فرنسا والسودان
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
لا تزال الجرائد الفرنسوية تقيم الحجج والبراهين على مخالفة (وفاق السودان)
لجميع الأصول القانونية والشرائع الدولية، ومما نشرته جريدة الديبا في ذلك من
عهد قريب رسالة من القاهرة ملخصها: أن مصر ولاية تابعة للدولة العلية في جميع
شؤونها الداخلية الكبرى والخارجية العظمى، مقيدة بفرامين سلطانية أقدمها فرمان
سنة 1810، وأحدثها فرمان سنة 1892، فلا حق لحكومتها أن تعقد وفاقًا أو
معاهدة مع دولة ما، وأوضح دليل على هذا أن الدول تأبى عليها تعيين وكلاء
ومعتمدين في بلادها، وما وكلاء الدول في مصر إلا قناصل جنرالية لا يمكن أن
يعطى لهم غير هذا اللقب، وأن جلالة السلطان هو الذي أذن للخديوي في سنة
1874 بأن يوافق الدول على معاهدات الإصلاح القضائي، وفي سنة 79 بأن يعقد
قرضًا في البلاد الأجنبية لحل المسائل المالية. ولما أذن له في فرماني سنة 79 وسنة 92 بعقد المعاهدات التجارية والجمركية قيد ذلك بهذا النص: (ليس للخديوي أن يتنازل لآخرين بأية حجة وسبب عن الامتيازات الممنوحة لمصر كلها أو بعضها، ولا عن أي جزء من الأراضي) . وعلى هذا كان يجب أن يكون وفاق السودان بإذن خاص من جلالة السلطان ليكون صحيحًا، وأما الاعتراض بأن إنكلترا مشاركة في الفتح والفاعل مستحق أجرته على قول الإنجيل الشريف، فهو ضعيف لأن الولايات السودانية لم تخلها الجنود المصرية على الإطلاق منذ سنة 1882، وإنما هي ولايات ثارت وعصت وأدبت، فإخماد الثورة شيء والفتح شيء آخر، وقد صرحت إنكلترا بلسان حكومتها وجرائدها بأن مصر أبقت حقوق سيادتها على السودان غير ممسوسة، وأن الحملة لم يك المقصود منها إلا تسكين مقاطعات ثائرة.
وصرح اللورد كرزون وكيل خارجيتها - حاكم الهند الآن - في مجلس العموم سنة 1896 بأن شرق السودان التي تقرر أمرها عائد كله إلى الحكومة المصرية وحدها، والنتيجة أن وفاق السودان فيه غمط لحقوق السلطان وحقوق أوروبا، وقد أورد الكاتب كلمتين من كتب فن الحقوق الدولية محتجًّا بهما على الإنكليز: الأولى: (أن المعاهدة المعقودة بين مملكتين تنفذ في جميع الأملاك والأراضي التي تنفذ فيهما سلطتهما، وتقرر عليهما سيادتهما) . والثانية: (أنه حينما تضم الدولة دولة أرضًا ما إليها، فكل المعاهدات التي تربط بها هذه الدولة تنفذ لساعتها في الأرض التي تضمها إليها) . وختم كلامه بأنه سوف يرى إذا كانت تصبر أوروبا على هضم حقوقها أم لا، انتهى. (المنار) قد ذكرت جريدة الأهرام ما نشرته الديبا بإسهاب، ونحن نقول كما قلنا من قبل: إن المسألة مبنية على القوة لا على الحق، وإلا فما بال سواكن ووادي حلفا، فلو كان عند الفرنسويين أسطول كأسطول الإنكليز لنهضت حججهم، وأصابوا غرضهم، نعم إن فرنسا ليست كفؤًا لإنكلترا، ولكنها دولة قوية، والاحتجاج لا بد أن يمنحها فائدة ما، فقد جاء في أنباء البرق العمومية ما يُشعر بأن إنكلترا قد تسمح لفرنسا بمنفذ في النيل، ولكن المصيبة الكبرى على من له كل شيء ولا يسمح له بشيء؛ لأنه لا يستطيع أن يقول لأنه لا يستطيع أن يفعل، فعلى المصريين أن لا يغتروا بأحد ولا يثقوا بأحد، وأن يتفكروا في كيفية حياتهم في هذه الأطوار الجديدة التي طرأت عليهم، فالإنكليز لا يمنعونهم من منافعهم إن لم يقوموا بها بعنوان مناهضتهم ومعاداتهم، فليشيدوا المدارس الوطنية، وليعقدوا الشركات المالية، وليسابقوا الأوروبي إلى السودان للاتجار وابتياع الأراضي الواسعة الرخيصة، فهم أقدر على سكنى السودان واستعماره من الأوروبيين، إن كانوا يعقلون.