خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/210"> الشيخ عطية محمد سالم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/210?sub=33943"> سلسلة دروس الهجرة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
الهجرة النبوية [8]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد وصل بنا الحديث عن الهجرة إلى وصول الركب المبارك إلى قباء وبناء المسجد بها، ثم النزول من قباء إلى المدينة، ومروره صلى الله عليه وسلم بأحياء الأوس والخزرج، وكلما مر بحي تلقاه أهله: هلم يا رسول الله إلى العَدَد والعُدَد والمنعة، فيقول: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة).
إرشاد الله لناقة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكان إقامته
وأيضاً مما يشعر بأن الله سبحانه يجعل عند للحيوانات إدراكاً، ما جاء في الموطأ في باب فضل يوم الجمعة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها من فجر يوم الجمعة إلى غروب الشمس، فرقاً من الساعة)، فالحيوانات تعرف أن الساعة تقوم يوم الجمعة وتصغي بسمعها للنفخة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وما جاء في نص القرآن الكريم من خبر الهدهد وما رأى عليه بلقيس وأصحابها، وجاء مستنكراً أنهم يسجدون للشمس والقمر ولا يسجدون لله.
أيضاً في مقالة النملة: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18].
وهذه أمور يثبتها القرآن الكريم.
إذاً: لا مانع من أن الله سبحانه يهدي الناقة إلى المكان الذي يريد الله أن يكون مقراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون على رسول الله لوم ولا مسئولية في أن يقدم فريقاً على فريق.
وكان الأوس والخزرج كفرسي رهان عند رسول الله، إذا فعل الأوس مكرمة بادر الخزرج إلى أن يفعلوا مكرمة مثلها، ولما جاءت الناقة نزلت في حلة بني النجار وكان أعز حي في أحياء المدينة فبادر الناس هناك لرسول الله: في بيتي، عندي يا رسول الله، هلم إلى بيتي، وهو ينتظر ساكتاً، ثم التفت إلى ناقته ورحله فوجد الناقة بدون رحل، فقال: (أين رحلي؟ قالوا: احتمله
قصة تبع اليمن وبناء بيت أبي أيوب الأنصاري
ما هو بيت أبي أيوب هذا؟ ومن أبو أيوب؟
يقولون: إن أحد التبابعة من ملوك اليمن مر بالمدينة وهو في طريقه إلى أفريقيا، وبعض الروايات تقول: وكان معه مائة وثلاثون فارساً وضعف ذلك راجلاً، ومعه من أجل العلم والحكمة العدد الكبير، فلما وصلوا إلى المدينة تبايع أربعمائة من أهل العلم والمعرفة ألَّا يخرجوا من المدينة مع الملك، مع أنهم جاءوا معه وهم رفقاؤه.
فسألهم الملك: علام امتنعتم؟ وعلام تحبون البقاء في هذه البلاد؟ قالوا: إن البيت -البيت العتيق- وهذه البلدة تتشرف ببعثة نبي آخر الزمان اسمه محمد، ونحن نقيم ننتظره.
فأراد أن يقيم معهم ووثق من كلامهم.؛ لكن ما استطاع.
تقول هذه الرواية: فبنى أربعمائة بيت لكل واحد بيتاً، واشترى أربعمائة جارية فأعتقهن وزوج كل واحد بجارية وأعطاه عطاءً جزلاً، وبنى بيتاً حتى إذا جاء النبي سكن فيه، وكتب كتاباً وختمه بالذهب وأعطاه إلى كبير هؤلاء العلماء والحكماء، وقال: إن أدركته أبلغه سلامي وأعطه كتابي، ومما كتب فيه:
شهدتُ على أحمد أنه رسول الله خالق النسم
ولو طال عمري إلى عهده لكنت وزيراً له وابن عم
شهد بأنه آمن برسول الله، ولو أنه أدركه لكان وزيراً له، أي: معيناً مساعداً وابنَ عمه.
وختم الكتاب وقال لكبير العلماء: إن أدركته فأعطه كتابي، وإن لم تدركه فأعطه لولدك، وولدك لولده، وولد ولدك لولده، حتى يصل إليه.
تقول هذه الرواية أيضاً: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وصل الكتاب إلى رجل اسمه أبو ليلى، فذهب به إلى رسول الله في مكة، فلما جاء به قبل أن يكلمه قال: (أنت
والرواية الأخرى تقول: إن هذا الملك لما مر بالمدينة خلف ولده عليها ملكاً، ومضى في سبيل رحلته، ثم أتى موسم جني الثمار فذهب إلى حائط رجل وصعد على النخلة وأخذ يجني من رطبها، وهي ليست مِلْكَه، فجاء صاحب النخلة وضربه بالمنجل في رأسه فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبَّر.
انظروا الحمية إلى أين؟! من أجل قليل من الرطب يقتل الملك عليها، وكما يقال: غمط الحق غصة، فليس هناك إنسان يقبل الظلم على نفسه، حتى الحيوان لا يقبل الظلم على نفسه، ولا يوجد إنسان يقبل انتهاب ماله وهو قادر على أن يرده؛ ولكن أما كان حقه أن يقول له: انزل، لماذا صعدت؟
وفي عودة الملك وجدهم قد قتلوا ولده، فأراد أن يقتلهم جميعاً، فحاصرهم، فكانوا يقتتلون نهاراً ويكفون عن القتال ليلاً، وطال الحصار إلى أن نفد طعام الجيش المقاتل، فقال أهل المدينة فيما بينهم: هذا الجيش ما عنده طعام، وليس من الإنصاف أن نقاتل قوماً جياعاً في النهار، ونأوي إلى بيوتنا ونسائنا نطعم ونشبع ونستريح.
فقالوا: نخرج لهم العشاء.
فتعجب الملك وقال: والله ما وجدت مثل هذه القرية، نقاتلهم نهاراً ويُقْروننا ليلاً؟! جيش محاصِر يقاتل ولما نفد زادهم لم يقل عدوهم: الحمد لله غداً نأخذهم ونذبِّحهم. بل قالوا: نطعمهم ونقاتلهم.
وأبت عليهم مروءتهم أن يقاتلوا عدواً يقع تحت وطأة الجوع، قالوا: ليست هذه مكافأة، مثل الفارس يقاتل راجلاً، فعليه أن يترجل مثله، أو يمهله حتى يجد فارساً يجول ويصول معه، وهكذا كانت شيمة العرب، الفارس لا ينازل إلا من كان عدلاً له
فتعجب الملك من أمرهم؛ وبينما هو على تلك الحالة إذ خرج إليه حبران من أحبار اليهود بالمدينة، وسألاه: أيها الملك! ماذا تريد؟
قال: أريد أن أنتقم لولدي وأستأصل أهل هذه القرية.
قالا له: إنك لن تسلَّط عليهم.
قال: ولماذا؟
قالا: إنها مهاجَر آخر نبي؛ أيهاجر إليها وهي خراب؟! ليس معقولاً.
ثم تكلما واستمع منهما، فوجد عندهما علماً، فاستأنس لهما وصدقهما.
فلما خاطباه وسمع كلامهما، ووجد عندهما علماً، اتعظ وتنازل عن دم ولده، وسأل أهل العلم، وهذا هو الواجب على الملوك والرؤساء والزعماء والقادة: أن يرجعوا إلى العلماء؛ لأن عندهم هدى ونوراً من الله، وهذان كانا على كتاب وعلى دين سماوي.
فقالا له: ارحل عنها، وابن بيتاً، فإذا جاء نبي ذلك الزمان لجأ إليه، فبنى بيتاً وكتب كتاباً.
فسواء كان اختيار المدينة من الأربعمائة الذين تبايعوا وتعاهدوا على البقاء ينتظرون، أو كان بسبب قتل ولد الملك، المهم أن الملك بنى بيتاً وكتب كتاباً ودفعه لكبير العلماء أو لواحد من أبناء هذين الحبرين.
وقالت الرواية الأولى: الأوس والخزرج من أبناء الأربعمائة.
وقالت الرواية الثانية: أبو أيوب من نسل كبير الأحبار الذين بقوا في المدينة.
فلما علم أن عندهما علماً قال: لابد أن تصحباني إلى بلادي اليمن، فامتنعا عليه، فقال: لا غنى لي عنكما، وأخذهما قسراً عليهما، فتبعاه.
وتتمةً للفائدة: فإن هذا الملك وهو في طريقه إلى مكة خرج عليه رجلان من هذيل، قالا: أيها الملك! إنك قادم على مكة، ونريد أن ندلك على كنز بها، إن أنت أخذته أغناك الدهر كله.
قال: وما هو؟
قالا: كنز في جوف بيت العرب. يعنيان: اهدم الكعبة وخذ الكنز.
فلما سمع ذلك دعا الحبرين وسألهما، قالا: أيها الملك! لقد أرادا هلاكك. غدراً بك، قال: ولأي شيء؟! قالا: إن هذا البيت هو البيت العتيق، أعتق من أيدي الجبابرة، ما تسلط عليه جبار إلا أهلكه الله، فأرادا لك الهلاك، وإذا أردت أن تعرف حقيقة الأمر فأظهر لهما إذا أتياك قبولك والموافقة واصحبهما معك إلى مكة حتى يشتركان في الهدم.
فلما وفدا عليه من الغد قال: جزاكما الله خيراً، دللتماني على كنز عظيم، ولا أريد أن آخذ الكنز وحدي، وحيث دللتماني عليه لابد أن تذهبا معي ونقتسم المال.
فقالا: لا نريد منه شيئاً، هو لك وحدك.
قال: عجيب! تدلاني على كنز ولا تريدان منه شيئاً، إذاً: الأمر فيه خيانة، وضرب أعناقهما.
ثم سأل الحبرين: ماذا تشيران عليَّ إذا أتيت البيت؟
قالا: تدخله متواضعاً لله وحده، وتكرم جيرانه، وتكسوه.
انظروا يا إخوان! هاهم أحبار اليهود، وهاهو ملك المجوس وثني وهو في طريقه إلى الإيمان يعظم البيت ويسمع نصيحة العلماء في زمنه، فيدخل مكة متواضعاً، ويعظم حرمة البيت، ويكرم جيرانه، ويكسو الكعبة.
وصدق الله العظيم: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:96-97].
فالبيت له رب يحميه من زمان قديم كما قال عبد المطلب: جئتك أطلبك إبلاً لي أخذه رجالك.
قال: قد كنتَ عظيماً في نظري والآن صغرت، جئت أهدم بيت عزك وشرفك ودينك، فتترك الكلام معي فيه وتكلمني في إبل؟!
قال: نعم. الإبل لي وأنا أطالب بها، أما البيت فله رب يحميه، لست أنا الذي أحميه.
وما أشبه الليلة بالبارحة! ينادون بإنقاذ الحرمين، وجهلوا وعميت بصائرهم عن واقع الحرمين، هل الحرمان مقفولان؟
الحرمان بلدان مفتوحان ليل نهار، والحرم في مكة مفتوح أربعاً وعشرين ساعة، والحرم في المدينة يُقفل ساعات من الليل، وما خلت الكعبة وقتاً من الأوقات من طائف لله، ففي كل وقت وفي كل أوان يأتيه رجال: وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] يطوفون ويسعون ويعتمرون.
ولكن إذا أراد الله فضيحة شخص جعل فضيحته من طريقه هو، والمسجد النبوي ما خلا من زائر أو مُصَلَّ من مسلم على رسول الله وصاحبيه.
لماذا هؤلاء الناس يأتون من جميع أقطار الإسلام، لماذا لا يوجد من قال كلمة ذم؟ بل العكس كلٌّ يعترف بالجميل، يرفع الواحد أكف الشكر لله أن يجد الحرمين في هذه النعمة، نسأل الله أن يديمها علينا وأن يتمها لنا.
إكرام الأنصار وأبي أيوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن هنا يقول بعض العلماء تعليقاً على ذلك: نزل في بيته؛ ولم يكن لأحد منة عليه، وقد شاهدنا في أول الهجرة: لما قدَّم أبو بكر رضي الله عنه الرواحل ماذا قال رسول الله؟
قال: (لا أركب بعيراً ليس لي، قال: هو لك يا رسول الله، قال: لا. الثمن، بكم اشتريتهما؟ قال: بثمانمائة، قال: هو عليَّ بثمنه)، فلم يقبل إلا مثامنة.
ثم لما أراد بناء المسجد -على ما سيأتي أمره أيضاً تتمةً لهذه الجزئية- كانت الأرض ملكاً لرجلين: سهل وسهيل فقال: (ثامنوني عليها، قالا: خذها، قال: بل بالثمن، فاشتراها منهما بعشرين ديناراً ذهباً، دفعها
نزل صلى الله عليه وسلم بيت أبي أيوب، ففرح الأنصار بنزول رسول الله، وكان أشد الفرح من الحي الذي نزل فيه، وفي كل ليلة كان يجتمع على باب أبي أيوب القصعة والقصعتان والثلاث والأربع والخمس، كلهم يريدون أن يحصلوا على شرف وبركة أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامهم.
لما نزل صلى الله عليه وسلم نزل في الدور الأول، وأبو أيوب وأم أيوب في الدور العلوي، تقول الرواية: استيقظ أبو أيوب ذات ليلة، وقال لـأم أيوب: (كيف ننام في علوٍ رسول الله تحته؟!).
انظروا يا إخوان! لا أحد يقول لي: حرام وحلال؛ أو دليله في كذا، فهذا إحساس وشعور بالتعظيم، وتكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعور الإيمان، قال: (كيف ننام في علوٍ رسول الله تحته؟! يقول: فتجنبنا جانباً ونمنا إلى الصباح، ورواية أخرى تقول: انكسر حِبٌّ لنا -الحِب: الزير الصغير- فقمت أنا وأم أيوب فزعين، وعندنا قطيفة واحدة هي لحافنا، فقمنا نجفف الماء مخافة أن يقطر منه شيء على رسول الله فيؤذيه).
وسواء كان الإحساس الأول أو كان الخوف الثاني، فكل ذلك يدل على توقير وتكريم واحترام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فلما أصبح الصباح غدوت على رسول الله وقلت: يا رسول الله! أما البارحة فلم أنم لا أنا ولا
انظر المراعاة إلى أين؟! قال: عندما أكون في الدور الأول يجيء الذي يزورني فيجدني أمامه؛ لكن إذا كنت في الأعلى احتاج الزائر إلى الصعود ففيها مشقة عليك وربما مشقة على أصحابي.
قال: لا يا رسول الله، أنا لا أستريح أبداً وأنا فوق، فنزل على رغبته، وكان صلى الله عليه وسلم في علو البيت وأبو أيوب في أسفله.
كان أبو أيوب رضي الله تعالى عنه إذا صنع الطعام يقدم القصعة أولاً لرسول الله، فيتناول منها ما شاء الله، ثم يأخذها أبو أيوب، يقول: ونتتبع مواضع يده التماساً للبركة، وفي يوم من الأيام رجعت إلينا قصعتنا ولم نرَ فيها أثر أكله منها، فقمت وصعدت حالاً: أستغفر الله وأتوب إليه يا رسول الله! ماذا فعلنا حتى غضبتَ علينا ولم تأكل طعامنا، فقال: (يا أبا أيوب ، ما غضبت عليك، وما تركته غضباً، ولكن فيه من تلك البقول -كان فيها كرَّاث ونحوه- فكلوا أنتم، قال: كيف نأكل ما لم تأكله أنت؟ قال: لستُ كأحدكم، إني أناجي من لا تناجون)، هنا عادت الفوارق؛ أنا ما آكل منها، ولا يليق لي أن آكل منها؛ لكن أنتم كلوا.
إذاً: هناك أشياء تكون من خصائصه صلى الله عليه وسلم يُمنع منها وتُباح للأمة، كما يوجد العكس؛ فقد تكون هناك أشياء تباح له صلى الله عليه وسلم وتحرم على الأمة، ويسمونها الخصائص.
مما أبيح له وحرم علينا: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] وكذلك الوصال: (لستُ كأحدكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني).
إذاً: وبعد ذلك لم يضعوا له في الطعام من هذه البقوليات، وبقي في بيت أبي أيوب حتى تحول وبنى بيوتاً لزوجاته، وأول ما بنى لـعائشة.
بناء النبي صلى الله عليه وسلم للمسجد بالمدينة
فقال صلى الله عليه وسلم: (لمن هذا المربد؟ قالوا: ليتيمين أو لـسهل وسهيل ابني عمرو ، فدعا بهما وجاء وليهما، وقال: ثامني على هذه الأرض -وقيل: مربد، وقيل: نخيل، وقيل غير هذا فقال: هي لك يا رسول الله، وأنا أرضيهما عنها بأرض بدلاً منها أو بقيمتها، قال: لا. ثامنوني عليها، فثامنوه واشتراها صلى الله عليه وسلم ودفع أبو بكر قيمتها عشرين ديناراً ذهبا).
نحن في هذا المقام نعلق ونقول: هذه من مكارم أبي بكر، ولا يوجد مسلم يأتي يصلي في هذا المسجد إلا ولـأبي بكر فضل عليه وله أجر معه.
بناء النبي صلى الله عليه وسلم لحجر أزواجه
وقد جاء عنه النهي عن أن يدخل الإنسان على المرأة قبل أن يدفع لها شيئاً، كما جاء في زواج علي بـفاطمة رضي الله تعالى عنهما أنه (لما خطبها قال له الرسول: ماذا تعطيها؟ قال: ليس عندي شيء، قال: أين درعك الحطمية، أعطها إياها.
أما ماذا ستفعل بالدرع؟! فكما تشاء، تتملكه أو تبيعه أو ترده على زوجها، المهم أنه صداقها.
فقال: ما عندك ما تمهرها؟ أنا أمهرها عنك.
ودفع أبو بكر لـعائشة صداقها، وهنا نقف وقفة طويلة، فالرجل العاقل إذا وجد الزوج الصالح لابنته، فلا يتساهل في الشروط أو الطلبات فقط، بل يعينه بما يستطيع.
ما المانع ما دام يجد الكفؤ لابنته، فهي ليست ما كثة عنده في البيت؟!
عندما تدفع أنت وتشتري رجلاً طيباً وتطمئن إليه ويكرم ابنتك؛ أليس أحسن من أن تبيعها وتأخذ ثمنها وغداً ترجع عليك؟!
ما أطيب السنة وما أجملها وأوسطها وأيسرها!
ثم كان عليه الصلاة والسلام كلما تزوج امرأة بنى لها حجرة، وصارت حجرات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرق إلى الشمال، وبيت حفصة من الجنوب.
إلى هنا وصلت رحلة الهجرة إلى غايتها، ويمكن أن نعتبر ما تقدم الحديث عنه من أول تدبير النبي صلى الله عليه وسلم بنوم علي في فراشه، وإعداد أبي بكر الرواحل، والاتفاق مع ابن أريقط ، ومواعداته إلى الغار بعد ثلاث، كله بداية وتاريخ ومنهج الهجرة؛ إلى أن وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبدأ في بناء المسجد.
أشرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأمر لما يُسخر الله إليه الناقة ليخرج من عهدة تحمل مسئولية مجاملة فريق على آخر، وهذا من الحكمة الإلهية.
وأيضاً مما يشعر بأن الله سبحانه يجعل عند للحيوانات إدراكاً، ما جاء في الموطأ في باب فضل يوم الجمعة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها من فجر يوم الجمعة إلى غروب الشمس، فرقاً من الساعة)، فالحيوانات تعرف أن الساعة تقوم يوم الجمعة وتصغي بسمعها للنفخة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وما جاء في نص القرآن الكريم من خبر الهدهد وما رأى عليه بلقيس وأصحابها، وجاء مستنكراً أنهم يسجدون للشمس والقمر ولا يسجدون لله.
أيضاً في مقالة النملة: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18].
وهذه أمور يثبتها القرآن الكريم.
إذاً: لا مانع من أن الله سبحانه يهدي الناقة إلى المكان الذي يريد الله أن يكون مقراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون على رسول الله لوم ولا مسئولية في أن يقدم فريقاً على فريق.
وكان الأوس والخزرج كفرسي رهان عند رسول الله، إذا فعل الأوس مكرمة بادر الخزرج إلى أن يفعلوا مكرمة مثلها، ولما جاءت الناقة نزلت في حلة بني النجار وكان أعز حي في أحياء المدينة فبادر الناس هناك لرسول الله: في بيتي، عندي يا رسول الله، هلم إلى بيتي، وهو ينتظر ساكتاً، ثم التفت إلى ناقته ورحله فوجد الناقة بدون رحل، فقال: (أين رحلي؟ قالوا: احتمله
من يقرأ كتب السيرة يجد روايات عجيبة لبيت أبي أيوب ، وإن اختلفت في سياقها فإنها تتفق في المغزى والمعنى.
ما هو بيت أبي أيوب هذا؟ ومن أبو أيوب؟
يقولون: إن أحد التبابعة من ملوك اليمن مر بالمدينة وهو في طريقه إلى أفريقيا، وبعض الروايات تقول: وكان معه مائة وثلاثون فارساً وضعف ذلك راجلاً، ومعه من أجل العلم والحكمة العدد الكبير، فلما وصلوا إلى المدينة تبايع أربعمائة من أهل العلم والمعرفة ألَّا يخرجوا من المدينة مع الملك، مع أنهم جاءوا معه وهم رفقاؤه.
فسألهم الملك: علام امتنعتم؟ وعلام تحبون البقاء في هذه البلاد؟ قالوا: إن البيت -البيت العتيق- وهذه البلدة تتشرف ببعثة نبي آخر الزمان اسمه محمد، ونحن نقيم ننتظره.
فأراد أن يقيم معهم ووثق من كلامهم.؛ لكن ما استطاع.
تقول هذه الرواية: فبنى أربعمائة بيت لكل واحد بيتاً، واشترى أربعمائة جارية فأعتقهن وزوج كل واحد بجارية وأعطاه عطاءً جزلاً، وبنى بيتاً حتى إذا جاء النبي سكن فيه، وكتب كتاباً وختمه بالذهب وأعطاه إلى كبير هؤلاء العلماء والحكماء، وقال: إن أدركته أبلغه سلامي وأعطه كتابي، ومما كتب فيه:
شهدتُ على أحمد أنه رسول الله خالق النسم
ولو طال عمري إلى عهده لكنت وزيراً له وابن عم
شهد بأنه آمن برسول الله، ولو أنه أدركه لكان وزيراً له، أي: معيناً مساعداً وابنَ عمه.
وختم الكتاب وقال لكبير العلماء: إن أدركته فأعطه كتابي، وإن لم تدركه فأعطه لولدك، وولدك لولده، وولد ولدك لولده، حتى يصل إليه.
تقول هذه الرواية أيضاً: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وصل الكتاب إلى رجل اسمه أبو ليلى، فذهب به إلى رسول الله في مكة، فلما جاء به قبل أن يكلمه قال: (أنت
والرواية الأخرى تقول: إن هذا الملك لما مر بالمدينة خلف ولده عليها ملكاً، ومضى في سبيل رحلته، ثم أتى موسم جني الثمار فذهب إلى حائط رجل وصعد على النخلة وأخذ يجني من رطبها، وهي ليست مِلْكَه، فجاء صاحب النخلة وضربه بالمنجل في رأسه فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبَّر.
انظروا الحمية إلى أين؟! من أجل قليل من الرطب يقتل الملك عليها، وكما يقال: غمط الحق غصة، فليس هناك إنسان يقبل الظلم على نفسه، حتى الحيوان لا يقبل الظلم على نفسه، ولا يوجد إنسان يقبل انتهاب ماله وهو قادر على أن يرده؛ ولكن أما كان حقه أن يقول له: انزل، لماذا صعدت؟
وفي عودة الملك وجدهم قد قتلوا ولده، فأراد أن يقتلهم جميعاً، فحاصرهم، فكانوا يقتتلون نهاراً ويكفون عن القتال ليلاً، وطال الحصار إلى أن نفد طعام الجيش المقاتل، فقال أهل المدينة فيما بينهم: هذا الجيش ما عنده طعام، وليس من الإنصاف أن نقاتل قوماً جياعاً في النهار، ونأوي إلى بيوتنا ونسائنا نطعم ونشبع ونستريح.
فقالوا: نخرج لهم العشاء.
فتعجب الملك وقال: والله ما وجدت مثل هذه القرية، نقاتلهم نهاراً ويُقْروننا ليلاً؟! جيش محاصِر يقاتل ولما نفد زادهم لم يقل عدوهم: الحمد لله غداً نأخذهم ونذبِّحهم. بل قالوا: نطعمهم ونقاتلهم.
وأبت عليهم مروءتهم أن يقاتلوا عدواً يقع تحت وطأة الجوع، قالوا: ليست هذه مكافأة، مثل الفارس يقاتل راجلاً، فعليه أن يترجل مثله، أو يمهله حتى يجد فارساً يجول ويصول معه، وهكذا كانت شيمة العرب، الفارس لا ينازل إلا من كان عدلاً له
فتعجب الملك من أمرهم؛ وبينما هو على تلك الحالة إذ خرج إليه حبران من أحبار اليهود بالمدينة، وسألاه: أيها الملك! ماذا تريد؟
قال: أريد أن أنتقم لولدي وأستأصل أهل هذه القرية.
قالا له: إنك لن تسلَّط عليهم.
قال: ولماذا؟
قالا: إنها مهاجَر آخر نبي؛ أيهاجر إليها وهي خراب؟! ليس معقولاً.
ثم تكلما واستمع منهما، فوجد عندهما علماً، فاستأنس لهما وصدقهما.
فلما خاطباه وسمع كلامهما، ووجد عندهما علماً، اتعظ وتنازل عن دم ولده، وسأل أهل العلم، وهذا هو الواجب على الملوك والرؤساء والزعماء والقادة: أن يرجعوا إلى العلماء؛ لأن عندهم هدى ونوراً من الله، وهذان كانا على كتاب وعلى دين سماوي.
فقالا له: ارحل عنها، وابن بيتاً، فإذا جاء نبي ذلك الزمان لجأ إليه، فبنى بيتاً وكتب كتاباً.
فسواء كان اختيار المدينة من الأربعمائة الذين تبايعوا وتعاهدوا على البقاء ينتظرون، أو كان بسبب قتل ولد الملك، المهم أن الملك بنى بيتاً وكتب كتاباً ودفعه لكبير العلماء أو لواحد من أبناء هذين الحبرين.
وقالت الرواية الأولى: الأوس والخزرج من أبناء الأربعمائة.
وقالت الرواية الثانية: أبو أيوب من نسل كبير الأحبار الذين بقوا في المدينة.
فلما علم أن عندهما علماً قال: لابد أن تصحباني إلى بلادي اليمن، فامتنعا عليه، فقال: لا غنى لي عنكما، وأخذهما قسراً عليهما، فتبعاه.
وتتمةً للفائدة: فإن هذا الملك وهو في طريقه إلى مكة خرج عليه رجلان من هذيل، قالا: أيها الملك! إنك قادم على مكة، ونريد أن ندلك على كنز بها، إن أنت أخذته أغناك الدهر كله.
قال: وما هو؟
قالا: كنز في جوف بيت العرب. يعنيان: اهدم الكعبة وخذ الكنز.
فلما سمع ذلك دعا الحبرين وسألهما، قالا: أيها الملك! لقد أرادا هلاكك. غدراً بك، قال: ولأي شيء؟! قالا: إن هذا البيت هو البيت العتيق، أعتق من أيدي الجبابرة، ما تسلط عليه جبار إلا أهلكه الله، فأرادا لك الهلاك، وإذا أردت أن تعرف حقيقة الأمر فأظهر لهما إذا أتياك قبولك والموافقة واصحبهما معك إلى مكة حتى يشتركان في الهدم.
فلما وفدا عليه من الغد قال: جزاكما الله خيراً، دللتماني على كنز عظيم، ولا أريد أن آخذ الكنز وحدي، وحيث دللتماني عليه لابد أن تذهبا معي ونقتسم المال.
فقالا: لا نريد منه شيئاً، هو لك وحدك.
قال: عجيب! تدلاني على كنز ولا تريدان منه شيئاً، إذاً: الأمر فيه خيانة، وضرب أعناقهما.
ثم سأل الحبرين: ماذا تشيران عليَّ إذا أتيت البيت؟
قالا: تدخله متواضعاً لله وحده، وتكرم جيرانه، وتكسوه.
انظروا يا إخوان! هاهم أحبار اليهود، وهاهو ملك المجوس وثني وهو في طريقه إلى الإيمان يعظم البيت ويسمع نصيحة العلماء في زمنه، فيدخل مكة متواضعاً، ويعظم حرمة البيت، ويكرم جيرانه، ويكسو الكعبة.
وصدق الله العظيم: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:96-97].
فالبيت له رب يحميه من زمان قديم كما قال عبد المطلب: جئتك أطلبك إبلاً لي أخذه رجالك.
قال: قد كنتَ عظيماً في نظري والآن صغرت، جئت أهدم بيت عزك وشرفك ودينك، فتترك الكلام معي فيه وتكلمني في إبل؟!
قال: نعم. الإبل لي وأنا أطالب بها، أما البيت فله رب يحميه، لست أنا الذي أحميه.
وما أشبه الليلة بالبارحة! ينادون بإنقاذ الحرمين، وجهلوا وعميت بصائرهم عن واقع الحرمين، هل الحرمان مقفولان؟
الحرمان بلدان مفتوحان ليل نهار، والحرم في مكة مفتوح أربعاً وعشرين ساعة، والحرم في المدينة يُقفل ساعات من الليل، وما خلت الكعبة وقتاً من الأوقات من طائف لله، ففي كل وقت وفي كل أوان يأتيه رجال: وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] يطوفون ويسعون ويعتمرون.
ولكن إذا أراد الله فضيحة شخص جعل فضيحته من طريقه هو، والمسجد النبوي ما خلا من زائر أو مُصَلَّ من مسلم على رسول الله وصاحبيه.
لماذا هؤلاء الناس يأتون من جميع أقطار الإسلام، لماذا لا يوجد من قال كلمة ذم؟ بل العكس كلٌّ يعترف بالجميل، يرفع الواحد أكف الشكر لله أن يجد الحرمين في هذه النعمة، نسأل الله أن يديمها علينا وأن يتمها لنا.