تفسير سورة المسد
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
تفسير سورة المسدعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: صعد النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم، فقال: ((يا صباحاه))، فاجتمعتْ إليه قريش، قالوا: ما لك؟ قال: ((أرأيتم لو أخبرتُكم أنَّ العَدوَّ يصبحكم أو يمسيكم، أما كنتم تصدقوني؟)) قالوا: بلى، قال: ((فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد))، فقال أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد: 1]؛ صحيح البخاري.
قال البخاري: (وقد تب، هكذا قرأها الأعمش يومئذٍ).
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1]: قال البخاري: وتب تبابًا: «خسرانًا».
وخص اليدين بالتباب؛ لأن العمل أكثر ما يكون بهما؛ أي: خسرَتَا وخسر هو، وقيل: المراد باليدين نفسه، وقد يعبَّر عن النفس باليد؛ كما قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ﴾ [الحج: 10].
قوله تعالى: "أبي لهب":
سُمي باللهب لإشراق وجهه، وإنما كنَّاه الله بأبي لهب؛ لأنه كان اسمُه عبدالعُزى بن عبد المطلب، والعُزَّى: صنم، ولم يضف الله في كتابه العبودية إلى صنم، ولأن مآله إلى النار، فوافقتْ حالته كنيته، وكان مِن أشد الناس إيذاءً لابن أخيه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فعن ربيعة بن عباد من بني الديل - وكان جاهليًّا فأسلم - قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المَجاز، وهو يقول: ((يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا))، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجلٌ وضيءُ الوجه، أحول ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب؛ فسألت عنه؟ فقالوا: هذا عمه أبو لهب؛ (صحيح السيرة النبوية، للألباني).
وعن طارق بن عبدالله المحاربي قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق ذي المجاز، وعليه حُلَّة حمراء، وهو يقول: ((يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا))، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة، وقد أدمى عرقوبيه وكعبيه، وهو يقول: يا أيها الناسُ، لا تطيعوه؛ فإنه كذَّاب، فقلتُ: مَن هذا؟ قيل: هذا غلام بني عبدالمطلب، قلتُ: فمَن هذا الذي يتبعه يرميه بالحجارة؟ قال: هذا عبدُالعُزَّى أبو لهب؛ (التعليقات الحِسان على صحيح ابن حبان)[1].
قال الفرَّاء: التبُّ الأوَّل دعاء، والثاني خبر، كما يقال: أهلكه الله، وقد هلك، ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود وأبَيٍّ: "وقد تب".
فكلُّ قارئٍ لهذه السورة يدعو على أبي لهب بالخسران إلى أن يرثَ الله الأرض ومَن عليها!
﴿ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾ [المسد: 2]:
عبر بالماضي في قوله: ﴿ مَا أَغْنَى ﴾ [المسد: 2]؛ لتحقيق الوُقوع، وتأكيد عدم وقوع الإغناء؛ فالله قد عَلِم ذلك في الأَزَل؛ فعن عبدالواحد بن سليم، قال: قدِمت مكةَ فلقيتُ عطاءَ بنَ أبي رباح، فقلتُ له: يا أبا محمد، إن أهل البصرة يقولون في القَدَر، قال: يا بني، أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فاقرأ الزخرف، قال: فقرأت: ﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الزخرف: 1 - 4]، فقال: أتدري ما أُمّ الكتاب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه كتابٌ كتبه اللهُ قبل أن يخلق السموات وقبل أن يخلق الأرض، فيه: إن فرعون من أهل النار، وفيه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، قال عطاء: فلقيتُ الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألتُه: ما كانتْ وصية أبيك عند الموت؟ قال: دعاني أبي، فقال لي: يا بني، اتَّق الله، واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمنَ بالله، وتؤمن بالقَدَر كلِّه خيرِه وشره، فإن متَّ على غير هذا دخلت النار، إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما خلق اللهُ القلم؛ فقال: اكتبْ، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب القَدَر ما كان، وما هو كائن إلى الأبد))؛ صحيح التِّرمذي.
فما يُغني وما يدفع عنه عذاب الله ما جمع مِن المال، ولا ما كسب من جاهٍ، وقيل: ما كسب من عمل فكَسْبُه هو عمله، وقيل: من الولد؛ لأن ولد الإنسان مِن كَسْبه كما جاء في الحديث: ((إن أطيب ما أكل الرجل مِن كسبه، وإنَّ ولدَه مِن كسبه))؛ صحيح ابن ماجه، وغالبًا ما يذكر المال مقرونًا بالأولاد في القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 116]، وقوله تعالى: ﴿ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المجادلة: 17]، وقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].
ومِن أبناء أبي لهب - وهو عتيبة - مَن قد سار على طريق أبيه في أذية النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن أبيه، قال: كان لهب بن أبي لهب يسُبُّ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم سلِّط عليه كلبك))، فخرج في قافلة يريد الشام، فنزل منزلًا، فقال: إني أخاف دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا له: كلَّا، فحطوا متاعهم حوله، وقعدوا يحرسونه؛ فجاء الأسد فانتزعه فذهب به"؛ (صحيح المستدرك على الصحيحين، بتحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا).
وفي عتيبة هذا قال حسان رضي الله عنه: من يرجع العام إلى أهله، فما أكيل السبع بالراجع، ثم أوعد اللهُ أبا لهبٍ بالنار، فقال: ﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾ [المسد: 3]؛ أي: نارًا تلتهب عليه؛ وافقت كنيته، وفي هذه السورة أوضح الأدلة على صِدْق القرآن، وأنه من عند الله، فقد علم أبو لهب وامرأتُه أنهما سيصليان نارًا ذاتَ لهب، ومع ذلك فقد بقيَا على كفرهما.
﴿ وَامْرَأَتُهُ ﴾ [المسد: 4]؛ أي: سيَصْلَى النار هو وامرأته، وهي أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان، وكانتْ بذيئة سليطةَ اللسان، شديدةَ الأذى لنبينا صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، روى البخاري في صحيحه عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه، قال: ((احتبس جبريل صلى الله عليه وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم))، فقالت امرأة من قريش: أبطأ عليه شيطانُه، فنزلتْ: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى: 1 - 3]، وعن ابن عباس، قال: لما نزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد: 1]؛ جاءت امرأةُ أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، إنها امرأة بذيئة، وأخاف أن تُؤذيك، فلو قمت! قال: ((إنها لن تراني))، فجاءتْ، فقالت: يا أبا بكر، إن صاحبك هجاني، قال: لا، وما يقول الشعر، قالتْ: أنت عندي مصدَّق، وانصرفتْ، فقلتُ: يا رسول الله، لم تَرَك، قال: ((لا، لم يزل مَلَك يسترني عنها بجَناحه))؛ (صحيح موارد الظمآن).
﴿ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴾ [المسد: 4]:
قرأ الجمهور: "حَمَّالةُ" بالرفع، وقرأ عاصم "حَمَّالَةَ" بالنصب؛ فمَن قرأ ﴿ حَمَّالَةَ ﴾ [المسد: 4] بالرفع فعلى معنى: سيَصْلَى هو وامرأته.
و﴿ حَمَّالَةَ ﴾ [المسد: 4] نعت لها؛ ومَن قرأها بالنصب ﴿ حَمَّالَةَ ﴾ [المسد: 4] فنصبه على الذم؛ أي: أعني حَمَّالة الحطب؛ كأنها اشتهرتْ بذلك فجاءت الصفة للذم؛ كقوله تعالى عن المنافقين: ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ [النساء: 143]، وكقوله: ﴿ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا ﴾ [الأحزاب: 61].
قال مجاهد: حمالة الحطب: تمشي بالنميمة؛ صحيح البخاري.
وكانت تنمُّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المشركين، وقال الفرَّاء: كانت تنمُّ فتحرش فتوقع بينهم العداوة.
﴿ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 5]:
قال مجاهد: "يقال: مِن مَسَدٍ: ليف المُقْل، وهي السلسلة التي في النار"؛ صحيح البخاري.
وقال ابن قتيبة: المسد عند كثير مِن الناس: الليف دون غيره، وليس كذلك، إنما المسد: كلُّ ما ضفر وفتل مِن الليف وغيره.
والجِيد: العُنُق؛ فالمراد بهذا الحبل في عنقها: السلسلة التي ذكرها الله تعالى في النار، طولها سبعون ذراعًا، والمعنى: أن تلك السلسلة قد فتلت فتلًا محكمًا، فهي في عنقها تعذب بها في النار.
وهلك أبو لهب بمرض (العدسة) بعد وقعةِ بدر بسبعِ ليالٍ، وإن لم يشاركْ فيها، فلقد تركه بنوه ليلتين أو ثلاثًا لم يدفنوه حتى أنتن في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة كما يتقي الناس الطاعون، حتى قال لابنيه رجلٌ من قريش: وَيْحَكُما ألا تستحيان؛ إنَّ أباكما قد أنتن في بيتكما لا تدفنانه؟ قالا: إنا نخشى منه، قال: فانطلقا فأنا معكما، فما غسلوه إلا قذفًا بالماء عليه مِن بعيد فما يمسُّونه! ثم احتملوه ودفنوه بأعلى مكة، فهلك كما أخبر عنه القرآنُ الكريم، ومات شرَّ ميتة، فكل من أبغض النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعاداه فإن الله يقطع دابرَه، ويمحق عينه وأثره، وهذا تحقيقٌ وتصديق لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 3].
[1] وهنا يتجلَّى لنا صبرُ وحِلْم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كما وصفه ربُّه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فما رد على عمِّه بالسب، ولا ضربه، ولا حرض عليه، ويا ليت الشباب المتهور اليوم ودعاتهم يقتدون برسولهم الذي قال لهم ربهم فيه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، وما ظهرتْ بدعةٌ، ولا حلَّت مصيبةٌ في الأمة الإسلامية قط إلا من الهمج الرعاع أتباعِ كلِّ ناعق.