عنوان الفتوى : الحكمة من رفع عذاب الاستئصال عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم
لماذا أهلك الله الأمم السابقة، ولم يهلك الحالية بسبب كفرهم؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالظاهر أن السائل يعني بالهلاك: الاستئصال، أو العذاب العام. وإن كان كذلك، فهذا إنما كان يحصل قبل إنزال التوارة على موسى -عليه السلام-، وأما بعد ذلك؛ فلم تُعذَّب أمة من الأمم عذابا عاما يستأصلها، ولكن عوضا عن ذلك أُمر المؤمنون بجهاد أعدائهم من الكافرين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الجواب الصحيح): كان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال عذابا عاجلا يهلك الله به جميع المكذبين، كما أهلك قوم نوح، وكما أهلك عادا، وثمود، وأهل مدين، وقوم لوط، وكما أهلك قوم فرعون، وأظهر آيات كثيرة لما أرسل موسى ليبقى ذكرها وخبرها في الأرض، إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال، بل قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} بل كان بنو إسرائيل لما يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم، ويبقى بعضهم، إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر ... وكان من حكمته ورحمته -سبحانه وتعالى- لما أرسل محمدا أن لا يهلك قومه بعذاب الاستئصال، كما أهلكت الأمم قبلهم، بل عذب بعضهم بأنواع العذاب، كما عذب طوائف ممن كذبه بأنواع من العذاب؛ كالمستهزئين الذين قال الله فيهم: {إنا كفيناك المستهزئين} [الحجر: 95]. اهـ.
وقال أيضا: المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم، كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار، كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة. اهـ.
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى [القصص: 43] قال: يعني أنه بعد إنزال التوراة، لم يعذب أمة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين، كما قال تعالى: {وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية}. اهـ.
يعني أن هذا الأخذ بالعذاب كان لفرعون ومن قبله، وأما من بعد فرعون ونزول التوراة، فلم يقع عذاب الاستئصال. ثم أورد ابن كثير بعد ذلك بإسناد الطبري: عن أبي سعيد الخدري قال: ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض، غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسى، ثم قرأ {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} الآية. اهـ.
وهذا قد رواه الحاكم مرفوعا، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه البزار موقوفا ومرفوعا، ورجالهما رجال الصحيح. اهـ.
وقال الألباني في السلسلة الصحيحة: كلاهما صحيح، ولا مخالفة بينهما، فمن الواضح أن الموقوف على الصحابي في حكم المرفوع فيما يتعلق بالتفسير، حتى ولو لم يرد مرفوعا، فكيف وقد صح مرفوعا أيضا. اهـ.
وقال السعدي عند تفسير قوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [المؤمنون: 45 - 49].
قال: مر علي منذ زمان طويل كلام لبعض العلماء لا يحضرني الآن اسمه، وهو أنه بعد بعث موسى ونزول التوراة، رفع الله العذاب عن الأمم، أي: عذاب الاستئصال، وشرع للمكذبين المعاندين الجهاد، ولم أدر من أين أخذه، فلما تدبرت هذه الآيات، مع الآيات التي في سورة القصص، تبين لي وجهه، أما هذه الآيات، فلأن الله ذكر الأمم المهلكة المتتابعة على الهلاك، ثم أخبر أنه أرسل موسى بعدهم، وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس، ولا يرد على هذا، إهلاك فرعون، فإنه قبل نزول التوراة، وأما الآيات التي في سورة القصص، فهي صريحة جدا، فإنه لما ذكر هلاك فرعون قال: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} فهذا صريح أنه آتاه الكتاب بعد هلاك الأمم الباغية، وأخبر أنه أنزله بصائر للناس وهدى ورحمة، ولعل من هذا، ما ذكر الله في سورة يونس من قولة: {ثم بعثنا من بعده} أي: من بعد نوح {رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين* ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون} الآيات. اهـ.
وبخصوص هذه الأمة، فمن أسباب رفع عذاب الاستئصال عنهم أيضا: بعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إليهم، ورحمته بهم، ودعاؤه لهم، ولذلك وصف في الإنجيل بأنه "حرز للأميين" كما قال عطاء بن يسار: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التوراة؟ قال: " أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا}، وحرزا للأميين ... الحديث. رواه البخاري.
قال المظهري في شرح المصابيح: قوله: "وحرزا للأميين": معناه: أنه من جملة صفاته المذكورة في التوراة أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث حفظا لأمته من عذاب الاستئصال. اهـ.
وقال القاري في (مرقاة المفاتيح): "إنما بعثت رحمة" أي للناس عامة، وللمؤمنين خاصة ... لقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. قال ابن الملك: أما للمؤمنين فظاهر، وأما للكافرين فلأن العذاب رفع عنهم في الدنيا بسببه، كما قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} أقول: بل عذاب الاستئصال مرتفع عنهم ببركة وجوده إلى يوم القيامة. اهـ.
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: سأل أهل مكة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي الجبال عنهم، فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم، قال: " لا، بل أستأني بهم " فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة} [الإسراء: 59]. رواه أحمد وصححه الحاكم والألباني.
قال شيخ الإسلام في «الجواب الصحيح» تعليقا على هذه الآية: بيَّن سبحانه أن ما منعه أن يرسل بالآيات إلا تكذيب الأولين بها الذي استحقوا بها الهلاك، فإذا كذب بها هؤلاء استحقوا ما استحقه أولئك من عذاب الاستئصال، وهذا المعنى مذكور في عامة كتب التفسير والحديث، وغيرها من كتب المسلمين، وهو معروف بالأسانيد الثابتة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان. اهـ. وانظر لمزيد الفائدة الفتويين: 427240، 426904.
ولابن القيم ملمح آخر في جواب سؤال السائل، حيث قال في «مفتاح دار السعادة »: تأمل حكمته تعالى في عذابه الأمم السالفة بعذاب الاستئصال لما كانوا أطول أعمارا، وأعظم قوى، وأعتى على الله، وعلى رسله، فلما تقاصرت الأعمار، وضعفت القوى؛ رفع عذاب الاستئصال، وجعل عذابهم بأيدي المؤمنين، فكانت الحكمة في كل واحد من الأمرين ما اقتضته في وقته. اهـ.
والله أعلم.