أرشيف المقالات

دلالة السنة النبوية على أنها وحي

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
دلالة السُّنة النبوية على أنها وحي


الحمد لله والصلاة والسلام الأتمان على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
كلُّ ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولٍ، أو فعل، أو بيان، أو تقرير، هو من الوحي الذي أُمرنا بالأخذ به، والعمل بمقتضاه؛ لأنه تشريعٌ من الله لعباده، مبلَّغٌ لنا بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن لم يأتمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وينته عمَّا نهى عنه، فقد عصى الله تعالى، ورَفَض قبولَ شرعِه وحُكمِه، بل قد كذَّب بالقرآن العظيم؛ لأنه يأمر بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته، وعدم الخروج عن طاعته، وهناك أحاديث كثيرة تتحدَّث عن كون السنة النبوية وحياً كالقرآن العظيم، ومن أهمها:
1- ما جاء عن الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)[1].
(يعني: السُّنةَ، والسُّنةُ أيضاً تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، لا أنها تُتلى كما يُتلى، وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة)[2].
 
2- ما جاء عن أبي أُمَامَةَ - رضي الله عنه - أنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ لَيْسَ بِنَبِيٍّ مِثْلُ الْحَيَّيْنِ، أو مِثْلُ أَحَدِ الْحَيَّيْنِ: رَبِيعَةَ، وَمُضَرَ).
فقال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَمَا رَبِيعَةُ مِنْ مُضَرَ؟ فقال: (إِنَّمَا أَقُولُ مَا أُقَوَّلُ)[3].
 
وجه الدلالة: التزامه صلى الله عليه وسلم بالتعبير الموحى إليه من ربه، فهو متَّبِع وملتزم بما يوحى إليه لفظاً ومعنى.
 
3- ما جاء عن أُسَامَةَ بن زَيْدٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فإذا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وإذا أَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ[4] إلاَّ أَصْحَابَ النَّارِ فَقَدْ أُمِرَ بِهِمْ إلى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فإذا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ)[5].
 
وجه الدلالة: هذه أمور غيبية أَطْلَعَ الله تعالى نبيَّه الكريم صلى الله عليه وسلم عليها؛ كي يُحذِّر أمته، وفيها دلالة على أنَّ السنة من وحي الله تعالى كالقرآن.
 
والسنة النبوية فيها المئات من الأحاديث التي تناولت الحديث عن المُستقبل، سواء فيما يتعلَّق بأحداثٍ أو أشخاص، وهي ما يُطلق عليها: (أحاديث الفتن والملاحم، وأشراط الساعة)، أو فيما يتعلَّق بأخبار ومعجزات، وهي ما يُطلق عليها: (أحاديث الإعجاز العلمي).
وهذه وتلك قد صَدَّقها الواقع ودلَّت عليها الأيام ورآها الناس رأيَ عينٍ، وعرفها أهل الصنائع والعلوم.
 
وكلُّ هذه الأحاديث لم يكن للنبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم أنْ يعلمها إلاَّ عن طريق الوحي؛ حيث نفى القرآنُ عنه صلى الله عليه وسلم عِلمَه بالغيب، فقال تعالى: ﴿ قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ [الأنعام: 50].
ومن ثمَّ، فلا سبيل إلى معرفتها وتحصيلها إلاَّ عن طريق الوحي.
 
4- ما جاء عن أبي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ - رضي الله عنه - قال: (إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قال: بهذا أُمِرْتُ)[6].
 
وجه الدلالة: التصريح بمجيء جبريل - عليه السلام - بالأمر بالسُّنة، مما يدل على أنها وحي من عند الله تعالى، والأحاديث في مجيء جبريل - عليه السلام - ونزوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة ومتنوعة.
 
5- ما جاء عن أَنَسٍ - رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلاً جاء فَدَخَلَ الصَّفَّ وقد حَفَزَهُ النَّفَسُ[7]، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فيه، فلما قَضَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَتَهُ قال: (أَيُّكُمْ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟) فَأَرَمَّ الْقَوْمُ[8].
فقال: (أَيُّكُمْ الْمُتَكَلِّمُ بها، فإنه لم يَقُلْ بَأْسًا؟) فقال رَجُلٌ: جِئْتُ وقد حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا.
فقال: (لقد رأيتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا)[9].
 
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى ما لا يراه الناس مما أطلعه الله عليه من الأمور الغيبية، مما فيه مصلحة لأمته، مما يدل على أن سنته وحي من الله تعالى.
 
6- ما جاء عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ رُوحَ القُدُسِ[10] نَفَثَ في رُوعِي[11]...)[12].
 
قال الإمام الشافعي - رحمه الله: (فكان مما أُلقي في رُوعه سُنَّته، وهي الحِكمة التي ذَكَرَ الله)[13].
 
7- ما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا؟![14] قال: (إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا)[15].
(أي: عدلاً وصِدْقاً؛ لعصمتي عن الزَّلل في القول والفِعل، ولا كلُّ أحدٍ منكم قادر على هذا الحصر؛ لعدم العصمة فيكم)[16].
وهكذا بلَّغ النبي صلى الله عليه وسلم بكل صدق وأمانة، ودقة وحذر، دون زيادة أو نقصان، لا يؤثِّر عليه غضب ولا مزاح، ولا مصلحة ولا منفعة؛ لأن ما يتفوه به وحي من عند الله تعالى.
 
8- ما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَاللهِ مَا أُعْطِيكُمْ وَلاَ أَمْنَعُكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُهُ حَيْثُ أُمِرْتُ)[17].
 
9- ما جاء أيضاً عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ما أُوتِيكُمْ مِنْ شَيْءٍ، وما أَمْنَعُكُمُوهُ، إِنْ أَنَا إِلاَّ خَازِنٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ)[18].
 
وجه الدلالة: أنَّ العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه؛ فهو صلى الله عليه وسلم قاسمٌ وخازنٌ لهذا الوحي المبارك، يُبلِّغه لأمته حيث أمره الله تعالى، بدون زيادة أو نقصان.
 
10- ما جاء عن عبدِ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ لِنَبِيِّهِ ما شَاءَ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، أَلاَّ تَكَلَّمُوا فِي الصَّلاَةِ)[19].
فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم - وهو المستأمن على الوحي - لا يُمكن أن يأتي بالأخبار والأحكام والتشريعات من عند نفسه، إنْ هو إلاَّ وحي يوحيه الله إليه.
 
شاهد قوي على أنَّ السُّنة وحي الله:
و(الأحاديث التي تحدَّث فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن أخبار السابقين - وهو الصادق المصدوق - ناطقةٌ بأنها من وحي الله إليه، فما الذي أعلمه بأخبار الأمم السابقة وأنبيائها إلاَّ الوحي من الله تعالى إليه؟
 
والأحاديث التي تحدَّث فيها عن سنن الله الكونية وأسرار الخليقة؛ كتحدُّثه عن تكوين الجنين في بطن أمِّه، وأنه كيف يُشبه أخواله وأعمامه، وتحدُّثه عن الكثير من أسباب الصحة، فيُحذِّر من امتلاء البطن، ويحث على النظافة، هذه مما يُسلِّم العقل أنها من وحي الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم.
 
ومن أقوى الأدلة على أنَّ السُّنة من وحي الله الخالق سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: أن السنة على كثرة أحاديثها، وذيوعها وانتشارها لا يجد فيها العقلاء إلاَّ الحقَّ الذي يُسعد البشرية في كل ناحية من نواحي الحياة.
 
إن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن قالها إلى الآن تنهل البشرية من خيرها وصوابها، يعترف بذلك المسلمون، والمنصفون من غير المسلمين، وهذا دليل قوي على أنها من وحي الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم)
[20].
وكلُّ ما ذكرناه وغيرُه الكثير يدلُّ على أنَّ السُّنة النبوية تحمل في ذاتها دليل كونها وحياً من عند الله تعالى.



[1] رواه أحمد في (المسند)، (4/ 130)، (ح17213)؛ وأبو داود، (4/ 200)، (ح4604).
وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 117)، (ح4604).


[2] مجموع الفتاوى، (13/ 364).


[3] رواه أحمد في (المسند)، (5/ 257)، (ح22269).
وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد)،
(10/ 693): (رواه أحمد والطبراني بأسانيد، ورجالُ أحمد، وأحد أسانيدُ الطبراني رجالهم
رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن ميسرة وهو ثقة)
؛ وصححه الألباني في (صحيح الجامع)، (2/ 946)، (ح5363).


[4] (أَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ): هم أصحاب الغِنى والحظوظ الدنيوية، وحبسُهم للحساب.


[5] رواه البخاري، (5/ 2396)، (ح6181)؛ ومسلم، واللفظ له، (4/ 2096)، (ح2736).


[6] رواه مسلم، (1/ 425)، (ح610).


[7] (حَفَزَهُ النَّفَسُ): أي: أصبح يتنفس بقوة؛ من سرعته في الإتيان لإدراك الجماعة، وربما   كان ذلك قبل النهي عن هذا الفعل.


[8] (فَأَرَمَّ الْقَوْمُ): أي: سكتوا على أمرٍ في أنفسهم، يقال للساكت المطرق: مُرِمٌّ، والإرمام:  السكوت.
وترمرم القوم: تحرَّكوا للكلام ولم يتكلموا.
والتَّرمرم: هو أن يحرك الرجل شفتيه
بالكلام.
يقال: ما ترمرم فلانٌ بحرف، أي: ما نطق.
انظر: غريب الحديث، للحربي،   (1/ 74)؛ غريب الحديث، للخطابي، (1/ 193)؛ لسان العرب، (12/ 255).


[9] رواه مسلم، (1/ 419)، (ح600).


[10] (رُوحَ القُدُسِ): القدس: الطهارة.
وروح القدس: اسم جبريل، أي: الروح المقدسة  الطاهرة.


[11] (نَفَثَ في رُوعِي): النفث: النفخ بالفم، والروع: النفس، والمعنى: ألقى في قلبي، وأوقع في  نفسي، وألهمني.
انظر: جامع الأصول، (10/ 117).


[12] رواه البزار في (مسنده)، (7/ 315)، (ح2914).
وقال الألباني في (صحيح الترغيب   والترهيب)، (2/ 312)، (ح1702): (حسن صحيح).


[13] الرسالة، (ص103).


[14] (تُدَاعِبُنَا) أي: تمازحنا، والدعابة: المزاح.
انظر: شرح السنة، للبغوي (13/ 180).


[15] رواه أحمد في (المسند)، (2/ 340)، (ح8462)؛ والترمذي، (4/ 357)، (ح1990) وقال:   (حسن صحيح).
وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (2/ 375)، (ح1990).


[16] تحفة الأحوذي، (6/ 108).


[17] رواه أحمد في (المسند)، (2/ 482)، (ح10262).
وصححه محققو المسند، (16/ 180)، (ح10257).


[18] رواه أبو داود، (3/ 135)، (ح2949).
وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)،   (2/ 232)، (ح2949).


[19] رواه الطيالسي في (مسنده)، (ص33)، (ح245)؛ وأحمد في (المسند)، (1/ 463)،   (ح4417)؛ والطبراني في (الكبير)، (10/ 109)، (ح10120).
وصححه محققو المسند،  (7/ 424)، (ح4417).


[20] المدخل إلى السنة النبوية، أ.
د.
عبد المُهدي عبد القادر (ص61).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢