الأحاديث المعلة في الصلاة [32]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

تكلمنا على قراءة الفاتحة في الصلاة سواءً كانت سرية أو جهرية، وشيئاً من الأحاديث الواردة في ذلك.

الحديث الأول: حديث أبي هريرة عليه رضوان الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة )، هذا الحديث يرويه محمد بن عباد الرازي عن أبي يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيمي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث فيه جملة من العلل:

الأولى: أنه تفرد به محمد بن عباد الرازي ويرويه عن أبي يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيمي ، وهؤلاء ضعفاء لا يحتج بحديثهما، و أبو يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيمي أشد ضعفاً من محمد بن عباد الرازي ، ضعفه غير واحد من الأئمة عليهم رحمة الله كـابن معين وغيره.

وأما محمد بن عباد الرازي فقد ضعفه غير واحد من الأئمة كـالدارقطني عليه رحمة الله، إلا أن أبا يحيى منهم من يضعفه جداً كـابن نمير كما نقل ذلك البخاري عليه رحمة الله تعالى عنه، يقول: قال ابن نمير: ضعيف جداً، يعني: إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى التيمي ، وتفردهما بهذا الحديث أمارة على شدة ضعفه.

الثانية: أن هذا الحديث في عموم الإطلاق يحتاج إلى ما يعضده في أمور المتن، ولا وجه يثبت أيضاً فيما يعضده، وقد جاء من معناه من وجه آخر عند الدارقطني في كتابه السنن من حديث زكريا أبي يحيى الوقار عن بشر بن بكر عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد به زكريا أبي يحيى الوقار وهو متروك الحديث، قد اتهمه بالوضع غير واحد كـابن عدي عليه رحمة الله في كتابه الكامل، فإنه قال: كان يضع الحديث.

وهذا الحديث هو في سياق ما تقدم من معانيه من الأحاديث الواردة في ذلك وهي شديدة الضعف، والأحاديث بهذا الإطلاق عن النبي عليه الصلاة والسلام لا يثبت منها شيء، ولا يخلو حديث بعلة شديدة لا تجعله يقوم بغيره فضلاً عن أن يقوم بنفسه.

وجاء معناه أيضاً من حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى. وهذا الحديث على ما تقدم هو حديث منكر.

الحديث الثاني: حديث عبادة بن الصامت عليه رضوان الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فما زاد )، يعني: الزيادة على الفاتحة، وهذا الحديث من الأحاديث المشكلة التي وقع فيها خلاف وذلك لكون الذي أخرج هذا الحديث الإمام مسلم في كتابه الصحيح.

أخرج الحديث أحمد في المسند، و مسلم في كتابه الصحيح، و أبو داود ، وغيرهم يروونه من حديث ابن شهاب الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فما زاد ).

هذا الحديث يروى عن ابن شهاب واشتهر عنه، وتارةً تذكر هذه الزيادة في قوله: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، يذكر أحياناً (فصاعداً) يروى في بعض الطرق ( فما زاد )، والأشهر في ذلك فصاعداً، تارةً تذكر هذه الزيادة، وتارةً لا تذكر، أخرج الحديث البخاري مع مسلم وأخرجه مسلم كذلك من طرق عن ابن شهاب عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يذكروا هذه الزيادة: (فصاعداً)، وهذا من قرائن الإعلال، يرويها معمر بن راشد الأزدي عن ابن شهاب الزهري به، وهذه الزيادة أعلت بتفرد معمر بن راشد الأزدي عن ابن شهاب بها، أعلها بذلك البخاري رحمه الله في كتابه جزء القراءة خلف الإمام، وكذلك أيضاً في كتابه التاريخ، وأعل هذه الزيادة أيضاً ابن حبان رحمه الله في كتابه الصحيح، فكلاهما يقول: تفرد بها معمر ولم يتابع عليه، لكن هذه الزيادة جاءت في بعض الطرق عن سفيان بن عيينة عن ابن شهاب الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً ).

ولكن سفيان بن عيينة يرويه عنه بضعة عشر راوياً ، وجلهم لا يذكرون هذه الزيادة، وإنما يذكرون الحديث ولا يذكرون فصاعداً، ولهذا اعتمد البخاري و مسلم الرواية عن سفيان من غير هذه الزيادة، وأخرجها أبو داود رحمه الله في كتابه السنن من طريق سفيان عن ابن شهاب به فذكر هذه الزيادة فصاعداً في هذا الحديث، والصواب: عدم ذكرها وصحتها في الطريقين: في طريق سفيان عن ابن شهاب ، وفي طريق معمر عن ابن شهاب .

أولاً: بالنسبة لرواية معمر بن راشد الأزدي فـمعمر بن راشد الأزدي يروي هذا الحديث عن ابن شهاب الزهري ، و ابن شهاب الزهري مدني ومن أئمة المدنيين، وتفرد معمر بن راشد بهذه الزيادة وليس من أهل المدينة وليس أيضاً من كبار المختصين بـابن شهاب مع جلالة قدره وفضله، تفرده في هذه الزيادة قرينة على إعلالها، ولهذا ينكرها الأئمة.

وأما ما جاء في رواية سفيان بن عيينة فجل الرواة عن سفيان بن عيينة لا يذكرون هذه الزيادة، وهذا الذي اعتمده الإمام مسلم في كتابه الصحيح، واعتمده كذلك البخاري فلم يذكر هذه الزيادة بأي وجه من الوجوه.

وإخراج الإمام مسلم رحمه الله لهذه الزيادة من حديث معمر عن ابن شهاب إنما أخرجها في غير الأصول، فلم يجعلها صدراً في الباب.

وطريقة الإمام مسلم رحمه الله في إيراد الأحاديث أنه إذا أراد أن يورد حديثاً تاماً سنداً ومتناً فإنه يصدره في الباب، ثم بعد ذلك الغالب عنه أن يورد الأسانيد ويقصر المتون، فيورد الأسانيد متابعةً للحديث الذي أخرجه في أصل الباب.

والإمام مسلم رحمه الله تارةً يذكر المتن مختصراً وهذا عنده ليس بالقليل، وتارةً لا يذكر في ذلك المتن أصلاً، وهذا أيضاً كثير عند مسلم ، وتارةً يذكر المتن كاملاً وهذا قليل، فأيها المعتمد عن الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح من هذه الأحاديث؟ هل ترتيبه لهذه الأحاديث يعني من ذلك مقصداً معيناً، أم لا يعني من ذلك شيئاً؟ فكلها طرق، كطريقة البخاري رحمه الله، فالبخاري رحمه الله ما يورده في كتابه الصحيح متقارب، إلا أن بعض العلماء يقول: إن ما أورده البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح في أصل بابه الذي يدل عليه المتن يختلف عن إيراده لحديث في غير بابه، يعني: أن البخاري ما استدل به في هذا الباب وإنما أورده في باب آخر ومناسبته الأخرى الظاهرة لم يذكره فيه يعني: أنه ليس بتلك القوة لديه مع دخوله في عموم شرطه.

أما الإمام مسلم رحمه الله يختلف في هذا الباب، فما يصدره في الباب غالباً هو المقصود عنده وهو الأقوى والأصح عنده، وهل ما دون ذلك يعتبر عند الإمام مسلم معلول أم مرجوح مع كونه صحيحاً؟ هذا موضع نظر، لكن ينبغي أن نعلم أن الإمام مسلماً رحمه الله له نفس في العلل في كتابه الصحيح، وإن غلب على كتابه التسمية بالصحيح أو صحيح الإمام مسلم ، إلا أن له نفس في إعلال الأحاديث وترتيبها، ونستطيع أن نقول: إن العادة عند الإمام مسلم أن ما يصدره في الباب أنه هو أمثل شيء لديه وهو المقصود من الإيراد، وما يورده بعد ذلك على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن يورد الإسناد بمتن تام، فهذا أمثلها.

النوع الثاني: أن يورد الإسناد مع متن مختصر بلفظه أو بمعناه أو بنحو ذلك يذكره مختصراً فهذا يليه.

النوع الثالث: أن الإسناد ولكن لا يذكر من المتن شيئاً، وذلك كقوله: بنحوه أو بمثله أو بمعناه، ونحو ذلك من العبارات التي تستعمل، وليس هذا على الاطراد.

ولهذا نقول: إن الإمام مسلماً رحمه الله في إيراده لهذا الحديث بذكره فصاعداً لم يورد الحديث تاماً، وذلك أنه لما أورده من حديث سفيان وغيره في صدر الباب من حديث سفيان عن ابن شهاب عن محمود عن عبادة بن الصامت ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، أخرجه بعد ذلك من حديث معمر عن ابن شهاب عن محمود عن عبادة بن الصامت قال بزيادة: ( فصاعداً )، فلم يذكر الحديث وإنما ذكر اللفظة في هذا.

ولهذا نقول: إن الزيادة في حديث معمر أتم من حديث سفيان وغيره ممن روى الحديث هذا عن ابن شهاب من غيرها، وعادة الإمام مسلم أنه يورد المتن الأتم، والمتن التام في ذلك أن يقال: هو قوله: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً )، فعلى هذا المعنى نقول: إن هذا المعنى هو أتم من المعنى الآخر؛ لأن هذا المعنى يشمل الزيادة على الفاتحة، وهذا يشمل الاقتصار على الفاتحة فهو أولى بالتصديق، لهذا لم يصدره الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح، ولم يخرجه البخاري البتة، فهذا من قرائن إعلال الحديث عندهما في هذا الباب.

من وجوه الإعلال التي سلكها ابن حبان رحمه الله مع تفرد معمر بن راشد في هذا الحديث: أن هذا الحديث مخالف للإجماع، والإجماع في ذلك ما يتعلق بأن الذي يجب على الإنسان في صلاته هو قراءة الفاتحة على خلاف أيضاً عند أهل الرأي الذين يوجبون ما تيسر على سبيل العموم، سواءً كان من الفاتحة أو من غيرها.

ولهذا نقول: إن السلف يجمعون على عدم وجوب قراءة سورة مع الفاتحة وأنها مستحبة، وهذا من قرائن الإعلال، وذلك أنها لو كانت ثابتة لنقلت من وجه صحيح مساوٍ للفاتحة، لأنه قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً )، وهذا إشارة إلى أن الصلاة بغير هذه السورة مع الفاتحة تبطل. فلما لم ينقل على وجه مساوٍ للفاتحة دل على نكارتها.

فينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يحكم على حديث أن ينظر إلى دلالة معناه، ثم إذا نظر إلى دلالة معناه ينظر إلى الأحاديث التي وردت في بابه، فما يتعلق بأركان الصلاة يلتمس له إسناداً بمثلها، فإذا لم يجد له إسناداً بمثلها يلتمس قرينة دافعة لعدم ورود الإسناد، ما هي القرينة الدافعة لذلك؟ هل الاستفاضة والعمل؟ وذلك إذا كان ثمة إجماع على هذا الأمر والاستفاضة فإن النفوس لا تتداعى على حمل مثل هذا، فيكون حينئذ الأمر فيه أهون وأيسر من غيره.

وهذا الحديث في حال التماسنا لأحاديث تدل عليه لا نجد في ذلك حديثاً يقارب فضلاً أن يساوي ركنية الفاتحة فدل على نكارتها، وهذه طريقة عند الأئمة عليهم رحمة الله تعالى في هذا الباب، ينبغي أن ينظر إليها طالب العلم حتى يكون أبصر بأحاديث الباب وطرقها، وتصبح لديه ملكة بالإعلال إذا وقف على طريق وحفظ الطرق الأخرى أن يعل الحديث بغيره، ولهذا نقول: إن هذه الزيادة هي زيادة منكرة.

ثمة توجيه للبخاري رحمه الله في كتابه جزء القراءة خلف الإمام أن قوله: ( فصاعداً )، مع قوله بتفرد معمر بن راشد في هذه الزيادة قال رحمه الله: أن يحتمل أن يكون المعنى في هذا أنها كما جاء في الحديث قال: ( لا قطع إلا بربع دينار فصاعداً )، أنه ليس المراد بذلك هو أن الصلاة لا تصح إلا بها، ولكن فإذا جاء الزيادة عليها فالصلاة صحيحة لا يعني من ذلك أنك إذا قرأت الفاتحة واحدة وزدت عليها في ذلك أن هذا باطل، ولكن الشريعة أوجبت هذا الشيء فإن زدت عليه فالحكم في ذلك واحد أنك أسقطت الوجوب بالفاتحة، كحال القطع السرقة بربع دينار إن زاد في ذلك فكان ديناراً أو دينارين أو غير ذلك يدخل في الحكم، ولكن الحد الأدنى في ذلك الذي يسقط به التكليف في هذا هو الإتيان بالفاتحة، وهذا ظاهر في قوله: ( لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً )، يعني: يدخل في هذا الباب ما كان زائداً عنه.

ولكن نقول: إن هذا المعنى يحتمل لو استقام المتن مع الإسناد الوارد ولم يكن ثمة مخالفة، ويحتمل أيضاً أن هذه الزيادة إنما هي إدراج، ومن أدرجها؟ الله أعلم، إما أن تكون عن النبي عليه الصلاة والسلام بهذا ويرد الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام من وجوه متعددة ولا يثبت بوجه واحد بمثل هذا السياق، فهذا أمارة أيضاً على نكارتها، لكن لو جاء الحديث فرد في هذا الباب ولم تأت أحاديث تخالفه فيه بعد اقتصاره على غيره لقيل بهذا الأمر، فكيف والمخالفة في ذات الإسناد!

الحديث الثالث: حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر )، هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد و أبو داود في كتابه السنن من حديث جعفر بن ميمون عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد به جعفر بن ميمون يرويه عن أبي عثمان النهدي ، وتفرده بذلك لا يتابع عليه، وبهذا نقول: إن الحديث منكر، مع أن جعفر بن ميمون ليس بذاك الضعيف شديد الضعف، وقد ضعفه بعض العلماء يقول: يحيى بن معين ليس بذاك، ويقول النسائي : ليس بالقوي، ويقول أبو حاتم وكذلك ابن معين في رواية أخرى: صالح الحديث ولكنه على روايته هذه لا يتابع، كما قال ذلك العقيلي في كتابه الضعفاء.

جعفر بن ميمون لا يتابع على روايته لوجوه:

الوجه الأول: أن جعفر بن ميمون يروي هذا الحديث عن أبي عثمان النهدي ، و أبو عثمان النهدي من طبقة متقدمة وهو من المخضرمين، حتى إنه يسأل هل رأيت النبي عليه الصلاة والسلام أو لم تره، لأنه أدرك الخلفاء الراشدين الأربعة عليهم رضوان الله تعالى، وكان حياً في زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه لم يصحبه، ويروي هذا عن أبي عثمان النهدي ويتفرد بالرواية عنه بذكر سورة مع الفاتحة وينفي الصلاة في ذلك.

ثم أيضاً أن هذا الحديث في متنه أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أبا هريرة أن ينادي في المدينة، فالحديث جاء ليس تحديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام وإنما هو أمر من النبي عليه الصلاة والسلام أن ينادي في المدينة أن لا صلاة، وهذا النداء من المدينة إشارة إلى أن مثل هذا المعنى يستفيض ويشتهر، ونقل أبو عثمان النهدي ذلك عن أبي هريرة عليه رضوان الله أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره ويتفرد بمثل هذا المعنى المستفيض الذي يكون في سكك المدينة وطرقها ثم يتفرد به جعفر بن ميمون وهو بمثل هذه الحال، هذا أمارة أيضاً على النكارة والإعلال.

ولهذا نقول: إن هذا الحديث هو حديث منكر لتفرد جعفر بن ميمون عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: أن الحديث يروى عن أبي هريرة عليه رضوان الله من وجوه متعددة يرويه جماعة من أصحابه لا يذكرون هذه الزيادة فيه، يرويه عنه أبو سلمة ، ويرويه عنه أبو صالح وغيرهم من أصحاب أبي هريرة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون الزيادة على الفاتحة، وكذلك أيضاً قد جاء هذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام عن جملة من أصحابه بطرق صحيحة، ولم يثبت في وجه منها ذكر الزيادة على الفاتحة، وهذا أمارة على النكارة.

ومن المسالك عند العلماء -ويستعمله البخاري عليه رحمة الله كثيراً، وكذلك ابن عدي في الكامل-، أن الحديث إذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام وظاهره الاستقامة من جهة الإسناد، والحديث معناه ثبت من طرق كثيرة، فتفرد هذا الوجه بلفظ فيه ليس في الأحاديث الأخرى، وهو يتضمن حكم ثقيل أنهم يعلون هذا الحديث بالتفرد، ويقولون: لم يوافق عليه الثقات.

وهذا الحديث صححه بعض الحفاظ كـالحاكم رحمه الله في كتابه المستدرك، وتبعه على ذلك جماعة، ويتأولون هذا الحديث بما زاد عن الفاتحة في المعنى في ذلك منهم من يأخذ بالظاهر، ومنهم من يحملها ويخفف في الأخذ بها والإيجاب بها، ولكن نقول: إن الناقد إذا أراد أن ينظر إلى الحديث فلينظر إليه ربطاً للإسناد بالمتن، فإذا نظرت إلى الإسناد مجرداً يمكن أن تقبل مثل هذا الحديث باعتبار أن جعفر بن ميمون ليس بذاك الضعيف، وقد يمشى مثل هذا الحديث، لكن نقول: إن هذا الحديث ثقيل لا يحمله من هو خفيف الضبط، وهذه سنة كونية يجعلها الله عز وجل في الأبدان ويجعلها في الأذهان كذلك، أن الله سبحانه وتعالى يجعل المعاني الثقيلة لا يحملها العقل الخفيف، وكذلك أيضاً الأشياء الثقيلة في الأمور الماديات لا يحملها البدن الضعيف، وهذه سنة كونية ولهذا لابد من النظر إلى الأمرين: النظر إلى المتن، والنظر كذلك إلى الإسناد.

فهو حديث منكر لما تقدم الكلام عليه.

الحديث الرابع: حديث أبي سعيد الخدري عليه رضوان الله تعالى، أنه قال: ( أمرنا -وفي بعض الطرق- أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما زاد )، هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في كتابه السنن، وجاء أيضاً عند أبي داود من حديث همام عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تارةً يذكر النبي، وتارةً يذكر الأمر من غير النبي عليه الصلاة والسلام.

وهذا الحديث تكلم عليه البخاري رحمه الله فقال: لم يذكر قتادة سماعاً من أبي نضرة عن أبي سعيد ، وهذا من البخاري رحمه الله جرياً على عادته في التشديد في مسائل السماع، وروايته عن قتادة عن أبي نضرة يخرجها الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح في مواضع عديدة، وإنما ذكر البخاري رحمه الله ذلك أن مثل هذا الحديث أيضاً يحترز ويشدد فيه، وكذلك أيضاً حال قتادة مما يشدد فيها لأنه موصوف بالتدليس، فاجتمع هذان الأمران لاحتراز البخاري رحمه الله في مثل هذا، وقد يشدد في الراوي الثقة إذا روى حديثاً يقع في النفس منه شيء إذا لم يصرح بالسماع، بخلاف المعاني التي تمضي ويجري فيها العادة، وكذلك أيضاً المعاني لا يشدد في ذلك.

ومن وجوه الإعلال: أن هذا الحديث تارةً يذكر فيه النبي عليه الصلاة والسلام، وتارةً لا يذكر، وتارةً يقال: أمرنا، وتارةً يقال: أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا أمارة على عدم حفظه.

وكذلك أيضاً من وجوه الإعلال: أن هذا الحديث يخالف الموقوف على أبي سعيد الخدري عليه رضوان الله، فإنه كان يأمر بفاتحة الكتاب ولا يأمر بالزيادة عليها، فقد أخرج البخاري رحمه الله في كتابه جزء القراءة خلف الإمام من حديث العلاء عن أبي نضرة عن أبي سعيد أنه سئل بما نقرأ خلف الإمام؟ قال: بفاتحة الكتاب، وهذا أصح، قال البخاري رحمه الله بعد إخراجه لهذا: وهذا أولى، وكذلك أيضاً قال ذلك ابن عدي رحمه الله في كتابه الكامل.

وهذا أيضاً من وجوه الإعلال عند الأئمة عليهم رحمة الله أنهم إذا وجدوا حديثاً مرفوعاً خالفه الموقوف أنهم يعلون المرفوع بالموقوف، وذلك أنه يبعد أن يثبت حديث مرفوع يرويه ذاك الصحابي ثم يخالفه بفتواه، فهذا من القرائن خلافاً للقاعدة التي يجري عليها بعض الفقهاء أن العبرة بما رواه الراوي لا بما رآه، نقول: إذا كان ذلك يحتمل رأياً تأويلاً، فأول الحديث على معنى آخر، ولكن إذا جاء بمعنى يعارض ذلك الحديث، فقول أبي سعيد الخدري عليه رضوان الله في هذا الحديث ليس هو رأي، بل هو حكم مستنده في ذلك إلى شيء مرفوع، فدل على أن الصواب في ذلك هو الوقف على أبي سعيد الخدري ، وأن هذا الحديث لا يصح لأمرين:

الأول: الرفع لا يصح.

الثاني: ما يتعلق بذكر الزيادة فيه التي لا تثبت لا مرفوعة ولا موقوفة، وهي الزيادة على قراءة سورة الفاتحة.

ومن وجوه الإعلال في هذا الحديث: أن هذا الإسناد إسناد بصري، والإسناد يرويه هنا همام عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري ، ولهذا يقول الحاكم رحمه الله: هذا حديث تفرد بالأمر يعني: بذكر الأمر فيه أهل البصرة، يعني: أن الحديث ليس فيه أمر النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أيضاً الذي تفرد به أهل البصرة، وهذا أيضاً من قرائن الإعلال، فينبغي أن ينتبه إليه خاصةً في أبواب المرفوعات، وقد يتفرد أهل البلدان عن أحد من الصحابة بشيء لم يروه غيرهم وهم ثقات فيقبل ما لا يقبل في المرفوع؛ لأن المرفوع تتلقفه الأفواه والأسماع فيؤخذ وينقل ويحدث بذلك، فتفرد أهل البصرة بمثل هذا الحديث وعدم وجوده في معاقل الوحي وهي مكة والمدينة أمارة على نكارته، وهذا ما يستعمله العلماء عليهم رحمة الله في مصنفاتهم وكتبهم بوصف الحديث: هذا إسناد بصري، أو حديث بصري، أو حديث كوفي، أو نحو ذلك، فهذا من قرائن الإعلال.

فمن وجوه البحث عند الكلام على الأحاديث: أن ينظر طالب العلم إلى الإسناد وتسلسله وتركيبه بلداناً، الغالب في نظر طلاب العلم في الأحاديث أنه ينظر في الإسناد لا يهمه من الراوي إلا الثقة والسماع، هذا أمر يشتهر الأخذ بهما أنه ثقة وسمع منه، ما عدى ذلك يضعف في ذلك عند البحث والنظر بحسب اهتمام الطالب أو الناقد بل نقول: ينبغي أيضاً أن ينظر إلى بلدانهم في أي بلد جاء، هل هم أكثر من بلد، وفي أي بلد مر، وكذلك هل ينتسبون إلى بلد واحد، وإذا كان إلى بلد واحد ما الذي جعله لا يوجد عند بقية البلدان، ثم احتمال تفرد أهل البلد بوجه صحيح هل يناسب قبول ذلك المتن أم لا، كما جاء هنا قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب فما زاد )، مثل هذا مما يتفرد به البصريون عن النبي عليه الصلاة والسلام.

ومن وجوه القول بذلك: أن ننظر في فقه البصريين هل يوجد من يقول بالزيادة على القراءة بالفاتحة أم لا، وهل يفتون بذلك أم لا؟ إذا وجدنا أنهم لا يفتون بذلك هذا دليل على أنهم يطرحون الحديث ولا يقولون به، ولهذا نقول: إن قرائن الإعلال ربما لا يجدها طالب العلم منصوصةً أمامه، وإنما ينظر إليها في مواضع ينقدح في ذهنه في عدة قرائن، منها ما يتعلق في البلدان، ومنها ما يتعلق في معنى الحديث، وما يتعلق بفقههم ورأيهم، ومنها ما يتعلق بقوة الإسناد، وعدم مناسبة تركيبة الإسناد للمتن.

ورواية همام عن قتادة أمتن من رواية قتادة عن أبي نضرة ، ثم إن قتادة موصوف بالتدليس وهو أقرب إليه بهذا الأمر، ثم أيضاً أن هذا الحديث لو كان عند أبي سعيد الخدري وكذلك عند أبي نضرة بهذا اللفظ لرواه عنه أصحاب له كثر يروون مثل هذا الحديث ولا يدعونه، وقتادة من الثقات ومن الفقهاء البصريين، لكن روايته عن أبي نضرة ليست بتلك الوفرة التي تناسب أن يتفرد ثقة وصف بالتدليس بمثل هذا الحديث قد خولف من وجه آخر بوقفه.

جاء الحديث مرفوعاً من وجوه أخرى:

أولها: جاء من حديث أبي مسلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري ، جاء تارةً مرفوعاً، وتارةً موقوفاً، يرويه شعبة عن أبي مسلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري ، واختلف فيه على شعبة بن الحجاج على وجهين: تارةً بالرفع، وتارةً بالوقف، المشهور من أصحاب شعبة يروونه موقوفاً من غير ذكر هذه الزيادة وهذا أصح، وقد أعل الرفع في رواية شعبة عن أبي مسلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري الدارقطني رحمه الله في كتابه العلل.

وجاء عند ابن ماجه والترمذي في كتابه السنن من حديث السعدي يرويه عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً، ولكن السعدي في ذلك ضعيف الحديث، فلا يثبت عن أبي نضرة ، ولهذا الأئمة يعلون الرفع في هذا، أعله البخاري رحمه الله، و الدارقطني ، وابن عدي في كتابه الكامل، ولا يثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن وجوه الإعلال لهذا الحديث ولحديث أبي هريرة وكذلك أيضاً للزيادة في حديث عبادة بن الصامت الذي تفرد بها معمر : أن هذا المعنى مع تعدد هذه الطرق لم يخرج البخاري رحمه الله تعالى شيئاً في كتابه ما ينصر ذلك ويؤيده، فهذا قرينة على رده، بل يروي البخاري رحمه الله ما يخالف ذلك، ومعلوم أن قراءة الفاتحة إذا قلنا بالركنية فهي ركن في كل ركعة من ركعات الصلاة، وإذا قلنا بأن القراءة في الصلاة الزيادة على الفاتحة في ذلك، ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ بالفاتحة وبسورة، جاء أيضاً في الصحيح أنه يقرأ في الركعتين بفاتحة الكتاب، يعني: أنه لم يزد عليها وهذا أمارة على إعلال تلك الأحاديث الواردة في باب الزيادة؛ لأن ما وجب في الركعتين الأوليين فإنه يكون واجباً وركناً أيضاً في الركعتين أو الركعة التي تليها؛ لأن الأمر يتعلق بالركعة على سبيل الانفراد.

الحديث الخامس: حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان خلف الإمام، فليقرأ بفاتحة الكتاب لنفسه )، هذا الحديث أخرجه ابن حبان في كتابه الصحيح من حديث عبيد الله بن عمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك ، وقد اختلف فيه على أيوب ، وتارةً يروى مرفوعاً متصلاً مسنداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارةً يروى مرسلاً يرويه إسماعيل بن علية وغيره عن أيوب عن أبي قلابة مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصواب لا يصح في ذلك وصله.

وكذلك أيضاً قد وقع فيه اختلاف في هذا فيرويه أبو قلابة عن محمد بن أبي عائشة عن رجل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا اضطراب في الحديث، ولهذا نقول: إن الحديث معلول بعلل:

الأولى: الاختلاف في وصله وإرساله، والصواب في ذلك: الإرسال، وذلك أن الصواب فيه ما يرويه إسماعيل بن علية وغيره عن أيوب عن أبي قلابة مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأشبه والأقرب بالصواب.

الثانية: الاضطراب وذلك أن الحديث جاء بوجوه: الأول: وجه الوصل وجعله من حديث أنس بن مالك ، الثاني: أنه جاء مرسلاً من حديث أبي قلابة مرسلاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، الثالث: أنه جاء من حديث أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة عن رجل صحب النبي عليه الصلاة والسلام مرسلاً، الرابع: أنه جعل من حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى.

فهو حديث منكر، وذلك أن مثل هذا المتن لو كان لابد أن يرويه بعض الثقات الحفاظ من أصحاب أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى، عن النبي عليه الصلاة والسلام بإسناد متين قوي.

الثالثة: أن هذا الحديث أطلق العموم بقراءة سورة الفاتحة خلف الإمام بنفسه في جهرية وسرية، وهذا يخالف الثابت في ذلك عن جماعة من الصحابة، وكذلك أيضاً ظاهر القرآن في الإنصات عند سماع قراءة الإمام، وهذا على ما تقدم ثبت عن ابن مسعود ، وجابر بن عبد الله ، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الإنسان خلف الإمام إذا كان في صلاة جهرية فإنه يمسك عن القراءة ولا يقرأ، ويستمع للإمام كما هو ظاهر قول الله جل وعلا: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، فأمرنا الله عز وجل بالإنصات وذلك جاء نازلاً في الصلاة، كما نص على ذلك غير واحد من المفسرين.

نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق، والإعانة، والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.