أرشيف المقالات

ما يعقب الطاعات والمعاصي من الآثار

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
ما يعقب الطاعات والمعاصي من الآثار

الحمد لله رب العالمين، وبعد:
أحسب أن الانشراح إثْر الطاعة تحبيب من الله تعالى لنا في الطاعات ودفع إليها، والوحشة إثْر المعصية إزعاج عنها وتنغيص؛ فلقد قال ربنا سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، وعمل الطاعات باب من أبواب الشكر لله تعالى، ووعد الله المؤكد بالزيادة جاء منكرًا؛ فعمت الزيادات المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية؛ فالمادية هي الزيادة في الرزق والعطاء والمعافاة في البدن، ونحو ذلك، والمعنوية: هي الانشراح والاستغناء بالقليل والقناعة والراحة، والتصبير على ما لا يصبر على مثله، وأن يجد محبة الناس له مع لين قلبه وسلامة صدره، فهذه أمور لا يُوفَّق إليها غالبًا إلا مؤمن، وقد يزاد للعبد زيادة معنوية فقط دون المادية؛ إذ قد يعلم الله تعالى من بعض عباده أن الزيادة لهم في دنياهم تشغلهم عن أُخْراهم وتُغيِّر نفوسَهم وتُطغيها؛ قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾[العلق: 6 - 8]، فيخلص لهم الزيادة في المعنويات التي تُعينهم وتُثبِّتهم، وهذه نعمة تستحقُّ الشُّكر لو تبصَّر فيها المرء، وتدبَّر حكمة الله عز وجل، والغافلون عن مثل هذه النِّعَم كثيرون، فمن الذي يتفكَّر في أن الزيادة في صبره على غيره نعمة، وأن انشراح صدره واستغناءَه عن الناس فضل من الله ونعمة حُرِمها غيره من الذين بُسطت لهم الدنيا؟! وإنك لتُلاحظ أن معظم المترفين في الدنيا قليل صبرهم، لا يكادون يثبتون في الملمات بخلاف غيرهم ممن اعتاد خشونة العيش؛ فإنك تراه مُقبِلًا ثابتًا صابرًا في أشدِّ الشدائد؛ ولذا كان معظم أتباع الأنبياء من الضعفاء المساكين، وبتضحياتهم قام الدين، وبسواعدهم شُيِّدت الصروح وتُشيَّد، وترى أن منابذي الأنبياء في الغالب هم المترفون والملأ من القوم، وكانوا يصدون عن دعوة النبيين بما حكاه الله عنهم؛ إذ يقول سبحانه: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ﴾ [هود: 27]، والمراد أن القائم بطاعة الله يجد من القوة والانشراح ما يدفعه إلى الزيادة في الطاعة، وهذه الزيادة شبيهة - والله أعلم - بأن تكون من الزيادات التي وعد الله تعالى عباده الشاكرين في الدنيا.
 
ومن هذه الزيادة ما يجده قارئ القرآن وواصل الرَّحِم من البركة في الوقت والعمر، وذلك تصديق قول نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كما رويناه في صحيح مسلم: ((مَنْ سرَّه أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره، فليَصِل رَحِمَه)).
 
وأما بركة القرآن، فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [الأنعام: 92]، وبركته قد عمَّت كل شيء، وأثرها في حياة المحافظ على وِرْدِه منه ظاهرٌ يلمسه كل محافظ عليه إذا تركه بعض المرات، وهذا من الباب الذي سأذكر بعد: أن الإحساس بالنقص والضيق عند ترك الطاعة، إنما يكون في القلوب الحيَّة، لا القلوب التي طُبِع عليها، واستحلَّت الغفلة والإعراض عن الطاعة.
 
ومن ذلك أيضًا ما روينا في الصحيحين عن علي يُحدِّث أن فاطمة عليهما السلام شكت ما تلقى من أثر الرَّحا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم، فقال: ((على مكانكما))، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صَدْري، وقال: ((ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما؛ تُكبِّرا أربعًا وثلاثين، وتُسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، وتُحمِّدا ثلاثًا وثلاثين؛ فهو خيرٌ لكما من خادم))، وفي هذا أثر الذكر في الإعانة على المعيشة وبعث القوة في النفوس.
 
وأما الضيق والوحشة عقب المعاصي؛ فهي التي يشعُر بها من يخشى الله تعالى من أهل الإيمان، وإلا فمن اعتاد المعاصي واستحلاها؛ فقد ران على قلبه وحجب عن هذه الأحاسيس اللطيفة؛ فما لجُرْح بميِّتٍ إيلام، وإن الحجارة إذا فتت حتى آخرها، لم يبق بها موضع للفت بعد، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم كما رويناه عند الترمذي: ((إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكِتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب؛ سُقِلَ قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الرَّان الذي ذكر الله: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]))، فاستيحاشُك من المعاصي وإن أتيتها جاهلًا، علامةٌ على إيمانك؛ فإنما يشعر بالألم القلب الحي السليم الذي قال الله تعالى في أصحابه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].
 
وهذه الوحشة التي يجدها العبد بعد معصيته جزء مما قال الله تعالى فيه: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124]، ففي مواقعة المعاصي غفلة عن ذكر الله تعالى، وبين الغفلة والإعراض نسب، فالعاصي كأنه معرض عن ذكر الله في معصيته تلك؛ فيلقى من الضَّنْك والضيق في صدره بمقدار معصيته، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم كما روينا في الصحيح: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبةً يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن))، فهو حين معصيته غافل عن إيمانه وعن ملاحظة ربِّه الرقيب سبحانه، فتتناوَشه الملامة والضيق والكدر والخشية بعد ذلك؛ لتصده عن العودة إلى هذه السبيل المُردية، وتُزعجه عن ركوب المعاصي، فإن اللذة والانشراح بعد الطاعة تدعوه إليها، والانقباض والوحشة بعد المعصية تصدُّه عنها، فهذه الوحشة نعمة من الله لمن أحسن الفيئة عندها وانتهز الفرصة، والعبد مأمور بذكر الله تعالى في السرِّ والعلَنِ، وفي كل حال ووقت، منهي عن الغفلة؛ قال سبحانه: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205].
 
ومن جنس ما ذكرت من أثر الطاعة والمعصية: ما رويناه في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّت عقدة، فإن توضَّأ انحلَّت عقدة، فإن صلى انحلَّت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان))؛ فالهبوب إلى الطاعة من غفلة النوم يطيب النفس ويزيدها نشاطًا، والنوم عن الطاعة يخبث النفس ويزيدها كسلًا، والكسل من جنس الضيق الذي أوعده المعرضون عن ذكر الله.
 
وهكذا تجد في الطاعات من الزيادات المعنوية تنوعًا؛ فمنها ما يبارك في الوقت والعمر، ومنها ما يقوِّي على العمل، ومنها ما يبعث النشاط، وتجد في المعاصي ألوان الضيق والمُنغصات التي تدعوك إلى الانخلاع من جحيم المعاصي والانغماس في نعيم الطاعات، والحمد لله رب العالمين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢