تفسير الربع الأول من سورة يوسف كاملا بأسلوب بسيط
مدة
قراءة المادة :
18 دقائق
.
سلسلة كيف نفهم القرآن؟[1]تفسير الربع الأول من سورة يوسف كاملا بأسلوب بسيط
• الآية 1: ﴿الر﴾ سَبَقَ الكلام عن الحروف المُقطَّعة في أول سورة البقرة.
﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ أي: هذه هي آياتُ الكتاب الواضح في مَعانيهِ وهُداه، وحلاله وحرامه.
• الآية 2: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ﴾ - أيها العَرَب - ﴿تَعْقِلُونَ﴾ أي تَعقلونَ مَعانيه وتَفهمونها، وتَعملونَ بهَدْيِه.
• الآية 3: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ - أيها الرسول - ﴿أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ يعني أصَحّ القصص وأصْدَقه، وأنْفَعَهُ وأجْمَلَه، وذلك﴿بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ أي بواسطة وَحْيِنا إليك ﴿هَذَا الْقُرْآَنَ﴾-لأنّ هذه القصص تكونُ عن طريق الوحي - ﴿وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ يعني:وقد كنتَ - قبلَ إنزال القرآن عليك - من الغافلين عن هذه الأخبار، لا تَدري عنها شيئًا.
• الآية 4: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ﴾ أي اذكر - أيها الرسول - لقومك قَوْلَ يوسف لأبيه يعقوب: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ﴾ في المنام ﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ (فكانت هذه الرؤيا بُشرَى لِمَا وَصَلَ إليه يوسف عليه السلام مِن عُلُوِّ المَنزلة في الدنيا والآخرة).
• الآية 5: ﴿قَالَ﴾ يَعقوب لابنه يوسف: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ﴾ - وقد كانوا إخوته مِن أبيه، ولَيسوا أشِقَّاء له - ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ أي فيَحسدوك ويُعادوك، ويَسعوا في إهلاكك، ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أي عداوته ظاهرة للإنسان.
• الآية 6: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ يعني: وكما أراكَ ربك هذه الرؤيا، فكذلك يَصطفيك ويَختارك﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ أي يُعَلِّمك تفسير ما يَراهُ الناسُ في مَنامهم، ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ﴾ بالنُبُوَّة والرسالة ﴿كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ﴾ بمَن يَستحق الاصطفاء والاختيار من عباده، ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبير أمور خَلقه.
• الآية 7: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ﴾أي في قصة يوسف﴿وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ﴾ أي أدلة تدل على قدرة اللهِ وحِكمته، وفيها عِبَرٌ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾ الذين يَسألون عن أخبارهم، ويَرغبون في مَعرفتها.
• الآية 8، والآية 9: ﴿إِذْ قَالُوا﴾ أي اذكُر حين قال إخوة يوسف فيما بينهم: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ﴾:يعني إنّ يوسف وأخاه الشقيق "بِنيامين"﴿أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾، لأنه يُفضِّلهما علينا ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾: أي ونحن جماعة (وكان عددهم تسعة) فكيف يُفَضِّل الاثنين على التسعة؟! ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾: يعني إنّ أبانا لَفي خطأٍ واضح، حيثُ فضَّلهما علينا من غير سبب، إذاً فـ ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ ﴿أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾ يعني أو ألقوا به في أرض مجهولة بعيدة عن العُمران، وبذلك ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾: أي يَخلُص لكم حُبّ أبيكم وإقباله عليكم، ولا يَلتفت عنكم إلى غيركم ﴿وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ﴾ - أي مِنْ بعد قَتْل يوسف أو إبعاده - ﴿قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ تائبينَ إلى الله، مُستغفرينَ له مِن ذنبكم، (وفي هذا دليل على أنّ إظهار المَيل إلى أحد الأبناء بالحب، يُورثُ العداوة بين الإِخوة).
• الآية 10: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ - لأنّ القتل جريمة فظيعة - ﴿وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ﴾ يعني: وألقوه في جَوف البئر:﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ أي يَلتقطه بعض المارَّة مِن المُسافرين فتستريحوا منه، هذا ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾: يعني إن كنتم فاعلينَ شيئاً تجاه أخيكم، فهذا أفضل الطرق لذلك.
• الآية 11، والآية 12: ﴿قَالُوا﴾ لأبيهم - بعد اتفاقهم على إبعاد يوسف -: ﴿يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ﴾ مع أنه أخونا، ونحن نريد له الخير، ونخاف عليه ونَرعاه، ﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ يعني: ونحن نَخُصُّهُ بخالص النصيحة؟، ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا﴾ عندما نخرج إلى مَراعِينا﴿يَرْتَعْ﴾: أي يَنشط ويفرح، ﴿وَيَلْعَبْ﴾ بالتسابق وغير ذلك من اللعب المُباح، ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ مِن كل ما تخافُ عليه.
• الآية 13: ﴿قَالَ﴾ لهم يعقوب عليه السلام: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ﴾: يعني إني لَيُؤلم نفسي مُفارقته إذا ذهبتم به إلى المراعي، ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ يعني وأنتم مُنشغلون عنه في مَراعيكم.
• الآية 14، والآية 15: ﴿قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ أي ونحن جماعة قوية:﴿إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ أي لا خيرَ فينا.
♦ فأرْسَلَهُ أبوهم معهم ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ ﴿وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ﴾ يعني: وأجمَعوا على إلقائه في جَوف البئر، ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ أي: وأعْلَمَ اللهُ يوسفَ بطريقٍ خَفِيٍّ سريع: ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا﴾: أي سوف تُخبر إخوتك مُستقبَلاً بما فعلوه بك، ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أننا أوحينا إليه بذلك (وفي هذا بِشارةٌ له بأنه سيَنجو مِمّا وقع فيه).
♦ وقد قال بعض المُفسرين في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أي لن يَعرفوا - حينما تُعاتبهم - أنك أخوهم، وذلك إخبارٌ بما وقع بعد سنين، مِمّا حَكاهُ اللهُ في هذه السورة بقوله: ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾.
• الآية 16: ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً﴾ أي في وقت العِشاء - مِن أول الليل - ﴿يَبْكُونَ﴾ ويُظهِرون الأسف والخوف.
• الآية 17: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ﴾ أي نَتسابق في الجَرْي والرمْي بالسهام، ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا﴾ أي عند طعامنا وثيابنا، وما فارقناه إلا وقتًا قليلاً ﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ يعني: وما أنت بمُصَدِّقٍ لنا﴿وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ أي: ولو كنا مَوصوفين بالصدق، وذلك لشدة حُبِّك ليوسف.
• الآية 18: ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ أي: وجاؤوا بقميصه مُلَطَّخًا بِدَمٍ غير دَم يوسف، (وقد قيل إنهم - بعد أنْ ألقوا يوسف في البئر - ذبحوا حيواناً صغيراً يُشبه الماعز ولَطَّخُوا بِدَمِه قميص يوسف، واللهُ أعلم)، فـ﴿قَالَ﴾ لهم يعقوب عليه السلام: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ أي: ليس الأمر كما تقولون، ولكنْ زيَّنت لكم أنفسكم الأمَّارة بالسُوء أمرًا قبيحًا في يوسف، فرأيتموه حَسَنًا وفعلتموه، ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ أي: فصَبْري صَبْرٌ جميل، لا تَسَخُّطَ فيه، ولا شكوى معه لأحدٍ من الخَلق ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ أي: وأستعينُ باللهِ لِيُصَبِّرَني على تَحَمُّل هذا الوصف الكاذب الذي تَحكونه لي.
♦ وإنما فَوَّضَ يعقوب عليه السّلام الأمْرَ إلى اللهِ تعالى، ولم يَسْعَ للكشف عن مَصير يوسف، لأنه عَلِمَ بصعوبة ذلك لِكِبَر سِنِّه، ولأنه لم يكن له أحد يَستعين به على أبنائه، وقد صاروا هم الساعينَ في البُعد بينه وبين يوسف، فيَئِسَ مِن ذلك، وفَضَّلَ الصبر الجميل.
♦ الآية 19، والآية 20، والآية 21: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾ يعني: وجاءت جماعة من المسافرين (وكانوا ذاهبين إلى مصر)، ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾: أي فأرسلوا مَن يأتي إليهم ببعض الماء، ﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾: أي فلمَّا أرسلَ الوارد دَلْوَهُ في البئر: تَعَلَّقَ بها يوسف، فـ﴿قَالَ﴾ الوارد: ﴿يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾ يعني: يا بُشرايَ هذا غلامٌ عظيمُ القيمة، ﴿وَأَسَرُّوهُ﴾ يعني: وأخفى الواردُ - وأصحابه - يوسفَ مِن بقية المسافرين فلم يُظهِروهُ لهم، حتى لا يُطالبوهم بالاشتراك معهم في ثَمَنه(بعد أن يَبيعوه)، وأمَّا قوله تعالى: ﴿بِضَاعَةً﴾ يعني إنهم قالوا لهم: (هذه بضاعة، وقد طلب مِنَّا أصحاب الماء أن نوصلها إلى صاحبها بمصر)، ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ يعني: واللهُ عليمٌ بما يَعملونه بيوسف.
♦ وقد كان إخوة يوسف يَترددون على البئر ليَعرفوا مَصير أخيهم، فلمَّا رأوه بأيدي الوارد ورِفاقه، قالوا لهم: (هذا عَبدٌ لنا كثير الهرب، وإن أردتم شراءَهُ بِعْنَاه لكم)، فقالوا لهم: (ذاكَ الذي نريد)، فبَاعوه لهم بثَمَنٍ قليل، ولهذا قال تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ أي: وباعه إخوته لهؤلاء المسافرين بثَمَنٍ قليل: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾،﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ أي: وكان إخوته زاهدينَ فيه، راغبينَ في التخلص منه، لأنهم لا يَعلمون مَنزلته عند اللهِ تعالى.
♦ ولمَّا ذهب المسافرون بيوسف إلى "مصر" اشتراه منهم أحد وزرائها، ﴿وَقَالَ﴾ هذا الوزير﴿الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ أي أحسِني معاملته، وأكرِمي إقامته عندنا، ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾: أي لعلنا نستفيدُ مِن خِدمته، ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾: يعني أو نُقيمه عندنا مقام الولد (وقد قال ذلك لأنه لم يكن له ولد).
﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: وكما أنجينا يوسف من البئر، وكما يَسَّرْنا له أن يَشتريه عزيز "مصر" - وهو الوزير - وجعلناهُ يَعْطِف عليه، فكذلك جعلنا هذا مُقدِّمَةً لتمكينه في أرض "مصر" مِن هذا الطريق، ليَكون على خزائنها - فيما بعد - يَحكمها بالعدل والرحمة، ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ أي: وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تفسير الرؤى فيَعرف ما سيَقع منها مُستقبَلاً (ولعل اللهَ تعالى رَبَطَ عِلم التأويل ببيت العزيز، لأنّ يوسف عليه السلام سيَبقى في هذا المكان مُتَفرغاً للتفكر والتعمق في هذا العِلم - الذي وهبه اللهُ له - ليَزداد بذلك عِلماً، مِمّا سيَكونُ سبباً لتمكينه في الأرض عندما يُفَسِّر رؤيا المَلِك)، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ (فإذا أرادَ سبحانه شيئاً، قال له كُن فيكون، ولا أحد يَستطيع أن يَمنع حدوث ما يُريده اللهُ تعالى)، فإنّ الإنسانَ لو تأمَّلَ الأمرَ لَتَعَجَّب: كيف لِغُلامٍ صغير مُلقَى في بئر، أن يَجعله اللهُ فيما بعد على خزائن الأرض؟!، ولكنّ اللهَ تعالى يَفعل ما يريد ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أنّ الأمرَ كله بيد اللهِ.
♦ وفي هذا تصبير للرسول صلى الله عليه وسلم على ما يَجد مِن أذَى أقربائه له، إذ يوسف عليه السلام قد أصابه الأذى من أخوته الذين هم أقرب الناس إليه بعد والديه.
♦ الآية 22: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ يعني: ولمَّا وَصَلَ يوسف إلى مُنتهى قوته في شبابه: ﴿آَتَيْنَاهُ حُكْمًا﴾ أي عَلَّمناهُ كيف يَحكم بين الناس، ﴿وَعِلْمًا﴾ وهو الفقه في الدين، ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾يعني: ومِثل هذا العطاء الذي جَزَينا به يوسف على إحسانه، نُعطي المحسنين عِلماً نافعاً جزاءً على إحسانهم، كما قال تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ أي عِلماً ونوراً تُفرِّقون بهِ بين الحق والباطل، والهُدى والضلال، والسُنَّة والبِدعة، والحلال والحرام.
♦ الآية 23: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾ يعني: وحاولت امرأة العزيز فتنة يوسف، لِحُبِّها الشديد له وحُسن بَهائه، ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ - يعني إنها دَعَتهُ إلى فاحشة الزنا والعِياذُ بالله -،فـ ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ﴾ أي أعتصم باللهِ تعالى مِن فِعل الفاحشة، وأستجيرُ به مِن خيانة سيدي ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾: يعني إنه سيدي الذي أحْسَنَ إقامتي في بيته، فلا أخونه في أهله، (وفي نفس الوقت فإنَّ سيده الحق (اللهُ جَلَّ جلاله) قد أكرمه بما سَخّر له من الأمور، فكيف يَخونه فيما حَرَّمَ عليه؟﴾، (واعلم أنهم كانوا يقولون للسيد المالك لفظ: (الرب)، كما نقول: رب البيت﴾، ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾: يعني إنّ مَن تجاوز حدَّهُ لا يُفلِحُ أبداً.
♦ الآية 24: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ أي: ولقد مالت نفسها لفِعل الفاحشة، ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ يعني: وحدَّثتْ يوسفَ نفسُه للاستجابة (لأنه بَشَرٌ وليس مَلَكاً)، واعلم أنّ الهَمّ هو خَطرات النفس وليس العمل، والدليل على ذلك قول اللهِ تعالى في الحديث القدسي - كما في الصحيحين -: (مَن هَمَّ بحَسنةٍ فلم يَعملها، كُتِبَتْ له حَسنة).
♦ وقوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾: يعني لولا أنه رأى آية من آيات ربه تنهاه عمَّا حَدَّثَتْهُ به نفسه (وذلك لأنه اعتصم بربه - في بداية الأمر - قائلاً: مَعاذَ الله، فنَجَّاه الله)، ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ﴾ يعني: وإنما أريناه ذلك البرهان لنصرف عنه ﴿السُّوءَ﴾ وهو كل ما يَسُوء الإنسان، ﴿وَالْفَحْشَاءَ﴾ وهي الوقوع في جريمة الزنا ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ أي المُختارينَ للرسالة، الذين استخلصناهم لطاعتنا ومَحبتنا، فلا نَرضى لهم أن يَتلوثوا بالذنوب والمعاصي، (واعلم أنّ ذلك يَتضمن أيضاً أنّ يوسف عليه السلام كان يُخلِص عمله لله، فلذلك خَلَّصَهُ اللهُ من السُوء والفحشاء).
♦ وقد قال بعض المُفسرين في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ أي أرادت أن تضربه عندما امتنع، ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ ليُدافع عن نفسه ويَضربها، ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ أي لولا أنّ اللهَ ألْهَمَهُ أنّ الخير في عدم ضَرْبها، ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ﴾ وهو ضَرْبها، ﴿وَالْفَحْشَاءَ﴾ وهي الزنا.
- الآية 25:﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾ يعني: وأسرع يوسف إلى الباب يريد الخروج، وأسرعتْ ورائه تحاول الإمساك به، ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ﴾ أي: وجَذبتْ قميصه مِن خلفه - لتمنعه عن الخروج - فقطعتْ القميص.
♦ وفتح يوسف الباب ليَهرب منها، ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾ أي: ووجدا زوجها عند الباب (وكانوا يُطلِقون على الزوج لفظ (السيد) لأنه يَملك المرأة﴾، فـ﴿قَالَتْ﴾ لزوجها:﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا﴾ يعني: ما جزاء مَن أرادَ بامرأتك فاحشة﴿إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ﴾﴿أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يعني أو يُعَذَّب عذاباً شديداً.
♦ الآية 26، والآية 27: ﴿قَالَ﴾ يوسف: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾: يعني هي التي طلبتْ مِنِّي ذلك.
♦ والظاهر أنه كان مع العزيز رجل من أهل امرأته، أو أنه استدعاه ليَحكم بينهما، قال تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا﴾ فقال: ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ﴾: يعني إن كان قميصه قُطِعَ من الأمام: ﴿فَصَدَقَتْ﴾ في اتِّهامها له ﴿وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فيما دافَعَ به عن نفسه،﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ﴾: يعني وإن كان قميصه قُطِعَ من الخلف:﴿فَكَذَبَتْ﴾ في قولها ﴿وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
♦ الآية 28، والآية 29: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ﴾: أي فلمَّا رأى الزوجُ قميصَ يوسف قد قُطِعَ من خلفه: عَلِمَ براءة يوسف، و ﴿قَالَ﴾ لزوجته: ﴿إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ﴾: يعني إنّ هذا الكذب الذي اتَّهمتي به هذا الشاب هو مِن جُملة مَكْرِكُنَّ - أيتها النساء - ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾، ثم قال ليوسف: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ أي اترك ذِكْرَ ما كان منها فلا تَذكره لأحد، ﴿وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾: أي اطلبي - أيتها المرأة - مِن زوجك العفو عن ذنبك؛ حتى لا يُؤاخِذَكِ به ﴿إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ فيما فَعَلتي، وفي افترائك على يوسف.
[1] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: "أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.