الأحاديث المعلة في الصلاة [23]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

نكمل شيئاً مما تبقى مما يتعلق بالأحاديث المعلة في أبواب الصلاة.

الحديث الأول: حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يوتروا في هذه الساعة، ثم يأمر المؤذن أن يؤذن أو المقيم أن يقيم )، هذا الحديث رواه الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث عبد الرحمن بن غزوان عن شعبة بن الحجاج عن أبي التياح يزيد بن حميد عن عبد الله بن أبي الهذيل عن رجل من بني أسد عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد تفرد به أبو نوح وهو شيخ الإمام أحمد رحمه الله فيما يرويه من هذا الوجه، ولم يتابعه عليه أحد عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله.

وقد أعل هذا الحديث بجملة من العلل:

العلة الأولى: تفرد أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان عن شعبة بن الحجاج ، ولم يوافقه على ذلك أحد، و عبد الرحمن بن غزوان هو ثقة في ذاته ومن شيوخ الإمام أحمد رحمه الله، إلا أنه ربما تفرد بالشيء الذي يؤخذ عليه، وله مفاريد من الأحاديث هذا منها، ومن جملة مفاريده ما يرويه عن الليث عن مالك بن أنس عن الزهري ، وذلك فيما يرويه عن عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة أو حديث المماليك في مؤاخذة الرجل بما يتعدى به على عبده، وكذلك مؤاخذة العبد بما يتعدى به على سيده بالمقاصة.

وهذا الحديث قد تفرد به عبد الرحمن بن غزوان و أبو نوح فيما يرويه عن الليث ولم يوافقه عليه أحد، وقد أنكره عليه غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله، فإنه قال: هذا حديث باطل.

وكذلك أعله الدارقطني وابن حبان رحمه الله وغيرهم من الأئمة، ولهذا نقول: إن الراوي قد يكون من الثقات ويتفرد بالأحاديث بما لم يوافق عليه، ويرد حينئذ حديثه، وهذا منها.

وينبغي أن نشير إلى مسألة مهمة وهي مسألة تفرد الراوي وما هو الموضع الذي تطرح به روايته، فتفرد الراوي لا يخلو من أربعة أقسام.

وينبغي قبل الولوج إلى هذه التقسيمات أن نتنبه إلى أن الراوي في مثل هذا الموضع له ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: إكثاره وقلته من جهة روايته.

الحالة الثانية: إكثاره وقلته من جهة نكارة حديثه أو عدمها.

الحالة الثالثة: شدة النكارة أو ضعف النكارة، بمعنى: أن النكارة منها ما تكون شديدة يأتي بحديث مطروح طرحه شديد، ومنها ما طرحه يسير وهذا يتباين، فالرجل الذي يأتي مثلاً بحديث مختلق ومنكر، هذا أعظم عند الأئمة لو يأتي بنكارة يسيرة بحديثين أو ثلاثة، ولهذا لابد النظر إلى هذه الأحوال الثلاثة، وهي التي يستطيع طالب العلم بها تمييز تلك الرواية أو تمييز ذلك الراوي هل روايته في ذلك هي مما تقبل أو تطرح، هذه المواضع هي الحكم في هذه الأقسام الأربعة.

القسم الأول: أن يتفرد الراوي المكثر بالرواية بحديث قليل يستنكر عليه، وهذه النكارة ليست بشديدة، حينئذ نقول: إن النكارة هذه تجعل العلماء لا يطرحون حديثه؛ لأنه مكثر، ونكارة حديثه قليلة، وهذه النكارة في ذاتها ليست نكارة شديدة.

والعلماء يقسمون النكارة على نوعين:

نكارة يرد بها الحديث، ونكارة لا يرد بها الحديث، النكارة التي يرد بها الحديث إما أن تكون شديدة وهي في حكم المختلق والموضوع والمطروح، هذه ترد الرواية وتقدح في الراوي، والعلماء عليهم رحمة الله حينما يقولون في بعض الروايات أن هذا الراوي تفرد بحديث منكر من ألف حديث هذا لا يضره، لكن أحياناً يجعلون الحديث الواحد شديد النكارة مما يطرح الراوي لشدة ما جاء به، وهذا كما جاء في سؤالات أبي زرعة لما سئل عن عمر بن عبد الله قال: تفرد بثلاثة أحاديث عن يحيى بن أبي كثير ترد له خمسمائة حديث، يعني: لشدة هذه النكارة، ولكن قد يأتي بأربعة أو خمسة النكارة في ذلك يسيرة.

والنكارة التي تطرح وذلك بأن يأتي بحديث شبه مختلق، أو مكذوب، هذا يرد الحديث، ولهذا لابد من النظر إلى جنس النكارة من جهة القوة والضعف، وهذا يرجع فيه إلى هذه الأحوال الثلاثة بحيث طالب العلم يستطيع في ذلك أن يرد أو لا يرد.

القسم الثاني: أن يكون الراوي مكثر الرواية بحديث قليل منكر ولكن نكارته في ذلك شديدة ترد الحديث ولو كان كثيراً، ومقياس العلماء في هذه النكارة أنهم يقولون: أن الحديث المنكر شبيه بالاختلاق، والوضع دليل على أن ناقله ليس بعالم وليس بضابط، أما ليس بعالم فهو يرى المفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يمر عليه فليس بفقيه، إما أن يكون صاحب صحف وتدوين ونحو ذلك، والعلماء لابد أن ينظروا إلى هذين الاعتبارين من جهة اعتبار قوة النكارة أو عدمها، والنكارة في ذلك إذا أصبحت شديدة فهذا مما يؤثر على الراوي ولابد من النظر في ذلك.

ومقياس الكثرة والقلة بحسب طبقة الراوي، فالطبقة كلما كانت متقدمة لم يحتج العلماء إلى عدد كثير من الرواية؛ لأن الدواوين أو جمع المرويات من البلدان لم يكن متوفراً بخلاف من تأخر، ولهذا تجد عند المتأخرين مثلاً في طبقة الإمام أحمد أو طبقة شيوخه كـوكيع وغيرهم من الرواة، هؤلاء من شيوخ الإمام أحمد لديهم أحاديث بالآلاف وربما تزيد على عشرة آلاف أو عشرات الآلاف، هذه الأحاديث التي يروونها ذلك أنها لما جمعت وارتحل الناس إليها أخذوا يدونونها في صحف وفي رقاق وجلود، وأخذوا يحدثون بها الناس فأصبحت مجموعة، بخلاف النقل من الأفواه، وهذا لا يعني أن الجامع في ذلك هو أعظم من غيره منزلة، ولكن هذا بالاعتبار، بمعنى: أن وكيع بن الجرح يكون أكثر أحاديث ممن تقدم مثلاً من التابعين كـقيس بن أبي حازم ؛ لأن طبقته قريبة من الصدر الأول والأحاديث في ذلك الناس قل ما يحتاجون إليها، لضعف الحاجة من جهة الخلاف وعدم وروده عندهم واستقرار العمل على ذلك، وكذلك أيضاً ضعف الأشياء المولدة في مسائل الدين، ولهذا تجد الطبقة الأولى من التابعين هم أقل عدداً من الطبقة التي تليهم، بل الأحاديث التي عند شعبة بن الحجاج هي أكثر من أحاديث أبي هريرة نفسه وهو صحابي جليل، وأكثر من حديث عمر ، وأكثر من حديث أبي بكر الصديق وهكذا، ولهذا نقول: إن كثرة الحديث وقلته لابد أن ينظر فيه إلى الطبقة، الطبقة كلما تأخرت أصبحت الأحاديث المطلب في ذلك الكثرة والمقياس في ذلك يقل.

ولهذا الإمام أحمد رحمه الله يقول في حديث عبد الملك بن عمير: له حديث قليل ويخطئ فيه كثيراً، لم يرو إلا خمسمائة وهي قليلة وخطؤه فيها كثير، خمسمائة بالنسبة للطبقة التي هو فيها، والشيوخ الذين أدركوا ومجالس الحديث فما جاء إلا بخمسمائة حديث هذه قليلة! وخطؤه في ذلك كثير، ولهذا يرد الإمام أحمد حديثه ويضعفه جداً.

هذا الراوي عندنا وهو شيخ الإمام أحمد رحمه الله الذي يروي عنه عبد الرحمن بن غزوان ، يروي هذا الحديث وهو من شيوخه، الإمام أحمد رحمه الله يثني عليه ويقول: رجل عقلاً من الرجال، يعني: رجل كامل، ووثقه غير واحد من الأئمة كـابن المديني و يعقوب بن شيبة وغيره، ولكن له مما يستنكر منها هذا الحديث.

وكذلك أيضاً من الأحاديث التي تقدم حديث قصة المماليك في القصاص، هذه الأحاديث التي جاءت وأخذت عليه هي قليلة بالنسبة لكثرة حديثه، ثم أيضاً إن هذه النكارة ليست مما يطرح به الحديث باعتبار أن هذه الأحاديث بهذه الألفاظ لا يقطع بكذبها واختلاقها؛ لأن ظاهر حديث قصة المماليك فيه مسألة القصاص في الحسنات والسيئات ( أن الله عز وجل يأخذ من هذا فإذا زاد هذا على هذا أعطاه حقه )، وهذا يدل عليه في حديث النبي عليه الصلاة والسلام في قصة المفلس قال: ( ما تعدون المفلس بكم؟ )، وكذلك أيضاً في حديث عبد الله بن أنيس و جابر في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( بالحسنات والسيئات ), وغير ذلك من الأحاديث، فهذا المعنى الدلالة فيه.

والعلماء عليهم رحمة الله إنما يحملون الحديث المختلق الذي اختلاقه بين ويجعلون النكارة فيه شديدة يعرفونه في مخالفة المعنى، فذلك أن بعض الأحاديث تكون مكذوبة لكن صعب اكتشاف الكذب فيها، لماذا؟ لأنها تجري وفق الجادة، كشخص يبتكر إسناد لحديث: ( بني الإسلام على خمس )، هذا الحديث حديث ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو يأتي بمعناه أو يزيد فيه شيئاً عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في أحاديث أخر، هو المتن في ذلك يصعب معرفة النكارة فيه والوضع، ومعرفة ذلك يرجع فيها إلى جملة من القرائن في ذلك، منها ما يتعلق في الإسناد ومنها ما يتعلق بتركيب المتن.

القسم الثالث: أن يكون الراوي مقل الرواية، ويتفرد بحديث منكر قليل بالنسبة لما روى، والنكارة في ذلك يسيرة، مثلاً يأتي بمائتين ويأتي مثلاً بالمنكر بثلاثة أربعة أو شيء من هذا مما يستنكره الأئمة عليه، ونكارته في ذلك ليست شديدة، العلماء يضعفون هذا، ولكنهم لا يطرحون حديثه، ويصفونه بالوهم والغلط.

القسم الرابع: قلة الحديث وكثرة النكارة وشدتها، هذا الوضع، وربما اتهموه بحديثه بالكذب، وقل ما مثل هذا الراوي يوجد إلا ويتهم هو في ذاته بأنه يكذب، والعلماء عليهم رحمة الله لا يختبرون الناس بأقوالهم بين الناس في البيع والشراء حتى يعرفوا صحة حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن يستعملون أمثال هذه المعايير غالباً، وإن وجد من النقاد عليهم رحمة الله من ينظرون إلى حال الراوي مع الناس ثم يقومون بالحكم على حديثهم، هذا الحديث هو حديث علي بن أبي طالب قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان عن شعبة عن أبي التياح يزيد بن حميد عن عبد الله بن أبي الهذيل عن رجل من بني أسد عن علي بن أبي طالب .

تفرد به عبد الرحمن بن غزوان شيخ الإمام أحمد ، تفرد بهذا الحديث وهو ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالوتر في هذه الساعة، ثم يأمر المؤذن أن يؤذن، أو المقيم أن يقيم )، يعني: أن ذلك يتأخر حتى لو دخل وقت الفجر.

العلة الثانية في هذا الحديث: جهالة الراوي عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله ، فإن الذي يرويه هو رجل من بني أسد عن علي بن أبي طالب ، وهذا الحديث بهذه العلة كاف في رده.

العلة الثالثة: أن هذا الحديث فرد في جميع طبقاته، ومثله يشتهر خاصةً إذا اقترن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوتر في ساعة بعينها، ومثل هذا مما يرد بالتفرد.

الحديث الثاني: حديث أبي ذر عليه رضوان الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بالوتر بعد الفجر )، يعني: بعد دخول وقت الفجر، هذا الحديث رواه الطبراني في كتابه المعجم الأوسط، وكتابه مسند الشاميين، وابن عساكر أيضاً في تاريخ دمشق من حديث يحيى بن حمزة عن ثور بن يزيد عن علي بن أبي طلحة مولى آل العباس عن عبد الملك بن أبي ذر الغفاري عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث معلول بجملة من العلل:

الأولى: تفرد به علي بن أبي طلحة عن عبد الملك ، و علي بن أبي طلحة وإن كان في ذاته صالحاً صدوقاً إلا أن له مفاريد، ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: يتفرد بالمنكرات، وتفرد بهذا الحديث عن عبد الملك بن أبي ذر .

الثانية: أن عبد الملك بن أبي ذر تفرد بهذا الحديث عن أبيه وهو ليس بالمشهور، وحديثه هذا يرويه عن أبيه، وأولى من يروي عن الراوي من كان قريباً منه كأبنائه وخاصة أصحابه ونحو ذلك، ومثل هذا التفرد يحمل عادةً، وتفرد عبد الملك عن أبيه يحمل عادةً، ولكن لو لم يكن بمثل هذا المتن، ولو لم يكن أيضاً من رواية علي بن أبي طلحة عن عبد الملك ، وذلك أن هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بالوتر بعد الفجر، النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا خارج عن وقته الفاضل، فكيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأداء شيء في زمنه لو قيل بجوازه لكان مفضولاً؟ ولم يكن أمر النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه.

ولهذا نقول: إن هذا الحديث حديث منكر، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالشيء المفضول، ولو كانت قضية عين لاحتمل ذلك، ولكن ظاهر السياق أنها جاءت عموماً بالأمر بالوتر بعد الفجر.

الثالثة: أن هذا الحديث فرد من هذا الوجه عن أبي ذر ، و أبو ذر له أحاديث وله أصحاب كثر، وتفرد يحيى بن حمزة عن ثور بن يزيد عن علي بن أبي طلحة عن عبد الملك عن أبي ذر أيضاً مما يستنكر، ولهذا نقول: إن هذا الحديث حديث منكر.

الحديث الثالث: حديث عائشة عليها رضوان الله: أن أبا الدرداء عليه رضوان الله نهى عن الوتر بعد الفجر، فذهب رجال إلى عائشة عليها رضوان الله فسألوها فقالت: كذب أبو الدرداء ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوتر بعد الصبح.

هذا الحديث رواه الإمام أحمد و البيهقي وغيرهم من حديث ابن جريج عن زياد عن أبي نهيك عثمان بن نهيك عن عائشة عليها رضوان الله، وهذا الحديث أيضاً معلول بجملة من العلل:

الأولى: أن هذا الحديث يرويه أبو نهيك وهو عثمان بن نهيك وليس بالمشهور وهو مقل الرواية، ثم أيضاً بتفرده بهذا الحديث بروايته عن عائشة عليها رضوان وليس من خاصة أصحابها، ولا من المعروفين بالسماع منها أيضاً، ولهذا طعن بعض النقاد بهذا الحديث بسبب عدم معرفة سماع أبي نهيك من عائشة عليها رضوان الله، ومثل هذا الحديث لو كان موجوداً عند عائشة لأذاعت به، وهذا دليل على نكارته، مع كونه مستوراً وهو عثمان بن نهيك يعني: مقل الرواية والرواة عنه قلة، وعائشة عليها رضوان الله من يروي عنها من المعاني جليلة القدر الذي هو فيصل في بابه، ينبغي أن يكون من خاصتها.

الثانية: أن هذا الحديث يعارض ما ثبت في الصحيحين عن عائشة عليها رضوان الله، أنها قالت: انتهى وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحر، ومعنى هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يوتر بعده، لا يوتر بعد السحر، والسحر ينتهي بالفجر، وقولها عليها رضوان الله: وانتهى وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحر، إشارة إلى أنه لا يوجد وتر للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ولو كان عند عائشة عليها رضوان الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوتر بعد الفجر لنقل ذلك عنها خاصة أصحابها ممن يدخل عليها، وممن هو عارف بحديثها، من أصحابها كـالقاسم و عمرة و سليمان بن يسار وغيرهم ممن يروي عن عائشة عليها رضوان الله، ولهذا نقول: إن هذا الحديث أيضاً حديث منكر.

الثالثة: تفرد الرواة بهذا الحديث من هذا الوجه، فإنه يرويه ابن جريج عن زياد عن أبي نهيك عن عائشة عليها رضوان الله في قصة الرجال الذين جاءوا إلى أبي الدرداء فنهى عن الوتر بعد الصبح فذهبوا إلى عائشة عليها رضوان الله، فقالت: النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالوتر بعد الصبح، و( كان النبي عليه الصلاة والسلام يوتر بعد الصبح ).

وجاء هذا الحديث من وجه آخر رواه حاتم بن سالم الأعرجي البصري عن عبد الوارث بن سعيد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء بهذا الحديث، وهذا الحديث جاء موقوفاً وجاء مرفوعاً، يرويه عبد الوارث بن سعيد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء مرفوعاً، ويرويه هشيم كما جاء في المصنف عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الدرداء موقوفاً عليه، والصواب أنه موقوف عن أبي الدرداء لا مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرابعة: وذكر بعض الحفاظ أن من وجوه إعلال هذا الحديث: أنه روي عن أبي الدرداء خلاف هذا الحديث، وهذا أمارة على التعارض في المتن، وهذا من قرائن عدم الضبط؛ لأن الأصل في الشريعة الإحكام والوضوح، ثم سواءً كانت المعارضة بالوقف أو بالرفع فهي أيضاً من قرائن الإعلال.

الحديث الرابع: حديث أبي هريرة عليه رضوان الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر )، هذا الحديث رواه الحاكم في كتابه المستدرك و البيهقي وغيرهم، من حديث محمد بن فليح عن أبيه عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث إسناده على شرط البخاري ، وقد أخرج البخاري رحمه الله بهذا الإسناد من حديث محمد بن فليح عن أبيه عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملةً من الأحاديث ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حق الإبل أن تحلب على الماء )، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا )، وغير ذلك من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت بهذا الإسناد.

وقد أخرج أيضاً البخاري من حديث محمد بن فليح عن أبيه عن هلال بن علي عن عطاء عن أبي هريرة من غير طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة ، وهذا أمثل شيء جاء في هذا الباب، وفي النفس منه شيء، وذلك أن البخاري رحمه الله عادةً يخرج أمثال هذه المعاني وهو على شرطه، وقد وقف على أحاديث محمد بن فليح قطعاً ومنها هذا الحديث، فلماذا لم يخرجه؟

وما تركه البخاري رحمه الله من الأحاديث على نوعين:

أحاديث هي داخلة في شرطه إسناداً ومعنى أو متناً، الثاني: ما لا يدخل في شرط البخاري ، وذلك أن ما لا يدخل في شرط البخاري له نظرة، وما كان في شرط البخاري له نظرة أخرى، ما يدخل في شرط البخاري من جهة المعاني والفقه وهو على شرطه إسناداً اكتملت أركان الإيراد، فإذا لم يخرج البخاري حديثاً في باب من الأبواب ويخرج عادةً مثل هذا الحديث فلم يخرجه وإسناده على شرطه أمارة على تركه عمداً، إما تركه استغناءً بحديث في الباب مثله؛ لأن الأحاديث كثيرة التي تدل على معنى من المعاني عن النبي عليه الصلاة والسلام، فـالبخاري رحمه الله لا يورد كل الأحاديث في الباب في فرضية الصلاة أو فرضية الصيام أو الحج أو أحكام الطواف وغير ذلك، وإنما يورد من الأحاديث ما صح عنده وكان من أعلاها وأجلاها معنىً، وقد يتوازن البخاري في مسألة الصحة قد يتنازل البخاري عن شدة الصحة إلى ما يدخل في شرطه من الصحة إذا كان المعنى أجلى وأوضح، فيورده في هذا الباب ويدع ما هو أقوى منه، وذلك لجملة من المقاصد.

ولهذا نقول: إن البخاري رحمه الله إذا كان الحديث على شرطه من جهة الفقه ثم نظرنا في إسناده وهو على شرطه أيضاً من جهة الإسناد ثم تركه فهذا قرينة على إعلاله؛ لأن هذا الحديث أصل في قضاء الوتر وهو أصح شيء جاء في هذا الباب، والبخاري رحمه الله إنما تركه إما لمخالفته للأحاديث الواردة في هذا الباب في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً بقضاء الوتر، إلا ما جاء في حديث عائشة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا فاته حزبه من الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة )، وهذا ليس وتراً وإنما شفعاً فيصلي النبي عليه الصلاة والسلام من النهار، فقضاء الوتر في ذلك يخالف عادة النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا يظهر، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك من جهة العمل الوفرة المتكاثرة في صلاة النبي عليه الصلاة والسلام في الوتر في وقته وانتهى وتر النبي عليه الصلاة والسلام إلى السحر، كذلك أيضاً ما جاء في الباب من جهة قضاء حزب الليل في النهار يصلي ثنتي عشرة ركعة، كما جاء في حديث عائشة ولعل البخاري تركه لهذا الأمر.

ولهذا نقول: إن النظر إلى هذين الوجهين في ما كان من شرط البخاري هو ما كان من شرطه إسناداً ومتناً، أو ما لم يكن من شرطه، إذا لم يكن من شرطه إسناداً فهذا يلتمس فيه علة إذا لم يكن من شرطه إسناداً، وإذا لم يكن من شرطه متناً فهذا ليس بالضرورة أن يكون معلولاً؛ لأنه لا يورد دائماً من الأحاديث التي لا تدخل في بابه في معاني فضائل البلدان، وأخبار الأمم في السابقين، وكذلك أيضاً كثير من أحكام أو مسائل الأمم اللاحقة ونحو ذلك، فهو لا يتقصد إيراد ذلك، وإن أورد من ذلك شيئاً في كتابه الصحيح فيورد شيئاً من أصولها أو ما صح منها للدلالة عليها والدلالة على غيرها.

هذا الحديث هو من حديث محمد بن فليح عن أبيه عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن عائشة عليها رضوان الله، وهذا عن أبي هريرة عليه رضوان الله، فهذا الإسناد بتمامه أخرج البخاري منه في مواضع، وتركه مع الحاجة إلى مثل هذا المتن في قضاء الوتر أمارة على إعلاله.

ثم أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر في حديث من الأحاديث بقضاء النوافل، بمعنى: أن الإنسان إذا فاتته راتبة العصر يصليها بعده، فعل النبي عليه الصلاة والسلام لكنه ما أمر به، كذلك أيضاً إذا فاتت الإنسان راتبة الظهر يصليها بعده أو نحو ذلك، هذا لا يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بذلك خبر، وهذا في الأمر بصلاة الوتر بعد الفجر في ذلك خروج عن هذا الأصل، وهذا يحتاج إلى شيء سالم حتى من دقائق القوادح، وبعض الأئمة عليهم رحمة الله يصححون هذا الحديث، وهو أمثل شيء جاء في الباب من جهة قضاء الوتر، ومن حسنه أو قواه له وجه، ولكن في النفس منه شيء في ترك البخاري رحمه الله له.

شرط صاحب المصنف عموماً سواءً كان البخاري أو غير البخاري يعرف بعدة أمور:

الأول: أن ينص على ذلك في كتابه، إما في المقدمة أو في كتاب مفرد، وذلك مثلاً: كشرط الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح نص على شرطه في المقدمة، أو أبي داود رحمه الله كما في كتابه الرسالة لأهل مكة فإنه نص على ذلك، وغير ذلك ممن ينص عليه، أو ينص على شرطه في كتاب من كتبه، وذلك كـالترمذي رحمه الله في كتابه العلل، فله كتاب العلل وهو أصلاً في آخر السنن ألحقه فيها، وذكر أيضاً شيئاً وافراً من شروطه في كتابه السنن.

الثاني: أن يعرف ذلك بالسبر لمنهجه، أن يديم الإنسان النظر في كتابه فيقوم بإخراج الأحاديث التي أخرجها ثم بالتأليف بينها والنظر في معانيها، وكذلك أيضاً في الرواة الذين أخرج لهم وانتظامهم، وكذلك بلدانهم وشيوخهم وتلامذتهم، وتراجم الأبواب، واقتران هذه التراجم بالمتون الواردة فيها، طريقة ترتيبه للأحاديث وتقديمه لبعض الأحاديث على بعض، أو بعض الرواة على بعض، اعتنائه برواية بعض الأحاديث عن بعض أهل البلدان وعدم روايته للبعض الآخر وغير ذلك، يعرف الإنسان في ذلك نفس ذلك المصنف سواءً كان البخاري أو غير البخاري.

الثالث: أن ينص أحد من الأئمة على منهجه في هذا ممن له عناية في ذلك مثلاً كـابن رجب رحمه الله له عناية في البخاري ومعرفة بعادته، كذلك أيضاً الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه الفتح، وغير أولئك الذين لهم عناية في مصنفات سبروها ونظروا فيها وتأملوا فيها أكثر من غيرهم، فكانوا من جهة النظر والحكم في ذلك من أهل البصيرة والنظر والنقد، فإنهم يقدمون حينئذ على غيرهم، ولهذا نقول: إن معرفة الشرط يلمس في ذلك.

الرابع: من عنوان الكتاب. فالبخاري رحمه الله عنون كتابه بالجامع المختصر المسند الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه، هذا نعرف أنه قصد في ذلك المسند، وأن المعلقات ليست على شرطه، كذلك أيضاً أفعال النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا قرناها بالسبر عرفنا الأحكام والمواضع التي يرد فيها، فإنه يورد في ذلك في مسائل الدين ما احتاج إليه الإنسان في عمله، كذلك أيضاً ما كان تأصيلاً في أبواب الفتن في ضبط القواعد في هذا الباب في أبواب الفتن، في أبواب أشراط الساعة ونحو ذلك، يورد الأصول الظاهرة في هذا الباب عن النبي عليه الصلاة والسلام، ما يتعلق بفضائل الأفراد فضائل الناس فضائل الصحابة على أعيانهم يورد نماذج شيء من ذلك من كبار الصحابة والعلية من الفقهاء، ولا يورد جميع ما جاء في هذا الباب، كذلك أيضاً ما يتعلق بفضائل البلدان وغير ذلك هذا من جهة أصله ليس من شروط البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح.

الخامس: إذا أورد البخاري رحمه الله حديثاً في الباب دون ذلك الحديث، وهناك غيره مما هو في بابه أولى بالدلالة منه، يعني: أن هذا على شرطه، الأولى أن يورده فلما لم يورده دل على أنه أعله، وهذا يرجع إلى ملكة الإنسان وقوة نظره وإدامته بالنظر في الأحاديث، وهذا يختلف فيه الإنسان بحسب النظر والتمكن في هذا الباب.

الحديث الخامس: حديث الأغر المزني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أصبحت ولم أوتر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الوتر بالليل، قالها ثلاثاً أو أربعاً، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: قم فأوتر )، هذا الحديث يرويه البزار في كتابه المسند من حديث يحيى بن أبي كثير عن زهير بن معاوية عن خالد بن أبي كريمة عن معاوية بن قرة عن الأغر المزني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفيه شيخ البزار في كتابه المسند وهو صالح بن معاذ ، وهو مقل الرواية، وقد تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه، وللحديث علة أخرى، فقد جاء هذا الحديث عن زهير بن معاوية عن خالد بن أبي كريمة عن معاوية بن قرة عن الأغر المزني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف فيه على خالد بن أبي كريمة ، يروي هذا الحديث زهير بن معاوية فجعله مسنداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، خالفه في ذلك غير واحد من الحفاظ، يرويه وكيع بن الجراح كما في كتابه عن خالد بن أبي كريمة عن معاوية بن قرة مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يرويه أو تابع وكيعاً عليه في روايته لهذا الحديث مرسلاً، تابعه عبد الله بن إدريس كما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف عن خالد بن أبي كريمة عن معاوية بن قرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وتابعه كذلك أيضاً سفيان بن عيينة كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف عن سفيان بن عيينة عن خالد بن أبي كريمة عن معاوية بن قرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهذا هو الصواب.

ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقضاء الوتر بعد الفجر مرفوعاً إليه عليه الصلاة والسلام، ولكن جاء في ذلك جملة من الموقوفات، في قضاء الوتر.

هذا الحديث في تفرد البزار في روايته عن أصحاب المسانيد المشهورة والسنن، هذا من قرائن النكارة والغرابة، فإن مسند البزار من مواضع المفاريد، وتفرده برواية مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم قرينة عند الحفاظ على النكارة، ومثل هذا لو جاء بإسناد صحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام لرواه أصحاب المصنفات المشهورة واعتنوا به، ولكن لما كان معلولاً بالإرسال وتفرد به مرسلاً بعض الرواة وخالفه من هو أحفظ منهم دل على عدم صحته ونكارة رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصله.

جاء عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله صلاة الوتر بعد الفجر، قد روى الإمام مالك في كتابه الموطأ عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه رقد ثم قام بعدما كف بصره فقال لمولاه: انظر ماذا فعل الناس، فذهب مولاه فقال: صلى الناس، قال: فقام فأوتر ثم صلى ركعتين ثم صلى الصبح، وجاء ذلك أيضاً عن عبد الله بن مسعود فيما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله، وجاء ذلك أيضاً عن عروة بن الزبير ، وجاء أيضاً عن القاسم بن محمد ، فإنه كان يصليها بعد الفجر، وروي أيضاً عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله قد رواه أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان أنه كان يصلي الوتر بعد الفجر، وروي عن جماعة أنهم كانوا ينهون عن ذلك.

الإمام مالك رحمه الله في كتابه الموطأ بعدما أخرج أثر عبد الله بن عباس ، وما جاء عن عبادة وعن القاسم بن محمد و عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: وذلك لمن لم يكن له عادة، يعني: أن الإنسان لا يقضي الوتر إلا إذا كان معذوراً بنوم، حتى لا يجعل الإنسان الوتر من صلاة النهار فالله عز وجل قد جعلها وشرعها صلاةً لليل وليست صلاةً للنهار، فإذا عتاد الإنسان على النوم عن وتره فيصليها بعد طلوع الفجر فقلب ذلك أو قلب شرعتها من صلاة الليل إلى صلاة النهار، ولو صلاها الإنسان على سبيل القلة في حال ورود عذر وقبل صلاة الفجر، فهذا لا بأس به، وهو على أثر في هذا، وبالله التوفيق.

الفرق بين قضاء الوتر قبل صلاة الفجر وبعدها

السؤال: هل يفرق بين قضاء الوتر قبل صلاة الفجر أو بعد صلاة الفجر؟

الجواب: من العلماء من يؤكد على أداء صلاة الوتر قبل الفجر، وهذا جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله، كما رواه عن عروة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لا أبالي إذا أقيمت صلاة الفجر أن أصلي الوتر، يعني: أنها تتأكد أدائها قبل صلاة الفجر، وكأن تأخيرها بعد صلاة الفجر هو تأخير يخالف التأخير قبل الفجر أو بعد طلوع الفجر وقبل الصلاة، وجاء هذا أيضاً عن عبد الله بن عمر .

ولكن بعض الفقهاء يرون أن الإنسان لا يصلي الوتر في محضر الجماعة حتى لا يقع عليه النهي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )، وإنما يخرج الإنسان من المسجد أو يصلي في موضع بعيد ويتدارك على هذا القول، والأولى أن يدخل مع جماعة المسلمين ويصلي الفريضة فإنها آكد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ).