مواعظ رمضانية لابن الجوزي (5)
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
مواعظ رمضانية لابن الجوزي (5)[متابعة للعشر الأواخر وليلة القدر]
1) لله دَرُّ أقوامٍ لازموا قيام الليل بانشراح الصدر، وتدرَّعوا جلابيبَ الوفاء وعَزُّوا عن الغدر، وتحلَّوا بحلى المخافة وتعظيم القدر، وكل لياليهم في خدمته قليلة القدر.
2) كتموا المحبة فما أبقوا في كتمانها بقية، فظهرتْ علامتُها على الجوارح النقية، وهل يخفى والسما مِنَ الكدر نقية على ناظرِ نور البدر؟!
3) ثبتوا على مجاهدة النفوس واستقاموا، وسهروا في دياجي الليل وقاموا، ووقفوا على باب المَلِكِ وداموا، وأقاموا قلوبَهم في مقامات الصبر.
4) التفَتوا عن الدنيا بالكلية حقا، وأحرزوا بتحقيق الزهد فيها سَبْقا.
وأخبرهم أنها لا تدوم ولا تبقى، علْم اليقين وصدْق الصبر.
5) آثرتَ الراحةَ وآثروا القُوى، واستقامتْ عزائمُهم وعزمك هوى، وسمعوا هاتف الهدى ومَنع سمعك الهوى، والهوى حجاب أقوى مِنَ الوقر.
6) صرفوا قلوبَهم عن أشغال الأمل والمُنى، وتركوا مِنَ الدنيا ما يُدخر ويُقتنى، وافتقروا في العاجلة لكنهم أهلُ الغِنى، يوم شدةِ الإفلاس وقوةِ الفقر.
7) هجروا طولَ الأمل أخْذًا بالحزم، ورفضوا الدنيا رفضَ جدٍّ وحزْم، وجادلوا الهوى بسلاح التصبر والعزم، ومولاهم يمدهم بالنصر.
8) أقاموا في مقام أمينٍ مؤتمن، وحرسوا بالطاعات ساعات الزمن، فهم في الآخرة في مقعدِ صدقٍ، وانظر عند مَنْ، وهم في الدنيا تيجان العصر.
9) وقفوا على باب التضرع واللَّجا، وتقلبوا في روض الخوف والرَّجا، وشاهدوا في ظُلَمِ الليل لمَّا سجا بعين اليقين نورَ الأجر.
10) فتشبه بهم في ليلتك هذه فهي مُكرمة، ولازم حقيقة الأدب فيها فإنها محترمة، وارفع حوائجك فيها فهي مُغتنمة، ﴿ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ ﴾ [القدر: ٥][1].
11) يا مَنْ أصبح ساعيًا إلى ما يضره متقدِّما، وأضحى بناءُ أمله بكف أجله منهدما، ستعلم مَنْ يأتي غدًا حزينا مُتندما، ويبكي بعد الدموع من الحسرات الدَّما.
12) أأعدتَ عُدةَ حازمٍ لقبرك؟ أحصلتَ عملًا ينجيك في حشرك؟ أحفظتَ حدودَ صومك في شهرك؟ أم هتكتَ حرمَ الحمى؟
13) متى حضر قلبُك في صلاتك؟ متى خرجت عن العادة في عباداتك؟ لقد تسلط الشيطانُ عليك بغفلاتك، ولو تيقظتَ لَمَا.
14) فكم مِنْ صومٍ فسد فلم يسقط به الفرض، ومِنْ صائم يفضحه الحساب والعرض، وكم مِنْ عاص في هذا الشهر تستغيث منه الأرض، وتشكو مِنْ أعماله السَّما.
15) يا ليت شعري مَن المقبولُ ومَن المردودُ، ومَن المقربُ ومَن المطرودُ، ومَن الشقيُّ ومَن المسعودُ، لقد عاد الأمرُ مُبهما.
16) لقد سعد في هذا الشهر بحراسة أيامه، مَنْ كَفَّ جوارحَه عن كسب آثامه، ولقد خاب مَنْ لم يعلق فيه مِنْ صيامه إلا الجوع والظَّما.
17) لله دَرُّ أقوام حرسوا بالتقى أيام شهرهم، وتدرعوا دروع المراقبة في صبرهم، وجمعوا بين الصدق والإخلاص في ذكرهم، فظهرت أسبابُ الفوز منهما.
18) صبروا بالنفس على ظمأ الهواجر، ونصبوا أقدامهم على بساط الدياجر[2]، وعملوا ليومٍ فيه القلوبُ لدى الحناجر، واعتقَدوا أوقاتَ التعب مَغنما.
19) قصدوا مولاهم ووقفوا بين يديه، ورفعوا حوائجهم في دياجي الليل إليه، وبسطوا ألسنَ الرجاء فتمنوا عليه، فأعطاهم مولاهم كلما.
20) لقد صابوا الطريق وما أصبتَ، ولقد أجابوا داعيهم وما أجبتَ، يا عجبًا يخرج رمضان وما أنبْتَ؟ هذا والله هو العمى!
21) فاجتهد في لحاق القوم فقد جدوا، ولا ترض لنفسك دون ما أعدوا، وتنصتْ لحادي الرحيل فها هو يحدو، فإن اجتهدت أدركتهم، وإن لم فما.
22) تيقظ لملك الموت فكأنك به قد هجم، وودع شهر رمضان فقد ذهب وانصرم، وتحقق أنه يشهد يوم الحسرة والندم، لك أو عليك أيها الغافل بما.
23) السلام عليك يا شهر الصيام، السلام عليك يا شهر القيام، السلام عليك يا شهر بلوغ الإنعام، كم مسجد غدَا غداة فراقك مُظلما.
24) أين مَنْ صلى معك في مثل هذا الشهر التراويح؟ وأوقد في المساجد للصلاة المصابيح؟ أما أخلى الموتُ منهم المكانَ الفسيح؟ وسينقلك -والله- فانتبه كما.
25) كم مسجد مُلئ بهم وزُمّ، وكم من مسجد خِير بهم وعُمّ، حلَت لهم الحياةُ بُرهةً ثم عاد الحلوُ علقما.
26) فخلص نفسك بالتيقظ من الكسل، واملأْ زمانَ صحتك بتجويد العمل، واحذر غرورَ سوف ومكرَ الأمل، فبعيدٌ - والله - نفعهما.
27) وإياك وسوف ولعل وعسى، وانتظر رحيلك في الصباح والمَسا، وإذا وجدت قلبك قد غفل وقسا، فذكِّره الموتَ فربما.
28) نصحتك جهدي إن ارعويت، وسأنادي إن اهتديت، ﴿ وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـكِنَّ ٱللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال ١٧][3].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، واختم شهرنا بغفرانك، وجد علينا بألطاف إحسانك، وتغمدنا برحمتك ورضوانك، واجعل مآلنا إلى جنانك، واجعل شهر رمضان شاهدًا لنا بأداء فرضك، ولا تُخزنا بفضائح أعمالنا يوم عرضك، وبدل ذنوبنا يوم تبدل سماؤك وأرضك، ولا تجعلنا ممن تعب واجتهد ولم يُرضك، اللهم وألهمنا الشكر على صيام الأيام الماضية، وأعد شهر رمضان علينا أعوامًا متوالية، وارزقنا الزهادة في الدنيا الفانية وارفع منازلنا في جنة عالية، ﴿ قُطُوفُهَا دَانِیَةٌ ﴾ [الحاقة ٢٣]، واجعلنا ممن ينادَى غدًا في الدار الباقية: ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة ٢٤].
نحن وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين[4].
[1] (1-10) النور: لوحة/14.
[2] ديجور من الليالي: المظلم أو المظلمة.
[3] (11-28) من النور: لوحة/17.
[4] النور: لوحة/17.