الأحاديث المعلة في الصلاة [25]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنكمل ما توقفنا عنده من الأحاديث المعلة في الصلاة، وتوقفنا عند شيء من أحاديث أبواب الوتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الحديث الأول: حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من فاته وتره من الليل فليصله من الغد )، وهذا الحديث حديث منكر، قد أخرجه الدارقطني في كتابه السنن من حديث رواد بن الجراح يرويه عن نهشل عن الضحاك عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث معلول بعدة علل:

الأولى: أنه تفرد به رواد عن نهشل ، و رواد قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وإن كان صاحب سنة، وقد قوم وحسن حديثه بعض العلماء، كالإمام أحمد عليه رحمة الله فإنه قال: لا بأس به صاحب سنة، إلا أنه فيما يظهر أن الإمام أحمد رحمه الله إنما أراد من ذلك تقويته من جهة الدين والتمسك بجانب العبادة لا مطلق الرواية، وإلا فله جملة من الأحاديث التي تستنكر عليه، وروايته على أقسام:

الأول: ما يتفرد به من أحاديث الثقات، فهذا الأصل فيه النكارة.

الثاني: ما يتفرد به عن سفيان الثوري خاصة، فهذا مما يستنكر أيضاً من حديثه، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله وغيره، أنه يأتي بالمناكير من حديث سفيان .

الثالث: ما يتابع عليه الثقات، فهو حديث مستقيم، وهذا الحديث قد تفرد به ولم يوافق عليه، وكذلك أيضاً فإنه يرويه عن نهشل بن سعيد ، و هو متروك الحديث، كما قال ذلك غير واحد من الحفاظ، وقد كذبه إسحاق كما قال ذلك البخاري رحمه الله، وهو مطروح، وتفرده بذلك أيضاً كاف في رد هذا الحديث، وهذا الحديث هو من حديث نهشل عن الضحاك عن عبد الله بن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من فاته وتره من الليل فليقضه من الغد ).

هذا الحديث لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه، ثم أيضاً هو مخالف لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث في الصحيح وغيره، وذلك أن الوتر لا يقضى وتراً في النهار، وإنما يقضى شفعاً كما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله في الصحيح أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاته وتره من الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة )، وهذا إشارة إلى صلاة الليل كلها سواءً الإنسان أوتر بواحدة أو أوتر بثلاث أو أوتر بخمس أو سبع أو تسع أو أكثر من ذلك، وهذا دليل على نكارة حديث عبد الله بن عمر .

ثم أيضاً في ظاهر لفظ الحديث في قوله قال: ( من فاته وتره من الليل فليقضه من الغد )، هذا في قوله: ( فليقضه من الغد )، الليل يتبعه النهار الذي يليه، والقضاء يكون للإنسان مما يدركه الإنسان فيكون حينئذ من يومه، ولفظ الحديث الذي يستقيم من جهة المعنى في اللغة، وكذلك يستقيم من جهة الوضع والاصطلاح واستعمالات السلف الصالح والصدر الأول أن يقال: فليقضه إذا أصبح أو فليقضه من النهار، لا يقال: فليقضه من الغد؛ لأن الغد بذلك إنما هو لليلة أخرى، فهذا لا يستقيم أيضاً من جهة السياق فضلاً أيضاً عن نكارة إسناده.

الحديث الثاني: حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله، قال: ( بت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً فصلى من الليل ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، فلما انفجر الفجر أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى ركعتي الفجر ثم اضطجع ). هذا الحديث رواه ابن خزيمة و البيهقي من حديث أيوب بن سويد عن عتبة بن أبي حكيم عن طلحة بن نافع عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم,

وهو في مبيت عبد الله بن عباس عند خالته ميمونة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث منكر تفرد بروايته أيوب بن سويد عن عتبة بن أبي حكيم عن طلحة بن نافع عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكارته في إسناده وكذلك أيضاً نكارته في متنه.

أما نكارته من جهة الإسناد فإنه قد تفرد به أيوب بن سويد وهو ضعيف الحديث ضعفه غير واحد من الأئمة، كـالنسائي ويحيى بن معين وغيرهم، وتفرد بهذا الحديث، ويرويه عن عتبة بن أبي حكيم عن طلحة بن نافع عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما نكارة المتن فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوتر لما انفجر الفجر، وهذا لا يحفظ في حديث عبد الله بن عباس في مبيته عند خالته ميمونة عليها رضوان الله، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر من الليل ولم يقل عبد الله بن عباس فلما انفجر الفجر، يعني: أنه طلع الفجر، والنبي عليه الصلاة والسلام الثابت عنه في الصحيح قال: ( إذا خشي أحدكم الصبح أوتر بواحدة )، يعني: قبل الصبح وقبل خروجه.

من العلماء من قال: إن هذا الحديث يرويه أيوب بمعناه، وأن المراد بالفجر الذي ينفجر المراد بذلك هو الفجر الأول وليس هو الفجر الثاني؛ لأن الفجر الثاني يدخل وقت الفجر وينتهي وقت صلاة العشاء على الأرجح، أو وقت صلاة قيام الليل، وحينئذ يدخل في ذلك وقت الصبح وينتهي أداء هذه الصلاة، وعلى هذا المعنى يقول: إن هذا الحديث يحمل على الاستقامة، ويقولون: إن الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقيدة يحمل عليها هذا الإطلاق في انفجار الفجر.

ونقول: إن حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله قد جاء عن عبد الله بن عباس من وجوه متعددة يرويه الثقات، من ذلك ما يرويه كريب مولى عبد الله بن عباس ، و سعيد بن جبير ، وغيرهم عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً جاء من حديث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عبد الله بن عباس في مبيته عند خالته ميمونة ، ولم يذكر في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الوتر بعدما انفجر الفجر، والرواية بالمعنى إذا جاء فيها ما يخالف معنى الحديث ولو بعموم من راوٍ قد طعن في حديثه هذا مما يستنكره الأئمة، ويظهر ذلك في تفرد أيوب بن سويد في هذا الحديث، وهذا أيضاً من قرائن الرد، فإن تفرد أيوب وهو من طبقة متأخرة علامة على نكران هذا الحديث، فهو يرويه أيوب بن سويد عن عتبة بن أبي حكيم عن طلحة بن نافع عن عبد الله بن عباس ، ولو كان من طبقة أصحاب عبد الله بن عباس لاحتمل منه ذلك ولو كان فيه شيء من اللين ما دام الحديث مجملاً وغيره قد بين ذلك، ولهذا نقول: إن هذا الحديث اجتمعت فيه وجوه النكارة والقصة في ذلك ثابتة مشتهرة، وهذا الوجه لم يرد في الأحاديث والطرق المشهورة.

ومن وجوه الإعلال أيضاً: أن مبيت عبد الله بن عباس عند خالته ميمونة عند النبي عليه الصلاة والسلام جاء في الصحيحين، ولم يخرج البخاري و مسلم هذا اللفظ ولا قريباً منه، يعني: ما تفرد به أيوب بن سويد ، وتركهم لذلك أمارة على الإعلال، بعض الأئمة يصحح هذا الحديث وهو حديث أيوب بن سويد ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الوتر بعدما انفجر الفجر )، وذلك يظهر من رواية ابن خزيمة رحمه الله لهذا الحديث في كتابه الصحيح، فإنه لما أخرج هذا الحديث حمله على حديث آخر يبينه ويفصل بين الفجر الأول والفجر الثاني، وقد ترجم على الحديث الذي يفسر هذا الإجمال فجعل حديث أيوب بن سويد مجملاً، وحديث عباد بن منصور مفسراً له، وقد أخرجه من حديث عباد بن منصور عن عكرمة بن خالد المخزومي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس ( أنه بات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل يصلي ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، فلما خرج أو طلع الفجر الأول ) فقيده بالفجر الأول، قال: وهذا يفسر ذاك.

ولكن نقول: إن هذا الحديث أيضاً معلول، وذلك أنه قد تفرد به عباد بن منصور عن عكرمة بن خالد المخزومي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و عباد بن منصور قد تغير في آخره، كما نص على ذلك غير واحد من الأئمة كـأبي حاتم و النسائي و البخاري وغيرهم، وقد وقع في حديثه اختلاط، فلا يدرى أي حديثه أدق، فإذا عرف من شيوخه أن يروي عنه قديماً فإنه أحسن حديثه، وهو في ذاته قد تكلم فيه غير واحد من العلماء من جهة ضعفه، قد ضعفه بعض العلماء، ضعفه يحيى بن معين مرة ووثقه أخرى.

و عباد بن منصور يروي عن من اسمه عكرمة يروي عن اثنين: يروي عن عكرمة بن خالد المخزومي ، ويروي أيضاً عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس، ومولى عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى هذا يروي عن عبد الله بن عباس مباشرة، وأما عكرمة بن خالد المخزومي فإنه يروي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس ، فإنه لم يسمع من عبد الله بن عباس ، قال الإمام أحمد رحمه الله: عكرمة بن خالد المخزومي يروي عن عبد الله بن عباس من طريق سعيد بن جبير ، فإنه لم يسمع منه.

كذلك أيضاً: فإنه متهم أيضاً بالتدليس، يعني: عباد بن منصور ، ولكن اتهامه بالتدليس إنما هو في روايته عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس لا في روايته عن عكرمة بن خالد المخزومي ، وقد نص على هذا غير واحد من العلماء منهم من ينص عليه بالتدليس بالإطلاق، ومنهم من يقيدها بعكرمة، نقول: إن عباد بن منصور يدلس عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس لا عن عكرمة بن خالد المخزومي ، والإمام أحمد رحمه الله وغيره يطلقون وصفه بالتدليس ويوردون في ذلك أنه عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس ، فإنه يروي عنه ما لم يسمعه منه ووقع خلاف في ذلك، هل سمعه أصلاً من عكرمة مولى عبد الله بن عباس أم لا؟

أبو داود رحمه الله جاء كما نقله عنه الآجري أن أبا داود عليه رحمة الله سئل عن رواية عباد بن منصور عن عكرمة سمع منه، قال: سمع منه شيئاً والباقي لم يسمعه، يعني: سمع منه شيئاً يسيراً والأكثر لم يسمعه منه، ابن حبان رحمه الله يرى أنه لم يسمع شيئاً منه، وإنما يروي عن إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن الحصين ويسقط هؤلاء ويرويه عن عكرمة مباشرة، ويرويه عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس مباشرة، وله أحاديث يرويها عباد بن منصور عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس عن عبد الله بن عباس هي من طريق إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن الحصين عن عكرمة عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وينبغي أن نشير إلى مسألة مهمة مما يتعلق بالتدليس وهذا يظهر هنا: أن الأئمة عليهم رحمة الله ربما يصفون راو من الرواة بالتدليس وتدليسه مقيد براو بعينه لا على الإطلاق، وإنما يحملهم على ذلك الإطلاق أمور:

الأمر الأول: لاشتهار هذا القيد عند الأئمة، فهم يعلمون أنه مدلس في روايته عن هذا فقط، وإنما يريد من ذلك إثبات هذا التدليس.

الأمر الثاني: أنه إذا دلس في موضع لا يعني أنه يدلس في غيره، لكن يحتمل أن يجسر على التدليس في غيره، فمن دلس في موضع قد يدلس في غيره ولو لم يثبت عنه، ولهذا في إطلاقات بعض الأئمة على بعض الرواة أنه يدلس في روايته عن فلان أو في قوله: فلان يدلس كما قال الإمام أحمد عن عباد بن منصور: لا يدلس إلا عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس .

فالإمام أحمد رحمه الله أراد بذلك:

أولاً: معرفة هذا الأمر أنه مشهور عنه.

ثانياً: أن من دلس في موضع يحترز منه في المواضع الأخرى، والأئمة عليهم رحمة الله لا يملكون إحاطة تامة لكل ما يتفوه به الراوي، بحيث يحكمون عليه أو يصدرون عن حكم بعد تتبع لجميع مواضع الرواية، وإنما ينبغي لطالب العلم إذا وقف على إمام من الأئمة حكم على راو بأنه يدلس وأطلق، وبعض الأئمة يقيد، عليه أن لا يرد حديثه في غير هذه الرواية ولكن يحترز منها، يحترز من هذه الرواية التي عن غير هذا الراوي، فيلتمس في ذلك نكارة أو يبحث في الطرق وإن وجد واسطةً في ذلك فيرد تلك الرواية، يعني: أنه يكون صاحب احتراز في هذا الأمر، ولا يلزم من ذلك الإطلاق أنه يدلس في غيرها، ولكن إشارة أنه ينبغي أن يحتاط الإنسان بذلك، وحديث عباد بن منصور الذي قد أخرجه ابن خزيمة في كتابه الصحيح هذا حديث لا يصح أيضاً.

إذاً: لا يفسر ما تقدم من حديث أيوب بن سويد عن عتبة بن أبي حكيم عن طلحة بن نافع عن عبد الله بن عباس ، وذلك أنه قد رواه عباد بن منصور عن عكرمة بن خالد المخزومي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى.

وينبغي أيضاً أن نشير إلى أن عكرمة بن خالد المخزومي من يسمى بهذا اثنان وهو من طبقة متقاربة أيضاً، ثقة فقيه وهو صاحبنا هذا، وهو مكي وآل إليه فقه أهل مكة، وثمة آخر وهو أيضاً من أبناء عمومته و عكرمة بن خالد بن سلمة المخزومي ، وهو ضعيف الحديث.

ولهذا نقول: إن هذا الحديث هو حديث عبد الله بن عباس السابق لا يفسره هذا الحديث لضعف هذين الطريقين، وقد أشار إلى ضعفهما ابن رجب رحمه الله كما في كتابه الفتح، وكذلك أيضاً قد ضعف هذا الحديث غير واحد من الأئمة، أما بالنسبة لإخراج ابن خزيمة رحمه الله لهذين الحديثين فنقول: إن ابن خزيمة رحمه الله ربما يحمل بعض الإطلاقات أو ينظر إلى بعض المسائل بمنظار فقهي واسع، بخلاف الأئمة عليهم رحمة الله فإنهم يتقيدون بألفاظ الأحاديث، وربما شددوا في ذلك في النقد، ويعمل الآلة الفقهية ابن خزيمة أكثر في جانب الألفاظ أكثر من الأئمة عليهم رحمة الله من السابقين.

الحديث الثالث: حديث الربيع بن خثيم عليه رحمة الله، قال: ( خرج إلينا علي بن أبي طالب عليه رضوان الله فقال: أتى جبريل نبيكم صلى الله عليه وسلم في أول الليل فقال له: أوتر هذه الساعة، فأوتر فيها، ثم نزل عليه في أوسط الليل، فقال: أوتر في هذه الساعة، ثم نزل عليه، فقال: أوتر في هذه الساعة، يعني: آخر الليل فانتهى وتر النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلوع الفجر )، هذا الحديث أخرجه الإسماعيلي في مسند علي بن أبي طالب عليه رضوان الله من حديث السدي عن الربيع بن خثيم عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله.

وهو حديث منكر من وجوه:

الأول: جهالة رواته الذين يروونه عن السدي ، فقد ذكر هذا الحديث ابن رجب رحمه الله وقال: إسناده مجهول، يعني: الذين يروون هذا الحديث عن السدي عن الربيع بن خثيم عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى.

الثاني: أن رواية السدي عن الربيع بن خثيم هي من الروايات المنكرة، ولهذا تنكب إخراجها الأئمة عليهم رحمة الله.

الثالث: أن الربيع بن خثيم من الأئمة المتقدمين من التابعين، ومثل هذا الحديث لو كان عنده أو عند علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى قبله لنقله الرواة عنه وأثبتوه، ولما لم يكن ثابتاً بمثل هذا دل على نكارته وكذلك رده.

الحديث الرابع: حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح ثم أوتر )، هذا الحديث أخرجه البيهقي في كتابه السنن، من حديث أبي العباس عن محمد بن إسحاق الصغاني عن عمرو بن عاصم عن همام عن قتادة عن أبي مجلز عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا الحديث ظاهر إسناده الاستقامة يرويه من حديث أبي العباس الأصم عن محمد بن إسحاق الصاغاني يرويه عن عمرو بن عاصم عن همام عن قتادة عن أبي مجلز لاحق بن حميد عن عبد الله بن عمر ، ولكن هذا الحديث أراه منكر، وذلك لأمرين:

الأمر الأول: أن هذا الحديث جاء من هذا الوجه موقوفاً على عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، وقد أخرجه البيهقي من حديث شعبة عن عاصم عن لاحق بن حميد أبي مجلز عن عبد الله بن عمر موقوفاً على عبد الله بن عمر أنه لما أصبح أو كاد أن يصبح إن شاء الله أوتر، وهذا أشبه، قال بذلك البيهقي رحمه الله في كتابه السنن.

الأمر الثاني: أن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الوتر قبل الفجر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوتر المصلي قبل طلوع الفجر رواه عبد الله بن عمر عنه من غير وجه، ومن ذلك ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث شعبة بن الحجاج عن قتادة جعله من حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر آخر الليل )، وهذا عن عبد الله بن عمر جاء بألفاظ متعددة في الصحيح، وكذلك أيضاً في السنن، والمسند، وجعل ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام أن وتره عليه الصلاة والسلام بعدما أصبح منكر، ويكفي أنه جاء بالوجهين أيضاً، وهو أيضاً بهذا الطريق من حديث أبي العباس الأصم عن محمد بن إسحاق الصاغاني فجعله موقوفاً على عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى وهذا أشبه.

ولهذا لما أخرج البيهقي رحمه الله المرفوع والموقوف قال في الموقوف: وهذا أشبه، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الوتر بعد طلوع الفجر، وتقدم معنا شيء من ذلك أيضاً من الأحاديث في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الوتر وصلاتها بعد طلوع الفجر، وأنه لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك، وتقدم أيضاً الإشارة عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أنهم صلوا في هذا.

الحديث الخامس: حديث أبي ذر عليه رضوان الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة بعد العصر حتى تطلع تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة )، هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في كتابه المسند، والبيهقي و الدارقطني و الطبراني ، و الإمام الشافعي رحمه الله، وعنه البيهقي و الدارقطني وغيرهم من حديث عبد الله بن المؤمل عن حميد مولى عفراء عن قيس بن سعد عن مجاهد بن جبر عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حديث عبد الله بن المؤمل عن حميد مولى عفراء عن قيس بن سعد عن مجاهد عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث أيضاً منكر إسناداً ومتناً، أما من جهة الإسناد فإنه يرويه عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف الحديث، وقد ترك حديثه غير واحد من الحفاظ، وقد روى هذا الحديث عن حميد مولى عفراء عن قيس بن سعد عن مجاهد ، وتفرده بذلك في هذا الحديث من هذا الوجه، وقد جاء عند ابن عدي في كتابه الكامل فقد أخرج هذا الحديث من حديث عبد الله بن المؤمل عن حميد مولى عفراء عن مجاهد ولم يذكر قيس بن سعد ، وقد أسقط في هذا الإسناد قيس بن سعد ، والصواب ذكر قيس بن سعد ، وقد رواه القداح عن عبد الله بن المؤمل عن حميد مولى عفراء عن قيس بن سعد عن مجاهد عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد به على ما تقدم عبد الله بن المؤمل ، وتابعه متابعةً ليست معتبرة إبراهيم بن طهمان ، تابعه على روايته هذه يرويه عن حميد مولى عفراء به، وهذه المتابعة ليست بمعتبرة، وتفرد عبد الله بن المؤمل وحديثه في ذلك مردود قد ضعفه غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد و أبي حاتم و النسائي وكذلك الدارقطني وغيرهم، وهو متروك الحديث.

ومن علل هذا الحديث أن مجاهد بن جبر لم يسمع من أبي ذر كما نص على ذلك غير واحد من الأئمة كـأبي حاتم و ابن عبد البر رحمه الله في كتابه التمهيد، ونص على ذلك أيضاً البيهقي رحمه الله على أن مجاهد لم يسمع من أبي ذر عليه رضوان الله تعالى.

ومن وجوه الإعلال: أن هذا الحديث لو كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشتهر واستفاض، وهو يتضمن حكماً ظاهراً بيناً في استثناء مكة من أوقات النهي، وثم أيضاً لو كان كذلك لاستفاض عملاً عند الصحابة عليهم رضوان الله تعالى وأصبح فيصلاً في هذه المسألة، ومعلوم أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى منهم من يرى النهي في ذلك كما جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كما جاء في الصحيح، فإنه طاف فلما قضى قبل طلوع الشمس طوافه نظر فإذا لم تطلع الشمس فلم يصل ركعتي الطواف إلا بالبطحاء، يعني: بعد طلوع الشمس، وهذا إشارة إلى أنه يرى أن أوقات النهي أيضاً شاملة لمكة حتى ولو كانت من ذوات الأسباب.

وجاء ذلك أيضاً عند مسدد في كتابه المسند من حديث طاوس عن عبد الله بن عباس أنه نهى رجلاً يصلي بعد العصر، ثم بين قال: لا أدري أيعذبه الله عز وجل بذلك أو يؤجره عليها، ثم تلا عليه قول الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] ، يعني: أن الله عز وجل إذا قضى في ذلك أمراً فوجب على الإنسان أن يمتثله وأن لا يرجع إلى ذوقه وحسنه واستحسانه لأداء شيء من العبادة فيما يراه ويهواه.

ولهذا نقول: إنه ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يتكلم على حديث من الأحاديث أو استنكار متن من المتون، أن ينظر إلى عمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى خاصةً العلية الكبار كـأبي بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله تعالى، فإنهم يحسمون المسائل، فإذا وجدنا إجماعاً أو ذهب جماهيرهم إلى خلاف الحديث فإنه لا يكون غالب الحديث ذلك صحيحاً، خاصةً فيما يتعلق في مسألة يحتاج إليها الناس على سبيل الدوام، وخاصةً في مثل الطواف وذوات الأسباب مما يتعلق في مكة، ومكة فيها جمع غفير من الناس يحتاجون إلى مثل هذه الأحكام، ولو كان الحكم وهذه البلدة مستثناة من ذلك لكان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى هم أعلم الناس بذلك، وهذا وإن كان يقول به بعض السلف إلا أنه لو كان ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لكان فيصلاً عند الصحابة عليهم رضوان الله تعالى على سبيل الخصوص.

ولهذا نقول: إن الأحاديث هي محل نظر في مقام إجماع الصحابة، لا نقول: إن أقوال الصحابة تقدم على الحديث، ولكن نقول: إنها قرينة على إعلالها، ولهذا جاء عن إبراهيم النخعي عليه رحمة الله قال: أي حديث يبلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعمل به أحد من الصحابة لا أبالي أن أرمي به، يعني: أنه قد دخله داخل إما أن يكون هذا الحديث مكذوباً، وإما أن يكون مثلاً: منسوخاً، أو يكون مثلاً طرأ عليه شيء من الوهم والغلط، أو فعله النبي عليه الصلاة والسلام أو قاله على سبيل التخصيص لا على سبيل تقرير حكم للناس، فإن الشريعة تحفظ ويعلمها كذلك أيضاً الصحابة، ومثل هذه الأحكام أيضاً ما يتعلق بأوقات النهي وقد تلبس بها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة مراراً، وتلبس بذلك أيضاً الخلفاء من بعده، ومثل هذا الأمر يظهر من جهة القول كيف وقد ثبت خلاف ذلك عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى وغيره! ولهذا نقول: إنه لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تخصيص مكة بشيء من هذا.

جاء من غير هذا الوجه من حديث اليسع عن مجاهد عن أبي ذر أيضاً، وهو أيضاً وجه منكر، ويكفي في ذلك أيضاً الانقطاع في هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إلا مكة، إلا مكة، إلا مكة )، ثلاثاً، وهو حديث أيضاً منكر، قد أخرجه ابن عدي في كتابه الكامل، والله أعلم، ونكتفي بهذا القدر.