وأقول نعم! - محمود محمد شاكر
مدة
قراءة المادة :
19 دقائق
.
لعلَّ القارئَ كان يتوقَّع أن يرى عنوانَ هذه الكلمة كما قَرأَه فيما أعلنتْه "الرسالة" في العدد السالف: "أباطيل وأسمار"، ولكنَّ المرء لا يستطيعُ أن يَخرج من وعْكةِ الحمَّى بإرادته، كما لا يستطيعُ الناسُ في بلاد العَرَب والمسلمين أن يخرجوا بإرادتهم مِن هبوةِ الوباء المنتشر في صحيفة الأهرام، وقد وعدت "الرِّسالة" قُرَّاءَها في الأسبوع الماضي أنِّي سوْفَ أُتابِع سلسلةَ مقالاتي بها ابتداءً مِن هذا العدد، فأحببتُ أن أُصدِّق بعضَ كلمتها بالكتابة في حاشية من حواشي السِّلْسلة، ما دمتُ غيرَ قادر على أن أُصدِّقَ كلمتَها كلَّها في هذا الأسبوع شاكرًا لها ولقرَّائِها ما لقيتُ من مشاركة ومواساة.
يقول أحمد عرابي في حديثه عمَّا لَقِيَ في سِجنِه بعدَ هزيمته: "وبعد ساعة جاء ليزورني "بشارة تقلا"، مُحرِّر جريدة الأهرام، وظننتُ أنَّه قَدِم ليعزيَني، ويُبديَ عواطفَه نحوي، وقد كان ممَّن يَدينون بمبدئِنا قبلَ الحرب، وقد أقسم بدِينه وشرفه أنَّه واحدٌ منَّا، وأنَّه يعمل لحرية وطننا، وقد عددناه في الحق من الوطنيِّين، ولكنَّه لَمَّا دخل عليَّ توقَّح أشدَّ التوقُّح، ثم قال: أي عرابي، ماذا صنعت؟ وماذا حلَّ بك؟ ورأيتُ أنَّ الرجل خائنٌ ولا شَرفَ له"، هكذا روى عرابي بأدبِه الجمِّ، ولكن يقول بعضُ الناس من الثِّقات: إنَّ "بشارة تقلا" بَصَق في وجهه، شامتًا وطالبًا لشفاءِ ما في صدره!
والظاهر أنَّ "بشارة تقلا" هذا قد عاد حيًّا مَرَّة أخرى، واستوى في صحيفةِ الأهرام يُحرِّرها ويُديرها بمكرِه وكيده وغِشِّه، كما كان يفعل في زمن عرابي، وبعدَ زمنِ عرابي، فإلاَّ يكنْ قد عاد فقدْ قام مقامَه المستشارُ الثقافيُّ لصحيفة الأهرام، حيث عاد بعدَ غَيبةٍ وقامت قيامتُه! عاد المستشار في يوم الجُمُعة حاملاً معه الساعةَ المشهورة عندَ العامة، ونافثًا جراثيمَه المعهودة.
وإذا كان الشاعر "بدر شاكر السيَّاب" الذي بدأ بالكتابة عنه، قد ابتُلي -كما يقول-: "دون أكثرِ الشُّعراء بداءَين عجيبَين غامضَين، وَبِيلَيْن مبرِّحَيْن في وقت واحد، هما داء العِظام الذي رُمِي به في جَسدِه، وداء الشِّعر الذي يَرمِي به أرواحَ عامَّة الشعراء!".
(وهذا شيءٌ غثٌّ مكتوب بفن)، فقد ابْتُلي المستشار الثقافي بدائَيْن أخبثَ من هذين الداءين في وقت واحد، وهما: الحِقدُ الدفين الذي لا تهدأُ مِدَّته، والمكرُ السُّوقي المبتذل الذي يجلب الغثيان، وإذا كان "بشارة تقلا" كان يتظاهر بأنَّه يعمل لحرية وطنِنا، ويُقسِم على ذلك بدِينه وشرفه، فالمستشارُ الثقافيُّ أيضًا يتظاهرُ بتمام الحب ِّ للأدب والوطن، وبالحِرْص على رفعتهما، ولكنَّه في الحقيقة لا يفعل إلاَّ ما فعل "بشارة تقلا" بعدَ قَسمِه بدِينه وشرفِه، من التوقُّح على مجاهِد عربيٍّ صادق، باللَّفظ القبيح، والفِعْل المستشنَع.
ونحن لا نسأل صحيفةَ الأهرام: لِمَ عاد؟ لأنَّا نعلم أنَّه لم يغبْ عن العمل، فإنَّ آثارَه ظلَّتْ باقيةً طولَ هذه المدة، فلا تكاد الصحيفة تخلو مِن دلالة على وجوده، وعلى رقابته التامَّة على المادَّة الثقافيَّة التي ترفع قدرَ صحيفة الأهرام بما تتضمَّن مِن العِلم والدِّقة والأمانة!
وإذا كان هذا المستشار قد غاب، فكيف كان يمكن أن تَنشرَ صحيفة الأهرام خمسةَ أعمدة في الثناء على كتاب عظيم القدر جدًّا، يُعدُّ فتحًا من الفتوح، وإن كانت صفحاتُه لا تَزيد على الستِّين!
ومحصَّل ما كتبه كاتبُه من إنشائه في هذا الكتاب لا يَزيد على عمود أو عمودين في الأهرام!
كيف يتمُّ هذا، إلاَّ إذا كان هذا المستشارُ حاضرًا بمستشاريته؟!
ثم تسأل بعد ذلك، لِمَ هذا؟ ومَن الذي كتب هذا؟
ومَن الذي أبَتْ عليه أمانتُه أن يُضيِّع على صحيفة الأهرام السبقَ إلى التنويه بهذا الكتاب الخالد؟ فيقال لك: إنَّه المستشار وأعوانه بلا ريب!
وإذا كان المستشار قد غاب، فكيف كان يمكن -مثلاً- أن يُنشر تحقيقٌ صحفيٌّ يملأ صحيفة، وفيه مِن المعلومات الوثيقة عن المخطوطات العربية -لا الإنجليزية أو البيزنطية- هذا القدر الهائل من التحقيق عن الكتب، وأسمائها، وأسماء مؤلفيها؟
وحسبُكَ من التحقيق -مثلاً- أنَّ صحيفة الأهرام الخاضعة للمستشار الثقافيِّ الجليل القدر، قد عَرَّفَتْنا أنَّه كان يوجد رجلٌ عربيٌّ يقال له "ابن السكِّيت" ألَّف كتابًا مهمًّا في عِلم "المنطق"! (كتاب: إصلاح المنطق؛ لابن السكيت كتاب في اللغة).
وإذا غاب المستشار الثقافيُّ؛ فليت شِعري مَن كان يستطيع أن يُمِدَّنا بمِثلِ هذه المادة من المعارِف، وأنْ يرفع قدرَ صحيفة الأهرام، بهذه الفرائد البهيَّة! التي تَحسُدها على مثلِها سائرُ الصُّحف؟!
ولكن ما لنا ولهذا، فإنَّ الله الذي أنبتَ في الأرض العُشْب، خَلَق له مِن خَلْقه ما شاء!
ونعود إلى المستشار الذي بدأ مقالاتِه عن "بدر شاكر السيَّاب" متنفِّخًا كعادته، ثم موزِّعًا الصَّدقات على فُقراء أهل العِلم الواقفين ببابه -كما يتوهَّم هو بالطبع- فيُكرِّم رجاءَ النقاش، وأحمد عبد المعطي حجازي بذِكْرهما في صدر مقالته؛ ليصفَ الأوَّل بأنَّه "الناقد الشاب"، وليقف من الثاني موقفَ المعلِّم العظيم الذي يُكفْكِف من غلوائه، وينهاه عن الإسراف.
ولا يفعل كلَّ ذلك إلاَّ بأنَّه يَعُدُّ نفسَه مَرجِعًا يُصار إليه، ومجرِّبًا عظيمًا قد صار إلى ما قال الفرزدق: "أَحْلاَمُنَا تَزِنُ الْجِبَالَ رَزَانَةً"!
ثم يبدأ هذا المسكينُ المستشار في بثِّ أحقادِه التي استودعها "بلوتولند"، ولكن يتعالَى ويتشامخ، ويضرب بهامته رأسَ جبل الأوليمب، ويَسْخر مِن شِعر بدر شاكر السيَّاب الذي الْتزَم فيه نهجَ الشِّعر المألوف، قبلَ أن يبدأَ في التحوُّل! ويأخذ يملأ فمَه بالقدماء -مقلِّدًا الدكتور طه بطبيعة الحال؛ لأنَّه إنسان لا أصالةَ فيه إطلاقًا-.
فيقول: "بلاغة القدماء" "موسيقى القدماء"، وتدور حلقة الذِّكْر، من أوَّل المقال إلى آخرِه على النَّفْثِ المتواصل في تحقير لُغة العرب، وشِعر كلِّ شاعر الْتزم بعضَ الالتزام بالعبارة الصحيحة الخالية من رَكاكةِ بعض الكتب المشهورة، ولكنَّه لا يُفصِح عن نفسه كلَّ الإفصاح، ولا يُنفِّس عنها كلَّ التنفيس، إلاَّ في أوَّل المقالة الثانية، حيث يبدأ في استعمال الألْفاظِ التي لا تنبعُ إلاَّ مِن عندِ مثله؛ كقوله: "بعد عشرين عامًا قضتْها مدرسةُ المهجر، ومدرسة أبولو، في مكافحة شوقي وحافظ، والكلاسيكية العربية"، وبالطبع هذا غثٌّ، ولا يُعْنَى بالكلاسيكية العربية سوى الآثارِ الخالدة على وجه الدَّهْر برغم أنفِه، وأنف العالَم المسيحي الأوروبي كلِّه، وأولها كتابُ الله الذي أنزلَه الله؛ إعجازًا للجِنِّ والإنس جميعًا.
ولا يكاد يمضي قليلاً حتى يكشفَ عن دفين حِقدِه الذي كان قد استودَعَه "بلوتولند"، فيذَكُر الفترةَ التي عاش فيها جيلُ السيَّاب في صدر شبابهم، فيقول: "فلم يكن بُدٌّ من أن يتأثَّر تكوينُهم الفنيُّ بهذا القلق الأعظم، فتمرَّدوا على الفنِّ الموروث صورةً ومادَّةً، ولم يكن أمامَهم إلاَّ معمارُ شوقي والكلاسيكيِّين من ناحية، وأحلام علي محمود طه والرومانسيِّين من ناحية أخرى، لم يكن أمامَهم إلاَّ: "رَمَى الْقَضَاءُ بِعَيْنَيْ جُؤْذَرٍ أَسَدًا".
ثم يقول أيضًا: فإذا ما الْتفَتوا إلى الكلاسيكية العربية الأصيلة، وَجَدوا مَن يقول لهم: "السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ" دون أن يقول لهم: كيف؟ ولماذا؟
وهل هذا حقٌّ في شريعة الأخلاق ، أم هو قَدَرٌ أسيف، كُتِب على بني الإنسان منذ عهد قابيل؟
وما الرأي في كلِّ هذا البارود الذي لطَّخ وجهَ الأرض بين (1939-1945)م، فإذا ما الْتَفَتُوا إلى الرومانسيَّة العربية الأصيلة، وَجَدوا مَن يقول لهم: "لَمْ يَكُنْ وَصْلُكَ إلاَّ حُلُمًا فِي الْكَرَى أَوْ خِلْسَةَ الْمُخْتَلِسِ" وهو شيءٌ لا يَقرؤون له نظيرًا في البلاغات الحربيَّة التي كانوا يُطالعونها كلَّ يوم! ولا..."، ويعطف على ذلك هلوساتٍ كثيرةً.
وفي هذا الذي نقلتُ كفايةٌ، وفوق الكفاية، لِمَن يعرف كيف يُميِّز طبائعَ الكتَّاب؛ ولكن المهم أنَّ "رَمَى الْقَضَاءُ بِعَيْنَيْ جُؤْذَرٍ أَسَدًا" الذي ذَكَره هنا، وذكره في "بلوتولند" أيضًا في التجرِبة السادسة، وهي تجرِبة "كسر رقبة البلاغة "، والتي اعترف فيها بأنَّه بَقِيَ ما بين العشرين إلى الثلاثين لم يقرأْ حرفًا بالعربية!
وبأنَّه ضعيفٌ فيها بالفِطرة، وأنَّ إحساسَه باللُّغة العربية أجنبيٌّ جدًّا -على كلِّ حال- هذا الشطر مِن شِعْر شوقي، وهو من قصيدة الْتزم فيها ما لم يَلتزمْه في غيرها مِن شِعْره لغرض واحد هو "المعارضة"؛ لأنَّه من قصيدته المعروفة "نهج البردة " التي عارضَ بها القصيدةَ الرائعة "البردة" للبُوصِيري.
وهذا شيءٌ لا يَعيب "شوقي" أن يفعلَه؛ ولكن هذا المسكين لم يَجدْ عند شوقي ما يُستنكر سوى هذا البيت، وكأنَّه هو عمودُ شِعْر شوقي، وأجودُه وأتقنُه وأدلُّه على أسلوبه ونهجه، وهذا باطلٌ بالطبع، فاهتمامه بذِكْر هذا الشَّطر، وجعله دلالةً على شِعر شوقي كلِّه، ضَرْب من السُّخْف والجهل والمغالطة.
ولكنَّ الدافع إليه هو أنَّ "نهج البردة" هو في مديح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأراد هذا المأفون -بما في قلْبِه من العداوة والبغضاء لله ورسوله وللمؤمنين- أن يجعلَ هذا الشَّطْر وحدَه هو المتضمِّن لمذهب شوقي في شِعْره، وهذا عبثٌ، وهي طريقةٌ في التعريض بما تُكنُّه النفوس، فاشية عندَ المستشرقين والمبشِّرين، وفاشية عندَ المستشار الثقافي، وعندَ ساحبِه مِن عُنقِه "سلامة موسى"، وعند ذَيلِه وحامل حقيبته "غالي شكري".
وأمَّا شطر "السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ"، فهو أيضًا مطروحٌ على لسانه، وعلى لسان قائده مِن عنقه "سلامة موسى"، كلاهما ذَكَره، وكلاهما شَرَح معناه هذا الشَّرْح المدهش؛ لأنَّهما لم يفهمَا شيئًا، ولا قرأ شيئًا، ولا أظنُّ أحدهما كان قادرًا على أن يفهمَ إلاَّ بِمُفْهِم، ولا أن يقرأَ إلاَّ بمقرئ؛ لأنَّهما جميعًا من معدن واحد، لا علاقةَ له بالأدب والفنِّ، لا في العربيَّة، ولا في غير العربية.
وقصَّة البيت -أو قصَّة القصيدة كلها- مشهورةٌ، فإذا جَهِلها هذان الخلقان، فإنَّما جهلاها بطبيعة النُّفور من العَرَب، والبغضاء لهم؛ لأنَّهما يَعْلمان أنَّ هذه القصيدةَ إحدى روائع الشِّعر العربي، صوَّر فيها أبو تمام ملحمةً مِن ملاحم الثُّغور العُظمَى، في فتح عمُّورِيَّة، ووطء المعتصم جباهَ البطارقة وجيوشَهم من الرُّوم وطأةَ المتثاقِل، فمِن أجْل هذا زالَ عقلُ سلامة موسى، وهاجتْ سمادير لويس عوض، على هذا البيت، فظنَّا أنَّ أبا تَمَّام أراد تفضيلَ السَّيْف على الكتاب، "دون أن يقول لماذا؟ وهل هذا حقٌّ في شريعة الأخلاق"؟
أو كما قال المسكين، وأيَّةُ أخلاق يعرفها حتى يَهديَ الناس إليها؟! ولكن لَمَّا كانتِ القصَّة تُزري بالرُّوم والبيزنطيِّين، فإنَّهما هاجَا ووسْوسَا.
وأصلُ القصَّة:
أنَّ المعتصم الخليفةَ كان في مجلسه، وفي يَدِه قدحٌ يَهمُّ أن يشرب ما فيه، فجاءَه رسولٌ يُبلِّغه أنَّ الروم فتحت "زَبَطْرَة"، وأخذوا النِّساءَ سبايا، وأنَّ امرأةً منهنَّ صرختْ: "وا معتصماه!"، فوَضَع المعتصم القدحَ مِن يده، وأمر بأن يُحفظَ حتى يؤوبَ مِن فتح "عمورية" فيَشْرَبَه، وخرَج بجيشه مِن فَوْره يقصدها، فراسلتْه الرُّوم بأنَّهم يجدون في كتب رُهبانِهم ومنجِّمِيهم: "أنَّه لا تُفتحُ مدينةُ عمورية إلاَّ في وقتِ إدراك التِّين والعنب، وبيننا وبين ذلك الوقت شهور، يمنعُك من المقام بها البردُ والثلج"، فهزئ المعتصمُ بجَهْل الرُّوم، وأوقد عليهم نارَ الحَرْب، فأكلتْ من صناديدِهم تِسعين ألفًا، ذَكَرهم أبو تمَّام في رائعته، فقال:
تِسْعُونَ أَلْفًا كَآسَادِ الشَّرَى نَضِجَتْ *** جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التِّينِ وَالْعِنَبِ
وأكبَّ المعتصمُ على عَمُّورية، حتى فتَحَها، فأبطل بنصْر الله إيَّاه ما قالتْ كُتُبُ البطارقة والمنجِّمين، فهذا كما ترى، فأين منه سُخْف ما قاله المستشار، وساحِبُه من عُنقِه سلامة موسى؟! ولكنَّه الحِقْدُ يُعْمِي ويُصِمُّ.
وليْتَ الأمرَ يقتصر في جَهْل هذا المسكين بالشِّعر القديم وحدَه، بل هو أجهلُ شيءٍ في فَهْم الشِّعر الحديث الذي يَكتب عنه، فبدر شاكر السيَّاب يقول في قصيدةٍ له سمَّاها "المبغى" يقول فيها:
"بغداد، مبغى كبير، لواحظ المغنية، كساعة تتك في الجدار، في غُرْفة الجلوس في محطَّة القِطار، يا جُثَّة على الثرى مستلقية، الدودُ فيها موجة من اللَّهيب والحرير، بغداد كابوس، رديء فاسد، يجرعه الراقد، ساعاته الأيَّام، أيَّامه الأعوام، والعام نِيرٌ! العام جرح ناغرٌ في الضمير".
فجاء هذا المسكين ليفسِّرَ طريقةَ "الأسموز"! (يا للشرلتة الظاهرة! مصدر شرلتان)؛ أي: الانتشار الغشائي -كما قال هو-، فقال: "فهذه المغنية أو القينة المستلقية في المبغى ليستْ جثَّةً هامدة، أو جثة عَفِنة، ولكن لواحظها تتك كساعة الحائط تُحصي الثواني والدقائق في انتظار شيءٍ رهيب يُوشِك أن يقع، يُسمِّيه السيَّاب: وصول القطار، أو انطلاقه، ولكن الصورة التي رَسَمها حقًّا هي صورة قُنبلة زمنيَّة هائلة راقدة تتك في الصَّمْت الرهيب، تحت هذا المبغى الكبير، وتوشك أن تنفجرَ وتَنسِف كلَّ شيء" إلى آخِر هذه الفكاهات!
و"لواحظ" المذكورة في شعر السياب، اسم مغنية بغدادية ولا شكَّ، أمَّا "اللواحظ" بمعنى "الألحاظ"، فأظنُّ السياب كان يشمُّ من العربية قدرًا لا يملك منه لويس عوض شيئًا بالطبع، يمنعه أن يعني باللواحظ الألحاظَ، ولا أظنُّ السيَّاب أيضًا تبلغ به ملكةُ الانحدار إلى أسفل، أن يجعل العيوبَ "تتك كساعة في الجِدار"، ولا يملك هذه القدرةَ إلاَّ هذا المسكينُ المعذَّب بوساوسه، فهو جعل "لواحظ المغنية" بمعنى عيون المغنية؛ ليستقيمَ له التشبيه بالقنبلة الزمنيَّة، ولينسف بغداد، ثم تتولَّى صحيفة الأهرام بعدَ ذلك نسفَ نفوس الناس وعقولهم بخواطر السُّوء، وسمادير المخمورين، بعدَ أن تنهارَ الحواجزُ التي كانت تحجز هذا الوباء، وتمنعه أن ينتشر.
والعقلُ الذي أخرج هذا، هو العقلُ الذي تصوَّر أنَّ: "وردة كالدِّهان" هي "روزا مستيكا"، وأنَّها وَرَدتْ في القرآن بهذا المعنى، وكذلك في شِعر أبي العلاء، وأنَّها بمعنى "الوردة" الزهرة المعروفة!
وهو نفس العقل الذي يجعل النبتَ المُسمَّى "بالصِّليان" صُلبانًا" تغصُّ بها حلب! عقل أديب مثقَّف كبير جدًّا، يُنشر له في كلِّ شهر شيءٌ يؤجر عليه في صورة مقالات، ويأكُلُ ثمنَه مجموعًا في كتاب، وتتولَّى إطعامَه في الحالين مؤسساتُ الاتحاد الاشتراكي، كصحيفة الأهرام، ومطبعة دار المعارف -وهما ممَّا يدخل في نطاق مستشاريته!- ودار الهلال، بحُكم "التعصب" الذي شرحتُه فيما سلف من مقالاتي.
إنِّي لم أكتبْ هذا لأنقدَ هذا الغلام الغِرَّ؛ بل لأنبَّه إلى هذه الآفة التي أخذتْ تستشري استشراءَ دُودةِ القطن؛ لتهلكَ تراثًا ماضيًا، وتعبث بعقول جيل آت.
وإذا كان مَن يتولَّى هذه المؤسَّساتِ يظنُّ أنَّه يدفع الأموالَ مِن جَيبِه لمِثْل هذه الأوبئة المهلِكة، فليعلمْ أنَّه يظنُّ خطأ؛ لأنَّ هذه المؤسَّساتِ يملكها الاتحادُ الاشتراكي نيابةً عن الأمَّة، وهذه الأمَّة لا ترضى أن تلعب بأموالها عصابةٌ من الناس، بلا رعاية لحُرْمة، ولا إدراكٍ لتَبِعة، ولا حياطةٍ لثقافة، ولا حَمْلٍ لأمانة الدِّفاع عن كيان العقل أن تنخر فيه جراثيمُ الفتك المسلَّطة على عقول الناشئة.
إنَّ الأمَّة لم تُملِّك الاتحادَ الاشتراكيَّ هذه المؤسساتِ؛ لتكونَ ألعوبةً في يدِ المستشار الثقافي وذُيولِه باسم "الثقافة"، والتي هي في حقيقتها ضروبٌ من مخاريق الشرلتانات التي شرحتُ أمرَها فيما سلف.
ومقالاتُ هذا المسكين عن بدر شاكر السيَّاب فيها هُراءٌ فظيعٌ رهيب -وهي اللَّفْظة التي كرَّرها في إحدى مقالتيه أكثرَ من عشر مرَّات-، وفيها من المغالطات والأكاذيب والأباطيل والعَبَث، ومحاولة إقناعِ الناشئة بأنَّهم ليسوا شيئًا إذا لم يعيشوا بقلوبهم ونفوسهم، وأهوائهم وعواطفهم، مع العالَم الأوروبيِّ المسيحي، ثم لا يَجِدون في بلادهم شيئًا يُحرِّكهم، لا عروبة بلادهم، ولا وحدتها، ولا فلسطينها، ولا لُغتها ولا دِينها، إلاَّ هذا الذي يُحرِّك مِن صراع العالَم المسيحي وصراع أُمَمه، وأمَّا الماضي فهو أيضًا ينبغي أن يمحق، وإذا أرادوا لأنفسِهم ماضيًا، فإنَّما هو الماضي المنحَدِر من وثنية اليونان إلى صليبية القرون الوسْطى، إلى "إليوتية" العصر الحديث، التي تَعدُّ الثقافة هي الدِّين؛ أي: الدين المسيحي الكاثوليكي كما يُريد أن يفهمَ ذلك لويس عوض وشيعتُه، لا كما أراده صاحبُه إليوت، وهم أجهلُ الناس بحقيقة رأيه.
ولا أدري بعد ذلك: ما الذي تريدُه مؤسَّسةُ الأهرام مِن نشْر هذه البلايا على الناس، بلا توقُّف، وبلا مراجعة؟!
ومع ذلك فإنَّ كلَّ هذا شيءٌ معادٌ مُكرَّر منذ سلامة موسى، إلى لويس عوض، إلى غالي شكري، إلى سائرِ التوابع، وربَّما كان من الخير أن تنفي الأهرامُ عنَّا هذا التَّكْرارَ المملَّ؛ بأن تأخذ مستشارَها هذا وتوابعه، وتُرسلَهم في بعثة إلى كمبردج، حيث الخلواتُ المشهودةُ تحت أشجار الدردار، أو إلى برنستون -وما أدراك ما برنستون؟!- فعسى أن يُعادَ تدريبُهم، فيأتي وقتٌ نقرأ لهم فيه شيئًا جديدًا على الأقل، مكانَ هذا المكرَّر المملول.
إنَّ الحياةَ لا تحتمل هذا الهُراءَ كلَّه؛ ولكن مَن لمؤسَّسة الأهرام ولتوابعها، وللسالكين على دَرْبِها، أن يعرفوا أنَّ الأمرَ ليس لهوًا، بل هو جِدٌّ، وأنَّ عاقبةَ العَبَثِ بثقافة أمَّة، وبعقولها وبنفوسِها، وبتاريخها وبماضيها، وبحاضرها، عاقبةٌ مَخوفةٌ، وقد خَلَتْ مِن قبلهم المَثُلات؟
وإذا كانت هذه المؤسَّسات قد خَلَتْ من القدرة على فَهْم هذه البسائط، فليتَ شِعري، ماذا بقي لها ممَّا يُوجِب لها البقاءَ والاستمرار؟
إن تَقُلْ: أكلُّ هذا مِن أجْل هذا المستشار الثقافي؟
أقُلْ: نعمْ، لا لأنَّه هو في ذاته شيء؛ بل لأنَّ السُّلْطانَ الذي يملكه هو الشيءُ الذي ينبغي علينا أن نحوطَه بالرِّعاية، وأن نطلب له البراءة مِن الآفات، ونلتمس له تمامَ الصِّحة والعافية، ومَن جَهِل خَطرَ هذا السلطانِ في الصحافة، فقد جَهِل شيئًا كثيرًا، بل لقدْ جَهِل كلَّ شيء.