أرشيف المقالات

الأمل وأثره في الحياة

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
الأمل وأثره في الحياة
 
الحمد لله الولي الحميد، المتفرد بالتوحيد والتمجيد، ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 14 - 16]، حمدًا يزيد النعم ويدافع النقم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، طيَّب قلوبَ المؤمنين بالتوكل الدائم عليه، ولا منجى منه إلا إليه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُالله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، أكثر الخلق بربه يقينًا، وأوفاهم لله إيمانًا، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومَن اتبع هداه إلى يوم الدين.
 
أما بعد:
فإن المتابع لأحوال بعض المجتمعات قد يرى ما لا يخفى على اللبيب إدراكه من المشكلات الاجتماعية؛ كوقوع الطلاق، وانحراف الكثير من الشباب، وقطع الأرحام، والبطالة، وغيرها من الصور، وقد ظهر في الأفق سحائب قنوط وعلائم يأس، فإذا بك لا ترى أحد اليائسين إلا مقطب الجبين، عاقد الحاجبين، مذهبه المحبط لكل مَن يسمعه يتجلى في قول من قال: إنك تؤذِّن في خرابة، وتنفخ في قربة مقطوعة، ولا أحد معك، ويرى مع ذلك أنه لا فائدة من السعي والعمل، وقد وقعت الواقعة، ولا مجال أبدًا للتعلق بالآمال؛ وقد وصف نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم هذه النفسية بقوله: ((إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلَكُهم))؛ [صحيح مسلم (2623) عن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه].
 
إن الأمل يجب أن يكون مِلءَ القلوب في هذه الأمة؛ ذلك أن الأمل هو روح الحياة، إنه يزود قلب المريض بالطمع في الشفاء، والغريب بالعودة إلى وطنه، والطالب بإدراك النجاح، والموظف بالترقي ونيل الدرجات، والتاجر بالكسب وتحقيق الأرباح.
 
لأنه باختصار: هو إكسير الحياة، فمن فقد الأمل، فكأنه فارق الحياة؛ ولهذا كان حُداء أهل الأمل هذا القول وهم يعيشون فصول الحياة:
يا قلب لا تقنع بشوك اليأس من بين الزهور
فوراء أوجاع الحياة عذوبة الأمل الجسور

وقد كان الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام على يقين ووعد صادق من الله تعالى ببلوغ الأمل، وإن فُقدت بين الناس أسبابه؛ فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام قد دفعه الأمل إلى طلب الذرية من الله تعالى، وكانت البشرى بإسماعيل عليه السلام؛ قال الله تعالى: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 100، 101]، وفي بشارة إسحاق عليه السلام نجد روائع الآمال العظام تعبق الأنفاس بغير سابق توقع؛ ولهذا فقد تعجبت السيدة سارة عليها السلام لما بشرتها الملائكة بأنها ستنجب بعد هذا العمر الطويل؛ قال تعالى: ﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [هود: 71 - 73]، ويلهمنا نبي الله زكريا عليه السلام درسًا بليغًا في باب الأمل، فقد دعا الله تعالى بما هو به سبحانه أعلم؛ أليس هو القائل: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾ [مريم: 4]؟ ولهذا لما جاءته البشرى وتحقق أمله، تعجَّب: ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ [مريم: 7، 8]، وقد كان الأمل هو الدافع عند نبي الله يعقوب عليه السلام بعد فَقْدِ ولديه، فلم يعرف القنوط، وكان يقول لأبنائه: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، وكان يقول آملًا: ﴿ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ [يوسف: 94]، وكان يعلل النفس بالأمل في الله تعالى قائلًا: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 83]، وقد بلغ المرض بنبي الله أيوب عليه السلام أنه عانى المرض أعوامًا طوالًا، وقد فقد مالَهُ وجلَّ أهله، لكنه لم يفقد الأمل في الله رب العالمين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84]، وعلى هذا فحينما يدكُّ المرضُ أوصالَ الأبدان، ويمسُّ المرضى بالأذى - فإن الأمل في الشفاء هو الذي يصبرهم على هذه اللأواء؛ فعن أسامة بن شريك رضي الله تعالى عنه قال: ((قالت الأعراب: يا رسول الله، ألا نتداوى؟ قال: نعم يا عباد الله، تداوَوا؛ فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاء - أو دواء - إلا داءً واحدًا، فقالوا: يا رسول الله، وما هو؟ قال: الهَرَمُ))؛ [سنن الترمذي (2038)، وقال: حسن صحيح].

 
ولما كان نبي الله يونس عليه السلام في ظلمات ثلاث، كان الأمل يدفع جَنانه ولسانه بدعاء ربه ليجيره مما هو فيه، ولم يتملكه الإحباط ولا اليأس؛ قال الله تعالى: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87، 88].

وقد ظل نبي الله نوح عليه السلام يدعو قومه لزمان طويل، ومع ذلك لم يؤمن معه إلا قليل، ولم يفقد الأمل، وظلَّ متشبثًا بوعد الله تعالى له؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 14].

أبواب الأمل مشرعة على الدوام:
وقد فتح القرآن الكريم والسنة المطهرة بابَ الأمل على مصراعيه لكل راغب في الخير أو هارب من الشر، ومهَّد الطريق من جديد لمن زلَّت به قدمه وأسرف في المعصية مهما بلغت ذنوبه، ودعاه إلى رياض الرحمة وطلبها بالتوبة؛ فقال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنانَ السماء ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مغفرةً))؛ [ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (2/ 400)، وقال: إسناده لا بأس به، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه]، فلا تزال الفرصة سانحة للمغفرة من سوابق الذنوب، ما دام الإنسان لم ينزل به مرض الموت.
 
وكيف يفقد المؤمنون الأملَ وهم مؤيَّدون بالبشرى الربانية بالتمكين والنصر والعون؟ قال الله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]، إنه وعد يثير الهمم، ويحرك المشاعر، ويملأ الصدور ثقة بأن الدور لنا لا علينا؛ ﴿ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ﴾ [الصافات: 172]، وسواء أطال الزمان أم قصر؛ فإن الله بالغ أمره ومحقق وعده؛ وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))؛ [صحيح مسلم (1920)]، وعن تميم الداري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليبلغنَّ هذا الأمر مبلغَ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله هذا الدين بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل، يعزُّ بعزِّ الله في الإسلام، ويذل به في الكفر ...))؛ [مستدرك الحاكم (5/ 615)، وقال: صحيح على شرط الشيخين].
 
ويبقى واجب النفوس هو استشراف المستقبل بعين الأمل في فضل المولى العظيم مهما كان الواقع مرهقًا، حتى في مجرد تصوره، وهذا درس بليغ من نبينا الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان ينقل أصحابه نقلةً روحيةً تهب عقولهم ونفوسهم رياض الأمل؛ فعن خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه قال: ((شكَونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بردةً له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه - فما يصده ذلك عن دينه، والله لَيَتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))؛ [صحيح البخاري (6943)]، إن لدينا وعدًا بنصر الله، ووعد الله تعالى لا يتخلف؛ قال تعالى: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 6]، وعن أبيِّ بن كعب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بشر هذه الأمة بالنصر والسَّناء والتمكين، فمن عمِلَ منهم عَمَلَ الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب))؛ [صحيح ابن حبان (405)]، فليكن حداء المسلم وهو على طريقه لإدراك المجد لأمته:
نفسي برغم الحادثات أبيةٌ *** عُودي على رغم الكوارث مورقُ

وآية الآيات في هذه الأمة وهذا الدين أنه أشد ما يكون قوةً، وأصلب عودًا، وأعظم ما يكون شموخًا ورسوخًا - حينما تنزل بساحته الأزمات، حينئذٍ ينبعث الجثمان الهامد، يتدفق الدم في عروق أبنائه، فإذا النائم يصحو، وإذا الغافل يفيق، وإذا الجبان يتشجع، وإذا الضعيف يقوى، إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت، وتغفو لكنها لا تنام، وتخبو لكنها لا تنطفئ أبدًا، لقد مرت على الأمة مراحل ضعف ظنَّ خلالها المتشائمون أن النهاية قد حلَّت، وأن لا عودةَ للمجد وقد حقت علينا الهزيمة؛ فحينما غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم، ﴿ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذاريات: 42]، دمروا المدن، وخربوا العمران، وعطلوا الصلوات، وألقَوا أسفار الكتب في نهر دجلة حتى اسودَّ ماؤه من كثرة ما سال من مداد الكتب، وحتى أحجم بعض المعاصرين للحدث عن الكتابة فيه؛ منهم ابن الأثير رحمه الله الذي يقول: "ليت أمي لم تلدني، ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا"، ولم يمضِ إلا سنوات، فإذا بهؤلاء يدخلون في دين المغلوبين على خلاف ما هو معروف من أن المغلوب مولع بتقليد المنصور، ﴿ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 4، 5].
 
إن الدواء ليس في بكاء الأطلال وندب الحظوظ، وإنما يكون في الترفع على الواقع، ومحاولات تحويل عوامل الضعف إلى القوة بإذن الله.
♦     ♦     ♦

ولكن مع حرصنا على استصحاب الأمل في رحلة الحياة، علينا كذلك أن نحذر الآمال الكاذبة أو الآمال الرخيصة، ويجمعها داء الاستكثار من الحطام الدنيوي، والعلو المؤقت في هذه العاجلة، مع نسيان الآخرة والعمل لها؛ فقد ورد الأمل في كتاب الله تعالى مرتين فقط؛ واحدة على المدح، والأخرى على الذم؛ ففي الأمل الممدوح قال الله تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46]، وكأن القرآن الكريم يغمض ذكر المال وما والاه من الحطام الدنيوي الزائل، ثم يصف الباقيات الصالحات بأنها من خير الآمال، فيدعونا لأجلِّ الأعمال، والآية الأخرى التي ذُكر فيها الأمل في القرآن الكريم ففي قول الله تعالى: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3]، فالأمل المقارن للشهوات والشبهات والتوغل في المحرمات أملٌ مذموم، وعلى العموم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن الأجل يقطع الأمل؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم غرز عودًا بين يديه، وآخر إلى جنبه، وآخر أبعد منه، فقال: هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا الإنسان، وهذا الأجل، أراه قال: وهذا الأمل، فيتعاطى الأمل، فلحِقَهُ الأجل دون الأمل))؛ [ابن حجر العسقلاني في تخريج مشكاة المصابيح (5/ 45)، وقال: إسناده جيد].
 
ذم اليأس وتنبيه اليائسين:
إن المؤمن لا يعرف اليأس ولا يفقد الرجاء ما دامت فيه عينٌ تطرف، ولا شك أنه بقدر ما يفقد الأمل يفقد الإيمان؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، وما رضيَ اللهُ تعالى اليأسَ حتى لأنبيائه؛ قال الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110]، وقد كانت طاقة الأمل في قلب النبي الكريم صلى الله عليه ليس لها حدود، ولا يعرف اليأس له سبيلًا، خصوصًا عندما ادلهمت عليه خطوب الزمان، وتناوشته أيدي البغي والكفر، وحاولوا أن يثنوه عن رسالته وبلاغها، فلم تَلِنْ له مع المبطلين قناةٌ، وكان أمله في ربه الكريم يملأ الرحاب، ويحيل أحزان الحياة إلى بشريات حسان.
 
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يمنح الأمل لكل يائس؛ فعن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده، قال له: لا بأس، طهورٌ إن شاء الله، قال - يعني: الأعرابي - طهور؟ كلا، بل هي حمى تفور - أو تثور - على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فنعم إذًا))؛ [صحيح البخاري (5656)].
 
وصدق من قال:
اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه *** لا تيأسنَّ فإن الخالق اللهُ
 
وفي الختام:
يجب على المؤمن أن يكون واثقًا بنفسه وبدينه وبوعد الله له، إن مرت به محنة اعتبرها دليل حياة وحركة؛ فإن الميت الهامد لا يُضرب ولا يُؤذى، وإنما يضرب ويؤذى الحيُّ المتحرك المقاوم.
 
إن الوصول إلى القمة ليس هو الأهم، لكن البقاء فيها، والانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة، لكن الكارثة هو الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع أبدًا، وظلام الدنيا كله ليس في مقدوره أن يطفئ شمعة الأمل ما دام القلب مفعمًا بالإيمان.
 
فسجِّل اسمك في ديوان أهل الأمل، واجعله رائدك ودليلك، وسيأخذك دومًا إلى الرضا والسلام وتحقيق الأمجاد العظام.
نسأل الله تعالى أن يهبنا روح الأمل، وأن يرزقنا حسن العمل وحسن التوكل عليه.
والحمد لله في المبدأ والختام.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢