خطب ومحاضرات
من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الإخوة: كثير من الشباب المتجه إلى الله تعالى في هذا العصر، أصبح هم طلب العلم الشرعي من أكبر الهموم لديهم، وأصبحوا يتطلعون إلى أن يعرفوا حكم الله ورسوله فيما ينـزل بهم من نوازل، ومنهم من يتطلع إلى أن يكون فقيهاً أو عالماً أو مفتياً، ينفع الله به الأمة ويجلو به الظلمة.
ولذلك أصبحت كثيراً ما تسمع أسئلةً حول رغبة بعض الشباب عن جوانب من الخير، كالدعوة إلى الله تعالى، والوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعبادة؛ بحجة الانقطاع إلى العلم والإقبال عليه، وهذا الفهم هو نابع من قصور في معرفة معنى العلم، في القرآن والسنة وعند السلف الصالح، فلم يكن معنى العلم عند سلف الأمة هو معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية معرفة مجردة فحسب، وإن كان هذا جزءاً من العلم، وكان مفهوم العلم عندهم مفهوماً واسعاً، يشمل المعرفة العقلية لهذه العلوم بألوانها، من معرفة الأحكام الشرعية والعقائد وغيرها، ثم يشمل تطبيق هذه العلوم في الواقع، وظهور آثار هذا العلم بأعمال القلوب، من الحب والخشية والإنابة والخوف ونحوها، وبأعمال اللسان، من الذكر والتسبيح والدعاء والتعليم ونحوها، وبأعمال الجوارح، كالعبادة والجهاد وسواه، فكان هذا المفهوم متكاملاً عند السلف الصالح.
العلم ليس الفقه فحسب
كلا! لأن معرفة الحلال والحرام ليست هي التي يتم بها الإنذار، بل الإنذار يتم بالتخويف من الله تعالى والتذكير بأيامه، والوعد بالجنة والوعيد بالنار، وما أشبه ذلك، فهذا هو الذي يكون فيه الإنذار أكثر من غيره، وفي الآية قال الله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] فأنت -مثلاً- لو أتيت لإنسان غير مسلم وقلت له: إن حكم الإسلام كذا، وهذا حلال وهذا حرام، قد لا ينفعه ذلك، بل في غالب الأحيان لو أتيت لإنسان عاص، وقلت له: إن الحكم كذا والحكم كذا مجرداً، فقد يستجيب، والغالب أنه لا يستجيب، إلا إذا جعلت هذا الحكم ضمن مؤثرات عديدة، خوفته بالله وذكرته به، وبينت له مغبة عمله، وإلا فقد يكون عارفاً بالحكم -أصلاً- ومع ذلك يعاند ويعصي على بينة.
وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية في الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} فليس المعنى في هذا الحديث: أن يفقهه في الدين، أي: أن يجعله عالماً بالحلال والحرام فقط، كلا! بل المعنى أشمل من ذلك، فالمعنى أن من أراد الله به خيراً جعله عالماً في الدين، عالماً بالله تعالى، وعالماً بالعقيدة الصحيحة، وعالماً بالحلال والحرام أيضاً، ومتأثراً في قلبه بهذا العلم ومطبقاً في جوارحه، وإلا فإن من علم العلم الشرعي من الفقه وغيره، ثم لم يعمل به ولم يدع إليه، فهذا لا يقال إنه أراد الله به خيراً، لأن علمه أصبح حجة عليه لا حجة له.
وهكذا الحديث المتفق عليه، لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكرم الناس قال: {الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا} أي إذا حصَّلوا الفقه، الذي هو العلم بالله وشرعه، علماً يورث تأثر القلب وانصياع الجوارح للعمل، ولذلك فإننا ينبغي أن ننتبه لهذا المفهوم، وألاَّ يكون توجهنا ورغبتنا في العلم هي رغبة في كسب إقبال الناس، لأن الشاب حين يرى إقبال الناس على المفتي وكثرة حاجتهم إليه، يخطر في باله أن يكون كذلك ليصرف به وجوه الناس إليه، وهذا والعياذ بالله من المقاصد الخطرة في طلب العلم، التي بين الرسول عليه الصلاة والسلام أن من أرادها فجزاؤه النار حيث قال صلى الله عليه وسلم: {من تعلم هذا العلم ليباهي به السفهاء أو يماري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فالنار النار} وفي الحديث الآخر: {من تعلم علماً مما يتبغي به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا لدنيا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام} والحديث عند أبي داود وغيره بإسناد صحيح.
المقصود الأعظم من وجود الإنسان هو: العلم العمل
وهذا ما يجب أن ينتبه له الشاب، وهو أن العلم في الإسلام ليس مجرد معرفة الأحكام الفقهية التفصيلية، وما ورد من الحث على العلم فهو يشمل ألوان العلوم مع التطبيق العملي، أرأيت قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] هل المقصود بالفقه في هذه الآية لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122] هو فقط معرفة الحلال والحرام؟
كلا! لأن معرفة الحلال والحرام ليست هي التي يتم بها الإنذار، بل الإنذار يتم بالتخويف من الله تعالى والتذكير بأيامه، والوعد بالجنة والوعيد بالنار، وما أشبه ذلك، فهذا هو الذي يكون فيه الإنذار أكثر من غيره، وفي الآية قال الله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] فأنت -مثلاً- لو أتيت لإنسان غير مسلم وقلت له: إن حكم الإسلام كذا، وهذا حلال وهذا حرام، قد لا ينفعه ذلك، بل في غالب الأحيان لو أتيت لإنسان عاص، وقلت له: إن الحكم كذا والحكم كذا مجرداً، فقد يستجيب، والغالب أنه لا يستجيب، إلا إذا جعلت هذا الحكم ضمن مؤثرات عديدة، خوفته بالله وذكرته به، وبينت له مغبة عمله، وإلا فقد يكون عارفاً بالحكم -أصلاً- ومع ذلك يعاند ويعصي على بينة.
وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية في الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} فليس المعنى في هذا الحديث: أن يفقهه في الدين، أي: أن يجعله عالماً بالحلال والحرام فقط، كلا! بل المعنى أشمل من ذلك، فالمعنى أن من أراد الله به خيراً جعله عالماً في الدين، عالماً بالله تعالى، وعالماً بالعقيدة الصحيحة، وعالماً بالحلال والحرام أيضاً، ومتأثراً في قلبه بهذا العلم ومطبقاً في جوارحه، وإلا فإن من علم العلم الشرعي من الفقه وغيره، ثم لم يعمل به ولم يدع إليه، فهذا لا يقال إنه أراد الله به خيراً، لأن علمه أصبح حجة عليه لا حجة له.
وهكذا الحديث المتفق عليه، لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكرم الناس قال: {الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا} أي إذا حصَّلوا الفقه، الذي هو العلم بالله وشرعه، علماً يورث تأثر القلب وانصياع الجوارح للعمل، ولذلك فإننا ينبغي أن ننتبه لهذا المفهوم، وألاَّ يكون توجهنا ورغبتنا في العلم هي رغبة في كسب إقبال الناس، لأن الشاب حين يرى إقبال الناس على المفتي وكثرة حاجتهم إليه، يخطر في باله أن يكون كذلك ليصرف به وجوه الناس إليه، وهذا والعياذ بالله من المقاصد الخطرة في طلب العلم، التي بين الرسول عليه الصلاة والسلام أن من أرادها فجزاؤه النار حيث قال صلى الله عليه وسلم: {من تعلم هذا العلم ليباهي به السفهاء أو يماري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فالنار النار} وفي الحديث الآخر: {من تعلم علماً مما يتبغي به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا لدنيا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام} والحديث عند أبي داود وغيره بإسناد صحيح.
أيها الإخوة: طلب العلم بألوانه والعمل به هو المقصود الأعظم من وجود الإنسان، بما في ذلك طلب الفقه، وأعني بالفقه المعنى الاصطلاحي، الذي يُعبر عنه بأنه: معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية أي: معرفة الحلال والحرام والمستحب والمكروه، والمباح بأدلتها، فهذا هو المعنى الاصطلاحي للفقه، طلب هذا العلم وتحصيله بأدلته هو أيضاً من العلم، لا نقول: إنه العلم كله، ولكنه من العلم.
حول هذا اللون من العلم أشير إلى بعض القضايا، وإن كان المجال لا يتسع لكل ما يتعلق بذلك، فأشير أولاً: إلى طرق التعلم أو الفقه في الدين، طرق معرفة الأحكام الشرعية، وهناك أكثر من طريقة لتلقي هذه الأحكام.
البدء بالتفقه مذهبياً
فمثلاً: في مثل بيئتنا ومجتمعنا، يتجه الطالب في بداية التفقه إلى دراسة الأحكام على ضوء مذهب الإمام أحمد، ويختار في ذلك كتاباً من الكتب المختصرة، أو المتوسطة، ككتاب الروض المربع -مثلا- أو كتاب منار السبيل، أو كتاب العدة للمقدسي، أو حتى كتاب الكافي لـابن قدامة، ويدرس الأحكام الشرعية التفصيلية في هذا الكتاب من أولها إلى آخرها، وليس قراءة وإنما يدرس هذه الأشياء دراسة. وبذلك يكون حصل على رأي المذهب في هذه لمسائل التي درسها، على حسب ما ترجح لصاحب الكتاب أنه هو المذهب، وبذلك يكون لنفسه خلفية علمية شاملة في طريقة الاستنباط والأصول العامة، والقواعد التي بنى عليها الأصحاب اختياراتهم وآراءهم الفقهية.
ثم بعد ذلك يبدأ في تمحيص المسائل بصفة تدريجية، سواءً بالتسلسل، أو كلما عرضت له مسألة واحتاجها درس هذه المسالة دراسة أوسع، دراسة مقارنة بمعنى أنه يدرس هذه المسألة بأدلتها ليتوصل فيها إلى القول الراجح، ولو كان هذا القول -مثلاً- قولاً ضعيفاً في المذهب، لكنه هو الراجح عند أكثر العلماء أو عند المحققين، أو لم يكن قولاً في المذهب لكنه قول آخر في مذاهب أخرى. وتكون هذه مرحلة ثانية، وهذه الطريقة لها فوائد وإيجابيات، ولها سلبيات.
أ/ الإيجابيات لهذه الطريقة:
فمن فوائد هذه الطريقة: أنها تكون لطالب العلم خلفية في معظم المسائل الفقهية وغالبها مما بحثها الفقهاء، وتجعله على اطلاع على أقوال أئمة المذهب في هذه المسائل، ثم إنها تجعل الشاب أمام قول محدد لا يحتاج إلى أن يتيه بين أقوال متباعدة أو متضاربة، وقد يقع عنده حيرة واضطراب، فهو أمام قول واحد -غالباً- أو أكثر من قول، لكنها في الغالب تعتمد على قول واحد، أو تنتهي إلى ترجيح قول واحد.
ب/ سلبيات هذه الطريقة:
ولهذه الطريقة في المقابل بعض السلبيات، من أبرز هذه السلبيات: أن طالب العلم حين يفتح بصره على كتاب من هذه الكتب، ثم يفهم جميع ما فيه، معتقداً أن هذا هو الفقه الذي يتعلمه، ويمتلئ قلبه وعقله به، ولو سئل لأجاب بما علم، وإذا عرضت له مشكلة عالجها على وفق ما فهم وهكذا، حتى يتعصب -أحياناً- لهذه المسائل، ولو علم أو ظهر له أن هناك دليلاً يرجح له خلاف ما درس؛ لما كان لديه قوة وشجاعة في الانصياع للدليل وترك ما علم، على حد قول الشاعر:-
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا |
فهذه سلبية قد تقع للبعض وليس لكل طالب، فإن بعض الطلاب إذا كان لديه وعي وبصيرة ويقظة، فهذا أمر آخر لعله تأتي الإشارة إليه.
و من سلبيات هذه الطريقة: أنها توجد عند طالب العلم شيئاً من الركون إلى ما درس، بمعنى أنه إذا قرأ رأي الأصحاب في هذه المسائل وهو أمر جاهز يسير نسبياً؛ ركن إليه وأصبح ليس لديه تطلع إلى مزيد من البحث والتحصيل، وتمحيص هذه المسائل والوصول إلى نتائج أصح، فيركن إلى ما علم.
و من سلبيات هذه الطريقة: أنها تجعل المتفقهة سريع التنقل في الآراء، فإن سلم من التعصب فإنه سيكون سريع التنقل، لأنه اليوم يفتي بما درس، ثم غداً يبحث فيجد أن الأمر خلافه فيتغير رأيه في هذه المسألة.
فهذه إيجابيات هذه الطريقة وهذه سلبياتها، وهي طريقة البدء أولاً بكتاب على ضوء مذهب معين أياً كان هذا المذهب، وقد مثلت بالمذهب الحنبلي، ويمكن أن يقال هذا في المذهب الشافعي -مثلاً- في دراسة المهذب أو غيره، وفي المالكي في دراسة الكافي أو غيره، وفي الحنفي في دراسة الدرّ المختار أو غيره، أو أي كتاب آخر يمكن أن يقال فيه ما يقال في هذا المذهب.
ثم تأتي المرحلة الثانية في هذه الطريقة، وهي أن يبدأ لطالب بالتمحيص بعد أن يكون قد أنهى دراسة المسائل على ضوء مذهب معين.
الدراسة اللامذهبية
ففيما يتعلق بالكتب الفقهية، هناك كتب مما يمكن أن يسمى بالفقه المقارن، بمعنى أن مؤلف هذا الكتاب يذكر القول وما يقابله، ويقارن بين الأقوال ويصل إلى نتيجة، دون أن يصل إلى مذهب معين، وقد لا يلتزم بالمقارنة؛ لكن يعتمد ذكر المسائل على القول الذي يعتقد أنه الراجح مع دليلها.
ومن أمثلة هذه الكتب: كتاب فقه السنة لـسيد سابق، وهو يصلح أن يعتبر من الفقه المقارن إلى حد، ومن أمثلة الكتب التي تعتمد على ذكر القول الراجح بدليله -القول الراجح لدى المؤلف- كتاب الدرر البهية والدراري المضية للشوكاني، والروضة الندية لـصديق حسن خان، وإن كانت لا تستوعب جميع المسائل الفقهية.
فقد يبدأ الطالب بقراءة هذه الكتب، أو يبدأ بقراءة كتب حديثية وليست فقهية، من الكتب التي عنيت بشرح أحاديث الأحكام.
فإن العلماء منذ القديم عنوا بالتصنيف في أحاديث الأحكام، فصنف فيها -مثلاً- الإمام المجد ابن تيمية -جد شيخ الإسلام- كتاباً سماه المنتقى من أحاديث المصطفى، وصنف الإمام المقدسي كتابعمدة الأحكام وصنف الحافظ ابن حجر كتاب بلوغ المرام. وهناك كتب أخرى غير هذه الكتب، ولكنها قد تكون أقل شهرة منها.
وهذه الكتب التي جمعت أحاديث الأحكام، عُني العلماء -أيضاً- بشرحها، ومن أشهر شروح هذه الكتب، ولعله -والله أعلم- أفضل كتاب مطبوع في شرح أحاديث الأحكام، كتاب نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للإمام الشوكاني، شرح فيه المنتقى لـابن تيمية الجد رحمه الله، وهناك شروح لكتب أخرى، كـسبل السلام والبدر التمام شرح بلوغ المرام، ولكتاب عمدة الأحكام عدد من الشروح القديمة والحديثة، من أبسطها وأوضحها: تيسير العلام للشيخ ابن بسام وغيره.
أقول: قد يبدأ الطالب بقراءة هذه الشروح قراءة متأنية، ويتيح لنفسه فرصة معرفة الأقوال المتنوعة في المسألة والأدلة لكل فريق، وما رجحه المصنف أو يمكن أن يرجحه هو أو غيره، فهذه طريقة لا تعتمد مذهباً فقهياً لكنها تعتمد على المقارنة والبحث الراجح، وهذه الطريقة -أيضاً- كالأولى، لها إيجابيات ولها سلبيات.
أ/ إيجابيات هذه الطريقة:
فمن إيجابيات هذه الطريقة: تدريب الطالب على النظر المتوازن، فتعطيه فرصة النظر في الأقوال كلها، والترجيح بينها، نظرة فيها نوع من التوازن، وتقويم أدلة كل فريق.
ومن إيجابيتها: أنها تربي في الشباب قدراً -إن صح التعبير- من الاستقلالية وعدم التعصب لشيخ معين، أو كتاب معين، أو مذهب معين، أو قول معين.
ومن إيجابياتها: تدريب الطالب على المرونة في التفكير وسعة الأفق، بمعنى أن الإنسان الذي لا يعرف إلا قولاً واحداً تجد أنه ينكر كل ماعداه، وليس لديه -أحياناً- استعداد أصلاً أن يناقش، لكن إذا عرف الطالب الأقوال، وأن كل قول له ما يؤيده من الأدلة، سواءً كانت قوية أو ضعيفة، فإن هذا يعطيه قدرة على تحمل الآراء الأخرى وتفهمها، والمرونة في التعامل مع من يقول بها، دون حرج أو تبرم أو ضيق.
ومن إيجابياتها: كسب الوقت، لأن العمر قصير، والشاب إذا قرأ كتاباً مرة قراءة متأنية قد لا يعود إليه، خاصةً في هذا العصر الذي ضعفت فيه الهمم وانشغل الإنسان فيه بأشياء كثيرة جداً، قد يكون العلم الشرعي هو أحدها في بعض الأحيان.
ب/ سلبيات هذه الطريقة:
ولهذه الطريقة أيضاً سلبيات، من سلبياتها: أن الشاب إذا كان مبتدأً، غالباً يكون غير مؤهل لقراءة الأقوال المتعارضة والأدلة واختيار القول الراجح، لأن هذا يتطلب وجود خلفية علمية عنده، ووجود معرفة بالأصول بصفة عامة، ووجود إلمام مجمل بعدد من العلوم، وهذا قد لا يتيسر للطالب في بداية التفقه. فيكون اختيار الطالب حينئذٍ لقول من الأقوال ليس لقوة هذا القول، لكن لسبب آخر، أحياناً قد يكون لغرابته، لأن بعض الناس يولع بالغرائب، فالقول الشاذ يجد له أنصاراً في بعض الأحيان. وقد يكون قبول الشاب لقول من الأقوال ليس لأنه راجح وصواب، لكن لأن أحد العلماء أيد هذا القول وتحمس له وعرضه بصورة قوية، كما تجد -مثلاً- بعض الشباب حين يقرءون للإمام ابن حزم في المحلى أو غيره؛ فلأن الإمام أبا محمد -رحمه الله- يطرح آراءه بقوة وبحماس، ويرد على المخالفين بقوة أيضاً، وقد يقسو عليهم أو يشتد، فيصبح القارئ الذي لا زال في بداية الطلب أسيراً لهذا المصنف فيتقبل آراءه لهذا السبب.
وقد يكون ترجيحه لقول من الأقوال اغتراراً ببعض الظواهر، مع الغفلة عن أمور أخرى قد تكون أقوى في الدلالة منها، فهذه سلبية.
السلبية الثانية: أن الشاب في مثل هذه المرحلة إذا بدأ هذه البداية؛ قد يصبح لديه ولدى غيره من بني جنسه، نوعاً ممكن أن نسميه -تجوزاً- بالفوضى التشريعية، بمعنى: أن يصبح كثير من الشباب -وإن كانوا في مقتبل العمر وبداية الطريق- لديهم جرأة على الكلام عن الحلال والحرام، والخلاف والقيل والقال في هذه الأمور، وهذا يحدث نوعاً من الفوضى بينهم وفي المجتمع، خاصة لدى العامة الذين تعلموا أن يأخذوا الأحكام من العلماء المعروفين، ولا تتسع عقولهم. لأن المسألة فيها أقوال كثيرة، وفيها راجح ومرجوح وشيء من هذا القبيل، إنما تتسع نفوسهم لأن يقول لهم الشيخ بكل حزم وقوة: حلال أو حرام، افعل أو لا تفعل، فيمتثل وهو طيب الخاطر. ولذلك من مخاطر هذه الطريقة: أنها قد توجد عند الناس نوعاً من الفوضى والتوسع في هذا المجال، وعدم وجود ضوابط يركن إليها. فهذه بعض سلبيات هذه الطريقة، وهذه أيضاً بعض إيجابيتها.
الطريقة الأولى من هذه الطرق: هي أن يبدأ الشاب أو طالب العلم، بالتفقه وفق مذهب من المذاهب المتبوعة، كالمذهب الحنبلي أو الشافعي أو المالكي أو الحنفي، أو غيرها من المذاهب التي هي مذاهب لـأهل السنة والجماعة، فيأخذ الأحكام الشرعية أو يدرسها في كتاب من الكتب على مذهب من المذاهب.
فمثلاً: في مثل بيئتنا ومجتمعنا، يتجه الطالب في بداية التفقه إلى دراسة الأحكام على ضوء مذهب الإمام أحمد، ويختار في ذلك كتاباً من الكتب المختصرة، أو المتوسطة، ككتاب الروض المربع -مثلا- أو كتاب منار السبيل، أو كتاب العدة للمقدسي، أو حتى كتاب الكافي لـابن قدامة، ويدرس الأحكام الشرعية التفصيلية في هذا الكتاب من أولها إلى آخرها، وليس قراءة وإنما يدرس هذه الأشياء دراسة. وبذلك يكون حصل على رأي المذهب في هذه لمسائل التي درسها، على حسب ما ترجح لصاحب الكتاب أنه هو المذهب، وبذلك يكون لنفسه خلفية علمية شاملة في طريقة الاستنباط والأصول العامة، والقواعد التي بنى عليها الأصحاب اختياراتهم وآراءهم الفقهية.
ثم بعد ذلك يبدأ في تمحيص المسائل بصفة تدريجية، سواءً بالتسلسل، أو كلما عرضت له مسألة واحتاجها درس هذه المسالة دراسة أوسع، دراسة مقارنة بمعنى أنه يدرس هذه المسألة بأدلتها ليتوصل فيها إلى القول الراجح، ولو كان هذا القول -مثلاً- قولاً ضعيفاً في المذهب، لكنه هو الراجح عند أكثر العلماء أو عند المحققين، أو لم يكن قولاً في المذهب لكنه قول آخر في مذاهب أخرى. وتكون هذه مرحلة ثانية، وهذه الطريقة لها فوائد وإيجابيات، ولها سلبيات.
أ/ الإيجابيات لهذه الطريقة:
فمن فوائد هذه الطريقة: أنها تكون لطالب العلم خلفية في معظم المسائل الفقهية وغالبها مما بحثها الفقهاء، وتجعله على اطلاع على أقوال أئمة المذهب في هذه المسائل، ثم إنها تجعل الشاب أمام قول محدد لا يحتاج إلى أن يتيه بين أقوال متباعدة أو متضاربة، وقد يقع عنده حيرة واضطراب، فهو أمام قول واحد -غالباً- أو أكثر من قول، لكنها في الغالب تعتمد على قول واحد، أو تنتهي إلى ترجيح قول واحد.
ب/ سلبيات هذه الطريقة:
ولهذه الطريقة في المقابل بعض السلبيات، من أبرز هذه السلبيات: أن طالب العلم حين يفتح بصره على كتاب من هذه الكتب، ثم يفهم جميع ما فيه، معتقداً أن هذا هو الفقه الذي يتعلمه، ويمتلئ قلبه وعقله به، ولو سئل لأجاب بما علم، وإذا عرضت له مشكلة عالجها على وفق ما فهم وهكذا، حتى يتعصب -أحياناً- لهذه المسائل، ولو علم أو ظهر له أن هناك دليلاً يرجح له خلاف ما درس؛ لما كان لديه قوة وشجاعة في الانصياع للدليل وترك ما علم، على حد قول الشاعر:-
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا |
فهذه سلبية قد تقع للبعض وليس لكل طالب، فإن بعض الطلاب إذا كان لديه وعي وبصيرة ويقظة، فهذا أمر آخر لعله تأتي الإشارة إليه.
و من سلبيات هذه الطريقة: أنها توجد عند طالب العلم شيئاً من الركون إلى ما درس، بمعنى أنه إذا قرأ رأي الأصحاب في هذه المسائل وهو أمر جاهز يسير نسبياً؛ ركن إليه وأصبح ليس لديه تطلع إلى مزيد من البحث والتحصيل، وتمحيص هذه المسائل والوصول إلى نتائج أصح، فيركن إلى ما علم.
و من سلبيات هذه الطريقة: أنها تجعل المتفقهة سريع التنقل في الآراء، فإن سلم من التعصب فإنه سيكون سريع التنقل، لأنه اليوم يفتي بما درس، ثم غداً يبحث فيجد أن الأمر خلافه فيتغير رأيه في هذه المسألة.
فهذه إيجابيات هذه الطريقة وهذه سلبياتها، وهي طريقة البدء أولاً بكتاب على ضوء مذهب معين أياً كان هذا المذهب، وقد مثلت بالمذهب الحنبلي، ويمكن أن يقال هذا في المذهب الشافعي -مثلاً- في دراسة المهذب أو غيره، وفي المالكي في دراسة الكافي أو غيره، وفي الحنفي في دراسة الدرّ المختار أو غيره، أو أي كتاب آخر يمكن أن يقال فيه ما يقال في هذا المذهب.
ثم تأتي المرحلة الثانية في هذه الطريقة، وهي أن يبدأ لطالب بالتمحيص بعد أن يكون قد أنهى دراسة المسائل على ضوء مذهب معين.
أما الطريقة الثانية: فهي أن يبدأ طالب العلم أو المتفقه بدراسة المسائل الفقهية أصلاً، ليس على وفق مذهب معين، بل يبدأ في الدراسة منذ أول تفقهه عاملًا على البحث عن الترجيح، وهذا قد يكون باعتماد كتب فقهية أو حديثية.
ففيما يتعلق بالكتب الفقهية، هناك كتب مما يمكن أن يسمى بالفقه المقارن، بمعنى أن مؤلف هذا الكتاب يذكر القول وما يقابله، ويقارن بين الأقوال ويصل إلى نتيجة، دون أن يصل إلى مذهب معين، وقد لا يلتزم بالمقارنة؛ لكن يعتمد ذكر المسائل على القول الذي يعتقد أنه الراجح مع دليلها.
ومن أمثلة هذه الكتب: كتاب فقه السنة لـسيد سابق، وهو يصلح أن يعتبر من الفقه المقارن إلى حد، ومن أمثلة الكتب التي تعتمد على ذكر القول الراجح بدليله -القول الراجح لدى المؤلف- كتاب الدرر البهية والدراري المضية للشوكاني، والروضة الندية لـصديق حسن خان، وإن كانت لا تستوعب جميع المسائل الفقهية.
فقد يبدأ الطالب بقراءة هذه الكتب، أو يبدأ بقراءة كتب حديثية وليست فقهية، من الكتب التي عنيت بشرح أحاديث الأحكام.
فإن العلماء منذ القديم عنوا بالتصنيف في أحاديث الأحكام، فصنف فيها -مثلاً- الإمام المجد ابن تيمية -جد شيخ الإسلام- كتاباً سماه المنتقى من أحاديث المصطفى، وصنف الإمام المقدسي كتابعمدة الأحكام وصنف الحافظ ابن حجر كتاب بلوغ المرام. وهناك كتب أخرى غير هذه الكتب، ولكنها قد تكون أقل شهرة منها.
وهذه الكتب التي جمعت أحاديث الأحكام، عُني العلماء -أيضاً- بشرحها، ومن أشهر شروح هذه الكتب، ولعله -والله أعلم- أفضل كتاب مطبوع في شرح أحاديث الأحكام، كتاب نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للإمام الشوكاني، شرح فيه المنتقى لـابن تيمية الجد رحمه الله، وهناك شروح لكتب أخرى، كـسبل السلام والبدر التمام شرح بلوغ المرام، ولكتاب عمدة الأحكام عدد من الشروح القديمة والحديثة، من أبسطها وأوضحها: تيسير العلام للشيخ ابن بسام وغيره.
أقول: قد يبدأ الطالب بقراءة هذه الشروح قراءة متأنية، ويتيح لنفسه فرصة معرفة الأقوال المتنوعة في المسألة والأدلة لكل فريق، وما رجحه المصنف أو يمكن أن يرجحه هو أو غيره، فهذه طريقة لا تعتمد مذهباً فقهياً لكنها تعتمد على المقارنة والبحث الراجح، وهذه الطريقة -أيضاً- كالأولى، لها إيجابيات ولها سلبيات.
أ/ إيجابيات هذه الطريقة:
فمن إيجابيات هذه الطريقة: تدريب الطالب على النظر المتوازن، فتعطيه فرصة النظر في الأقوال كلها، والترجيح بينها، نظرة فيها نوع من التوازن، وتقويم أدلة كل فريق.
ومن إيجابيتها: أنها تربي في الشباب قدراً -إن صح التعبير- من الاستقلالية وعدم التعصب لشيخ معين، أو كتاب معين، أو مذهب معين، أو قول معين.
ومن إيجابياتها: تدريب الطالب على المرونة في التفكير وسعة الأفق، بمعنى أن الإنسان الذي لا يعرف إلا قولاً واحداً تجد أنه ينكر كل ماعداه، وليس لديه -أحياناً- استعداد أصلاً أن يناقش، لكن إذا عرف الطالب الأقوال، وأن كل قول له ما يؤيده من الأدلة، سواءً كانت قوية أو ضعيفة، فإن هذا يعطيه قدرة على تحمل الآراء الأخرى وتفهمها، والمرونة في التعامل مع من يقول بها، دون حرج أو تبرم أو ضيق.
ومن إيجابياتها: كسب الوقت، لأن العمر قصير، والشاب إذا قرأ كتاباً مرة قراءة متأنية قد لا يعود إليه، خاصةً في هذا العصر الذي ضعفت فيه الهمم وانشغل الإنسان فيه بأشياء كثيرة جداً، قد يكون العلم الشرعي هو أحدها في بعض الأحيان.
ب/ سلبيات هذه الطريقة:
ولهذه الطريقة أيضاً سلبيات، من سلبياتها: أن الشاب إذا كان مبتدأً، غالباً يكون غير مؤهل لقراءة الأقوال المتعارضة والأدلة واختيار القول الراجح، لأن هذا يتطلب وجود خلفية علمية عنده، ووجود معرفة بالأصول بصفة عامة، ووجود إلمام مجمل بعدد من العلوم، وهذا قد لا يتيسر للطالب في بداية التفقه. فيكون اختيار الطالب حينئذٍ لقول من الأقوال ليس لقوة هذا القول، لكن لسبب آخر، أحياناً قد يكون لغرابته، لأن بعض الناس يولع بالغرائب، فالقول الشاذ يجد له أنصاراً في بعض الأحيان. وقد يكون قبول الشاب لقول من الأقوال ليس لأنه راجح وصواب، لكن لأن أحد العلماء أيد هذا القول وتحمس له وعرضه بصورة قوية، كما تجد -مثلاً- بعض الشباب حين يقرءون للإمام ابن حزم في المحلى أو غيره؛ فلأن الإمام أبا محمد -رحمه الله- يطرح آراءه بقوة وبحماس، ويرد على المخالفين بقوة أيضاً، وقد يقسو عليهم أو يشتد، فيصبح القارئ الذي لا زال في بداية الطلب أسيراً لهذا المصنف فيتقبل آراءه لهذا السبب.
وقد يكون ترجيحه لقول من الأقوال اغتراراً ببعض الظواهر، مع الغفلة عن أمور أخرى قد تكون أقوى في الدلالة منها، فهذه سلبية.
السلبية الثانية: أن الشاب في مثل هذه المرحلة إذا بدأ هذه البداية؛ قد يصبح لديه ولدى غيره من بني جنسه، نوعاً ممكن أن نسميه -تجوزاً- بالفوضى التشريعية، بمعنى: أن يصبح كثير من الشباب -وإن كانوا في مقتبل العمر وبداية الطريق- لديهم جرأة على الكلام عن الحلال والحرام، والخلاف والقيل والقال في هذه الأمور، وهذا يحدث نوعاً من الفوضى بينهم وفي المجتمع، خاصة لدى العامة الذين تعلموا أن يأخذوا الأحكام من العلماء المعروفين، ولا تتسع عقولهم. لأن المسألة فيها أقوال كثيرة، وفيها راجح ومرجوح وشيء من هذا القبيل، إنما تتسع نفوسهم لأن يقول لهم الشيخ بكل حزم وقوة: حلال أو حرام، افعل أو لا تفعل، فيمتثل وهو طيب الخاطر. ولذلك من مخاطر هذه الطريقة: أنها قد توجد عند الناس نوعاً من الفوضى والتوسع في هذا المجال، وعدم وجود ضوابط يركن إليها. فهذه بعض سلبيات هذه الطريقة، وهذه أيضاً بعض إيجابيتها.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |