أصول الفقه ومقاصد الشريعة: علم واحد أم علمان؟
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
أصول الفقه ومقاصد الشريعةعلم واحد أم علمان؟
يشكِّل الثنائي المعرفي: أصولُ الفقه، ومقاصدُ الشريعة، نسقًا علميًّا منسجمًا يصعب التفريق بينهما من حيث الاشتغالُ العلميُّ، والتطبيق التنزيلي؛ ولذلك فإن مسألة انفصال مقاصد الشريعة عن علم أصول الفقه قد أثارت إشكالًا علميًّا يرتبط بطبيعة هذا الانفصال، أو الاستقلال المفترض؛ ويرجع ذلك إلى سببين أساسيَّين:
الأول: يتمثَّل في تزايد البحث العلمي بمبحث المقاصد في العقدين الأخيرين، الذي نتجَ عنه اختلاف الدارسين والعلماء في استقلال مقاصدِ الشريعة علمًا منفردًا عن أصول الفقه؛ لأنه قد يُخيَّل إلى بعضهم أن إفرادَ مقاصد الشريعة بالتصنيف العلمي عند بعض الأصوليين إيذانٌ بميلاد علمٍ جديد منفصل ومستقلٍّ، ولكن هذا - في ظني - غيرُ صحيح؛ لأن إفراد جزء ما من أيِّ علم بالبحث، لا يعني بالضرورة استقلالَ هذا الجزء عن ذاك العلم، و إلا أضحى الاجتهادُ وغيره من أبواب أصول الفقه التي أُفردت لها التصنيفات - علومًا خاصة مستقلة عن علم أصول الفقه؛ "لذلك فإن مقاصدَ الشريعة التي أفردها العزُ بن عبدالسلام، والشاطبي وغيرهما بالتأليف - لا يُمثِّل ذلك دلالة على إمكانية استقلال المقاصد عن أصول الفقه من الناحية المنهجيَّة والعلمية، وإن تمَّ ذلك حقيقة وورودًا من الناحية البحثيَّة والتصنيفيَّة"[1].
والثاني: الانفصالُ التاريخي الذي حصل بين خطاب المعرفة الأصوليَّة والخطاب المقاصدي، وكان ذلك لاعتباراتٍ معرفية فحسب، ولم يكن لها بُعدٌ منهجي أو علمي دعَتْ ضرورتهما إلى ذلك الانفصال.
هذا، وقد تنوَّعت الآراء في هذه المسألة ما بين مؤيِّدٍ موافق ومعارض متحفِّظٍ، وسوف أعرض تلك الآراء بالاختصار الذي يتناسب مع طبيعة هذا المقال:
أولًا: الاتجاه المؤيد لدعوى الانفصال:
يرى هذا الاتجاه ضرورةَ استقلال مبحث المقاصد الشرعيَّة بعلم منفرد يبحث في عزله عن علم أصول الفقه، ولعلَّ انطلاقةَ هذا الاتجاه كانت من كتاب مقاصد الشريعة؛ للشيخ الطاهر بن عاشور، حيث قال: "فنحن إذا أرَدْنا أن ندوِّن أصولًا قطعيَّة للتفقه في الدين، حقَّ علينا أن نَعمِدَ إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيدَ ذوبانها في بَوْتقة التدوين، ونعيِّرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غُلِثت بها، ونضع فيها أشرفَ معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم، ونسمِّيه: علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله"[2].
ثانيًا: الاتجاه المعارض لدعوى الانفصال:
ومن يعارض هذا الاتجاه يعتبرُ أن استقلال المقاصد - كعِلم خاص - سيكون له الأثر السلبي على كلا العِلمَيْنِ، وأن المقاصدَ أصلٌ من الأصول المعتمدة في تخريج الأحكام الشرعيَّة، وما استُخلص منها بناءً على المقاصد لا فرقَ بينه وبين غيره من الأصول الأخرى، ومن أبرز رُوَّاد هذا الاتجاه الأستاذ علال الفاسي، ومن المعاصرين جمال الدين عطية الذي عارض دعوى ابن عاشور لتأسيس علم مستقلٍّ لمقاصد الشريعة، فقال - مبيِّنًا ضرر الانفصال -: "فأرى أنه ضارٌّ بكلا العلمين؛ إذ يجمِّد الأصولَ على حالها، ويحرمها من روح المقاصد، كما أنه يبعد المقاصدَ عن الدور الوظيفي الذي تقوم به حاليًّا، والذي ينبغي أن نحرص على تطويره"[3].
ثالثًا: الاتِّجاه الداعي إلى ضرورة التكامل بينهما:
ويقوم هذا الاتجاه على ضرورةِ التكاملِ المعرفيِّ بين علم أصول الفقه ومبحث مقاصدِ الشريعة، وذلك من الناحية السياقيَّة والمنهجيَّة والعلمية، والذي يتعذَّر معه الفصل العلمي على سبيل الاستقلال؛ لما سينشأ عن ذلك من خللٍ في البنية الأصولية والمعرفيَّة للاجتهاد الفقهي، الذي يمثِّل القصد الأساس منهما على السواء".[4]
وبالنظرة الفاحصةِ في تلك الاتجاهات نستخلِصُ أن هناك ميثاقًا دقيقًا بين الاتجاه الثاني والثالث؛ وأنهما بمثابةِ الرأي الواحد - الراجح في نظري - وذلك لأن تاريخيَّة الوثاقة بين علم أصول الفقه والمقاصد، والتلازم المطلق بينهما من حيث السياق التاريخي والمنهج التأسيسي والمعرفة العلمية - يحولُ دون البحث في تفكيكهما، فالفصلُ بين علم أصول الفقه والمقاصد فصلٌ بين أبعادِ روحٍ تسري في أعضاء وأصول جسد.
إن علمَ أصول الفقه في حقيقة جوهرِه قواعدُ فقهِ مقاصد الخطاب الإلهي المنصوصةِ وغير المنصوصة، وإدراك معانيه؛ حتى تكون سهلةَ الاستثمار في واقع التكليف البشري؛ ولذلك فحين نقرأ الكتبَ المؤلَّفة في المقاصد الشرعية نَلمَسُ حضور علم أصول الفقه بالفعل والقوَّة، مما يؤكد أن تلك التصانيفَ إنما هي الترجمة الحقيقيَّة لإعمال الأدلة وتصريفها وَفْق التمثُّل التكليفي.
وبناءً على هذا التلازم العلمي والتكامل المنهجي بين علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، فإن المقاصدَ جزءٌ لا ينبغي أن يتجزَّأ عن أصول الفقه، حتى إن الشيخ الريسونيَّ قد قيَّد علم المقاصد بوصفه ركنًا من علم أصول الفقه، فقال: "فالمقاصد علم، وركن من علم...
والعبرة بالمسمَّيات لا بالأسماء، وبالمقاصد لا بالوسائل"[5]، بل قد ذهب الشيخ ابن بيّه إلى أبعد من ذلك، فقال: "...
مقصودُنا من هذا هو الإشارة إلى أن المقاصدَ هي أصول الفقه بعينها"[6]، فهو يرى أن علم أصول الفقه في حاجة ماسَّة إلى التفعيل المقاصدي، أكثر من استحداث علم مقاصد الشريعة علمًا مستقلًّا[7]، وقد تابعه في ذلك الأستاذ الدكتور/ صالح قادر الزنكي، فقال - أثناء حديثه عن تفعيل مقاصد الشارع في تقرير بعض القواعد الأصولية -: "ذلك لأن مقاصدَ الشَّارع من الضروريَّات والحاجيَّات والتحسينيَّات مقاصدُ قطعيَّة قارة، وبالاعتماد عليها في تقرير القواعد الأصولية - إذا أيَّدتها - ستتقوى تلك القواعدُ إلى أن تصل إلى درجة القطع، أو القريب منها...
ونبيِّن كيف كان للمقاصد دورٌ في توجيهها نحو الوفاق"[8].
لذلك؛ فلا أرى داعيًا إلى استقلال أحدهما عن الآخر، مادام الفكرُ المقاصدي قد انبثق من علم أصول الفقه، حتى في ظلِّ التيار الداعي إلى تجديد علم أصول الفقه، يقول الدكتور محمد الدسوقي: "تجديدُ علم الأصول يقتضي منا ألا ننظرَ إلى المقاصد تلك النظرة التي تفصلُها عن هذا العلم، وإن اتخذ وسيلة إليها، فكل الأدلة النصيَّة والعقلية تتوخَّى المقاصد وتهدف إليها، وما تغير الأحكام بتغير الأعراف والزمان والمكان إلا مظهر من مظاهرِ دوران هذه الأدلة في نطاق المقاصد الشرعية"[9].
وختامًا:
فإن مباحثَ علم أصول الفقه تعدُّ الورش العلمية الاجتهاديَّة المنتصبة الآن أمام النظر المقاصدي ليشبعها بحثًا وتحليلًا وتقويمًا وتجديدًا؛ ولذلك فإن ارتباط الوشائج الأصولية بالمقاصدية سيسهمُ في إحياء البعد الوظيفي لمقاصد الشريعة، وتنمية شقِّها التنزيلي؛ لأن الحاجة ملحَّة إلى الإثراء العلمي في الجانب التنزيلي لفقه المقاصد؛ حتى يكون فقهًا يجيب عن أسئلة الواقع الشديد التقلُّب بما يناسبه ويلائمه.
[1] دراسات في الفكر المقاصدي من التأصيل إلى التنزيل؛ د.
الحسان شهيد، ص: 164.
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية؛ للطاهر بن عاشور، تونس، الشركة التونسية للتوزيع، 1988م، ص: 111.
[3] نحو تفعيل مقاصد الشريعة؛ عطية جمال الدين، هيرندن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1429هـ/2008م، ص: 267.
[4] ينظر: دراسات في الفكر المقاصدي من التأصيل إلى التنزيل؛ د.
الحسان شهيد، ص: 163.
[5] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي؛ د.
أحمد الريسوني، دار الكلمة، الطبعة الأولى، 1418هـ/1997م، ص: 307، 308.
[6] علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه؛ الشيخ عبد الله بن بيّه، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة، الطبعة الأولى، 2006م، ص: 131.
[7] ينظر: المرجع نفسه، ص: 137.
[8] الإمام الشاطبي وجهوده في ضبط الخلاف الفقهي؛ أ.د/ صالح قادر الزنكي، دار السلام، الطبعة الأولى، 1431هـ/2010م، ص: 41.
[9] نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه؛ د/ محمد الدسوقي، بحث منشور في مجلة إسلامية المعرفة، ص: 132، 133.