت، وما انتهت إلا قبل الهجرة النبوية بخمس سنوات، فكانت تهيئة لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأنهم ملوا الحرب.

وفعلاً -يا إخوان- الحرب دمار وضياع، والمنتصر فيها خسران، وكما يقولون: الحرب في أوائلها تقبل كفتاة تدل بجمالها وبشبابها وبروائها، فتغري المغرورين الذين ينخدعون بزخرفها ومطامعها، وخاصة إذا كانت لديهم العدة والعتاد، فعند نشوة القوة لا يفكرون في العواقب، ولكنها بعد فترة تقف كعجوز شمطاء قد ذهب شبابها، وذبل رواؤها، وانطفأ جمالها، وتقوس ظهرها!

ظلت الحرب بينهم مائة سنة، وملها الناس، وأخذ كل يبحث عن الخلاص، وكان اليهود إذا غُلبوا يتوعدون العرب ببعثة نبي آخر الزمان وأنهم سوف يتبعونه، فكان الجو في المدينة مهيأً، وأري النبي صلى الله عليه وسلم دار هجرته كما قال: (أريت دار هجرتي، أرضاً سبخة ذات نخيل، وأُراها هجر أو يثرب).

هجر هي: الأحساء، ويثرب هي: المدينة، والذي يعرف البلدين يجد الشبه بينهما -في التربة والمناخ والأشجار- قوياً جداً، ثم أراد الله الكرامة والشرف والخير للمدينة.

الحديث عن الإسراء كمقدمة للهجرة نوجزه في الآتي:

بداية الإسراء

كان صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ -كما في رواية البخاري - مستلقياً على ظهره، فإذا بسقف البيت انفرج، ودائماً ننبه أن السيرة النبوية ليست مجرد قصص أو روايات، بل يجب على المسلم أن يقف عند كل جزئية وكل حدث ليستخلص العبرة.

انفرج السقف ونزل ملكان بصورة رجلين فأخذاه إلى الحطيم إلى زمزم، وشقا صدره، وأخرجا قلبه وغسلاه بماء زمزم، وملآه إيماناً وحكمة، ثم كانت الرحلة المباركة.

نقف وقفة: هل هذه أول مرة يأتيه ملك أو ملكان، أو أن جبريل وغيره كانوا يأتون إليه مراراً؟ وهل كانوا يرونه موضع مجيئهم؟

لا. لم يكن يشعر إلا وجبريل عنده، يأتي من الجدار أو الباب أو السقف أو الأرض، لا يدري إلا وجبريل أمامه، لكن في هذه المرة بالذات تغاير مجيء الملك عن المرات الأخرى، في المرات المتقدمة كان يأتي جبريل ويوحي إليه بما أوحاه الله إليه، يجيء مجيئاً سلمياً تعليمياً، لكن هذه المرة كان فيها شق الصدر، والصدر دم ولحم وهو إنسان، فلكي لا يجزع صلى الله عليه وسلم أراه الله هذا السقف ينفرج وهو جماد من جذوع النخل أو من خشب الشجر، وينزل من نزل منه ثم يعود فينطبق، فإذا رأى الجماد الذي لا يحس ولا يلتئم ولا يلتحم؛ إذا رأى بعينه انفراجه والتحامه، فلا يشق عليه إذا أسند ووسد ليشق صدره، والصدر دم ولحم, وكم من عضو ينجرح ثم يلتئم؛ لأن الجسم فيه حيوية وقابلية لالتئام الجروح، فالتئام الجرح بعد الشق أقرب وأيسر من التئام السقف وهو من الجماد؛ فكانت هذه كما يقال: عملية تنبيه وطمأنينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: قد سبق أن شق صدره وهو رضيع في بني ساعدة عند حليمة رضي الله تعالى عنها؟

نقول: نعم، ولكن كان طفلاً صغيراً، ولما جاء أخوه من الرضاعة إلى أمه وقال: أدركي أخي! فإن رجلين أخذاه فأضجعاه وشقا صدره! أي: غصباً عنه، والآن هو كبير، بعد البعثة، وهو وفي درجة النبوة عندما يشق صدره، إذاً: كان انفراج السقف بمثابة الطمأنينة، وشق صدره لم يكن عملية جراحية فيها تخدير، بل يرى بعينه، ويدرك بقلبه وشعوره.

شق الصدر ليلة الإسراء ودوره في التهيئة للمعراج

هنا وقفة أخرى: ما الحاجة إلى شق الصدر، وغسل القلب بزمزم، وملؤه إيماناً وحكمة ويقيناً؟

السلف كانوا يقولون: من باب التبرك، وزيادة الإيمان واليقين، أما نحن الآن فنستطيع أن نضيف شيئاً جديداً؛ لأننا في زمن غزو الفضاء، وفي زمن تدريب وتهيئة رجال الفضاء، فهم تأخذهم الدول، وتجري لهم التجارب، وتعمل لهم الاحتياطات في زمن طويل، ثم تلبسهم من اللباس ما يقاوم الطقس الجوي، ويقاوم عملية الاحتكاك، ويضعونهم في مركبات خاصة، ولولا ذلك المركب لاحترقوا من سرعة وقوة احتكاكهم بالهواء وبالأجرام من حولهم.

كان ذاك العمل يحول من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من بشر عادي إلى بشر فوق العادي من الناحية المادية والجسمانية، ليستطيع أن يقاوم وأن يخترق هذا الفضاء مع سرعة الانتقال وشدة الاحتكاك دونما ضرر عليه.

ومن جانب آخر -وهو أقوى وأهم- تهيئة يقينية معنوية روحية ليقوى على القيام في ذاك المقام الذي ذكره القرآن: بالتنويه عنه أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:12-14]، ثم مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:17-18].

فتلك الآيات الكبرى يزيغ بصر الإنسان العادي عنها، ولا يقوى على تصورها، ويطغى فؤاده فلا يقوى على إدراك ما هو أمامه، أي: تأخذه دهشة الموقف، ولكن ما سبق لرسول الله جعله رابط الجأش، ثابت القدم، حاد البصر، ثابت الجنان، قوي القلب، ما زاغ بصره عما رأى من سدرة المنتهى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:16].

(ما) هنا للتنكير وللتعظيم، كقوله: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-2]، وأمام هذا الذي غشي السدرة ما زاغ البصر، وما زاغ الفؤاد، مع أنه رأى من آيات ربه الكبرى!

إذاً: كان هذا الإعداد ليتهيأ وليقوى على ذلك الموقف، وقد جاء في الحديث: (أن سدرة المنتهى ينتهي عندها خبر الأرض، وينتهي إليها خبر السماء، ووقف جبريل عندها وقال: هذا منتهاي يا محمد؛ تقدم أنت!)، إذاً: الموقف يحتاج إلى إعداد، ويحتاج إلى تهيئة، فكان ذلك بشق الصدر وملئه إيماناً وحكمة.

وجيء بالبراق، والبراق -كما وصفه صلى الله عليه وسلم- دابة دون الفرس وفوق الحمار، يضع حافره حيث انتهى طرفه، أي أن خطوته مد البصر، كما يقال في عرف الوقت الحاضر: سرعة الضوء، وسرعة الضوء تتضاعف أضاعفاً على سرعة الصوت، إذاً: لا نستنكر الذهاب في لحظات، والعودة في لحظات.

قُرِّب البراق فلم يثبت، فقال له جبريل: (اثبت! فما ركبك خير منه) صلى الله عليه وسلم، يقولون: إن إبراهيم ركب البراق، وكان يأتي من الشام إلى مكة عليه لكي يزور هاجر وإسماعيل، وهي شهر ذهاباً وشهر إياباً! فيذكرون أن البراق كان في الأمم الماضية ولكن: ما ركبه خير منه صلى الله عليه وسلم، فثبت البراق، وتصبب عرقاً، وينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بصحبة جبريل إلى بيت المقدس.

كان صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ -كما في رواية البخاري - مستلقياً على ظهره، فإذا بسقف البيت انفرج، ودائماً ننبه أن السيرة النبوية ليست مجرد قصص أو روايات، بل يجب على المسلم أن يقف عند كل جزئية وكل حدث ليستخلص العبرة.

انفرج السقف ونزل ملكان بصورة رجلين فأخذاه إلى الحطيم إلى زمزم، وشقا صدره، وأخرجا قلبه وغسلاه بماء زمزم، وملآه إيماناً وحكمة، ثم كانت الرحلة المباركة.

نقف وقفة: هل هذه أول مرة يأتيه ملك أو ملكان، أو أن جبريل وغيره كانوا يأتون إليه مراراً؟ وهل كانوا يرونه موضع مجيئهم؟

لا. لم يكن يشعر إلا وجبريل عنده، يأتي من الجدار أو الباب أو السقف أو الأرض، لا يدري إلا وجبريل أمامه، لكن في هذه المرة بالذات تغاير مجيء الملك عن المرات الأخرى، في المرات المتقدمة كان يأتي جبريل ويوحي إليه بما أوحاه الله إليه، يجيء مجيئاً سلمياً تعليمياً، لكن هذه المرة كان فيها شق الصدر، والصدر دم ولحم وهو إنسان، فلكي لا يجزع صلى الله عليه وسلم أراه الله هذا السقف ينفرج وهو جماد من جذوع النخل أو من خشب الشجر، وينزل من نزل منه ثم يعود فينطبق، فإذا رأى الجماد الذي لا يحس ولا يلتئم ولا يلتحم؛ إذا رأى بعينه انفراجه والتحامه، فلا يشق عليه إذا أسند ووسد ليشق صدره، والصدر دم ولحم, وكم من عضو ينجرح ثم يلتئم؛ لأن الجسم فيه حيوية وقابلية لالتئام الجروح، فالتئام الجرح بعد الشق أقرب وأيسر من التئام السقف وهو من الجماد؛ فكانت هذه كما يقال: عملية تنبيه وطمأنينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: قد سبق أن شق صدره وهو رضيع في بني ساعدة عند حليمة رضي الله تعالى عنها؟

نقول: نعم، ولكن كان طفلاً صغيراً، ولما جاء أخوه من الرضاعة إلى أمه وقال: أدركي أخي! فإن رجلين أخذاه فأضجعاه وشقا صدره! أي: غصباً عنه، والآن هو كبير، بعد البعثة، وهو وفي درجة النبوة عندما يشق صدره، إذاً: كان انفراج السقف بمثابة الطمأنينة، وشق صدره لم يكن عملية جراحية فيها تخدير، بل يرى بعينه، ويدرك بقلبه وشعوره.

هنا وقفة أخرى: ما الحاجة إلى شق الصدر، وغسل القلب بزمزم، وملؤه إيماناً وحكمة ويقيناً؟

السلف كانوا يقولون: من باب التبرك، وزيادة الإيمان واليقين، أما نحن الآن فنستطيع أن نضيف شيئاً جديداً؛ لأننا في زمن غزو الفضاء، وفي زمن تدريب وتهيئة رجال الفضاء، فهم تأخذهم الدول، وتجري لهم التجارب، وتعمل لهم الاحتياطات في زمن طويل، ثم تلبسهم من اللباس ما يقاوم الطقس الجوي، ويقاوم عملية الاحتكاك، ويضعونهم في مركبات خاصة، ولولا ذلك المركب لاحترقوا من سرعة وقوة احتكاكهم بالهواء وبالأجرام من حولهم.

كان ذاك العمل يحول من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من بشر عادي إلى بشر فوق العادي من الناحية المادية والجسمانية، ليستطيع أن يقاوم وأن يخترق هذا الفضاء مع سرعة الانتقال وشدة الاحتكاك دونما ضرر عليه.

ومن جانب آخر -وهو أقوى وأهم- تهيئة يقينية معنوية روحية ليقوى على القيام في ذاك المقام الذي ذكره القرآن: بالتنويه عنه أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:12-14]، ثم مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:17-18].

فتلك الآيات الكبرى يزيغ بصر الإنسان العادي عنها، ولا يقوى على تصورها، ويطغى فؤاده فلا يقوى على إدراك ما هو أمامه، أي: تأخذه دهشة الموقف، ولكن ما سبق لرسول الله جعله رابط الجأش، ثابت القدم، حاد البصر، ثابت الجنان، قوي القلب، ما زاغ بصره عما رأى من سدرة المنتهى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:16].

(ما) هنا للتنكير وللتعظيم، كقوله: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-2]، وأمام هذا الذي غشي السدرة ما زاغ البصر، وما زاغ الفؤاد، مع أنه رأى من آيات ربه الكبرى!

إذاً: كان هذا الإعداد ليتهيأ وليقوى على ذلك الموقف، وقد جاء في الحديث: (أن سدرة المنتهى ينتهي عندها خبر الأرض، وينتهي إليها خبر السماء، ووقف جبريل عندها وقال: هذا منتهاي يا محمد؛ تقدم أنت!)، إذاً: الموقف يحتاج إلى إعداد، ويحتاج إلى تهيئة، فكان ذلك بشق الصدر وملئه إيماناً وحكمة.

وجيء بالبراق، والبراق -كما وصفه صلى الله عليه وسلم- دابة دون الفرس وفوق الحمار، يضع حافره حيث انتهى طرفه، أي أن خطوته مد البصر، كما يقال في عرف الوقت الحاضر: سرعة الضوء، وسرعة الضوء تتضاعف أضاعفاً على سرعة الصوت، إذاً: لا نستنكر الذهاب في لحظات، والعودة في لحظات.

قُرِّب البراق فلم يثبت، فقال له جبريل: (اثبت! فما ركبك خير منه) صلى الله عليه وسلم، يقولون: إن إبراهيم ركب البراق، وكان يأتي من الشام إلى مكة عليه لكي يزور هاجر وإسماعيل، وهي شهر ذهاباً وشهر إياباً! فيذكرون أن البراق كان في الأمم الماضية ولكن: ما ركبه خير منه صلى الله عليه وسلم، فثبت البراق، وتصبب عرقاً، وينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بصحبة جبريل إلى بيت المقدس.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
دروس الحرم [15] 3175 استماع
دروس الحرم [7] 3055 استماع
دروس الحرم [12] 2964 استماع
دروس الحرم [6] 2947 استماع
الهجرة النبوية [8] 2904 استماع
دروس الحرم [9] 2903 استماع
دروس الحرم [14] 2799 استماع
دروس الحرم [16] 2727 استماع
دروس الحرم [1] 2666 استماع
دروس الحرم [19] 2612 استماع