أرشيف المقالات

بأبي أنت وأمي يا رسول الله

مدة قراءة المادة : 47 دقائق .
بأبي أنت وأمي يا رسول الله محمد بن شاكر الشريف تدلهمّ على الناس الخطوب وتفجؤهم المصائب الكبيرة، فإذا تأملوها حق التأمل وجدوا فيها من فضل الله وإحسانه ما تعجز الألفاظ عن التعبير عنه.
لقد فوجئ المسلمون بحفنة من الحاقدين النصارى الذين أعمى بصيرتهم شعاعُ الحق الظاهر من دين الإسلام، الدين الذي رضيه الله ـ تعالى ـ لعباده ولم يرض ديناً سواه، فذهب هؤلاء المنكوسون يفرغون حقدهم وضلالهم في العيب والذم لرسول الله ـ تعالى ـ الذي أرسله ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. لقد كانت فاجعة وأي فاجعة ومصيبة وأي مصيبة، لكن الله جعل من ذلك فرصة عظيمة للمسلمين لبيان حبهم لدينهم وشدة تمسكهم به، وبذل الغالي والنفس والنفيس للذود عن حبيبهم، ومهما كتب الكاتبون ومدح المادحون ونافح المنافحون فلن يستطيعوا أن يوفوه حقه اللائق به -صلى الله عليه وسلم-، ولكنها كلمات يكتبها المسلم المحب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليعبر بها عن بعض ما بداخله، وليؤدي جزءاً مما يجب عليه نحوه، كيف لا وقد أخرجنا الله ـ تعالى ـ به من الظلمات إلى النور وهدانا به الصراط المستقيم؛ فمن أقل ما يجب علينا أن ننتهز هذه الفرصة لنعّبر عما يجيش في صدورنا تجاه هذا الرسول الأكرم الذي لم تعرف له البشرية نظيراً أو مدانياً، وما مثل الكاتبين ومثل سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا كمثل رجل دخل بستاناً مثمراً من كل أنواع الثمار التي تحبها النفوس وتشتهيها، وذلك وقت نضجها، فلم يدر من شدة جمالها وحسنها ماذا يأخذ وماذا يدع. - كيف كان العالم قبل مجيء الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ كان العالم كله يعيش في ظلمات الجهل والضلالة والشرك، إلا عدداً قليلاً جداً ممن حافظ على دينه من أهل الكتاب، فلم يحرفوه أو يقبلوا تحريفه ممن قام به.
يقول الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان ...
» (1) ، فهذا الحديث يصور الحالة البشعة التي كان عليها العالم قبل مبعث خير البرية، حيث استوجبت من الله ـ تعالى ـ أشد البغض، وهذا لا يكون إلا مع الانغماس التام في الضلالة والبعد عن سنن الرشاد. فقد كان العرب يئدون البنات ويحرّمون أشياء مما رزقهم الله ـ تعالى ـ بغير حجة أو برهان.
قال ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ: «إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140] » (2) .
وكانوا يأكلون الميتة ويشربون الدم، كما قال الله ـ تعالى ـ مبيّناً حالهم، وآمراً رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول لهم: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 145] ، وفوق ذلك كله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، ويحرّمون على أنفسهم الاستفادة من بعض حيواناتهم، ويجعلون إنتاجها للطواغيت، كما نعى الله عليهم ذلك في قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] (3) ، ولم يكن أهل الكتاب أحسن حالاً منهم، فحرّفوا كتابهم المنزّل على رسولهم، وافتروا على الله الكذب وأشركوا بالله، وادّعى اليهود أن لله ـ تعالى ـ ولداً، كما ادّعت النصارى أن لله ـ تعالى ـ ولداً: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى.
قال الله ـ تعالى ـ في وصف ذلك: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] ، ولم يكونوا يتناهون عن المنكرات التي تحدث بينهم كما قال الله عنهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 ـ 79] ، وكان المجوس يعبدون النار ويستحلون نكاح المحارم فينكح الرجل منهم أخته أو ابنته.
وبالجملة: فقد كان العالم في ظلام دامس وشرك وضلال، حتى جاءهم الرسول الكريم بالرسالة الشاملة الهادية إلى صراط مستقيم؛ فبأبي أنت وأمي يا رسول الله! كما يبين الحديث الغرض الذي لأجله بعثه الله ـ تعالى ـ وهو دعوة الناس إلى الله ـ تعالى ـ ومجانبة طريق الشرك والضلال، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.
قال النووي: «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، معناه: لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة، وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله ـ تعالى ـ وغير ذلك، وأبتلي بك من أرسلتك إليهم؛ فمنهم من يظهر إيمانه ويُخلص في طاعاته، ومن يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر، ومن ينافق» (4) .
ولم ينس الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان العدل والإنصاف من شمائله أن يستثني من الشرك والضلالة طائفة من أهل الكتاب ظلت محافظة على عهد الله ـ تعالى ـ إليهم، فقال: «إلا بقايا من أهل الكتاب» ؛ فالإسلام دين يحث على العدل والإنصاف وعدم غمط الناس.
قال الله ـ تعالى ـ: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] وقال: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" [آل عمران: 199] ، وقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75] وغير ذلك من الآيات. - ماذا قدّمت دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للعالمين؟ بعد أن عمَّ الشرك والجهل والضلال والظلم العالم كله، وكان في حاجة ماسة إلى من يخرجه من كل هذه الظلمات منَّ الله ـ تعالى ـ على العالمين ببعثته، كما قال ـ تعالى ـ: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] ؛ فهو -صلى الله عليه وسلم- مرسل ليخرج الناس كلهم من أنواع الظلمات كلها إلى النور التام وليس جنساً دون جنس؛ إذ دعوته -صلى الله عليه وسلم- ليست قومية أو عنصرية، كما قال ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 9] ، فكان -صلى الله عليه وسلم- بذلك رحمة للناس جميعاً، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] . فدعا الناس إلى الله ربهم، لا يطلب منهم على ذلك أجراً أو مقابلاً، وتحمّل منهم في سبيل ذلك الأذى الكثير، ومنع العدوان على الناس حتى لو كانوا من الكافرين، فبلّغ عن ربه قوله: {وََلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] الشنآن: هو البغض. ومنعَ الظلم بين الناس ولم يقبله حتى من أتباعه على أعدائه، وأمر بالعدل حتى مع الأعداء، فبلَّغ عن ربه ـ تعالى ـ قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] . ودعا الناس إلى الوفاء بالعهود والعقود حتى مع الأعداء، ولم يكونوا كالذين قالوا: ليس علينا لمن خالفنا في ديننا أية حقوق، يستحلون بذلك ظلم من يخالفهم ويكذبون على الله وينسبون ذلك إليه (1) ، فبلَّغ عن ربه ـ تعالى ـ قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وقوله: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] . وقد كان النهي عن الخيانة من الأحكام التي جاء بها الرسول الكريم وبلّغها للناس، حتى من يُخشى خيانته من الأعداء؛ فلا ينبغي خيانتهم؛ لأن الخيانة خلق ذميم والله لا يحب الخائنين.
قال الله ـ تعالى ـ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] ؛ فإذا خاف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أتباعه من قوم عاهدوهم خيانةً بإمارة تلوح أو ترشد إلى ذلك، فلا ينبغي للمسلم أن يخون بناء على ما ظهر من إقدام العدو على الخيانة، ولكن عليه أن يبين لهم أن العهد الذي بيننا وبينكم قد ألغي.
قال ابن كثير: «أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك» (2) ؛ فإن غير ذلك من الخيانة، والله لا يحب الخائنين. وقد كان لتعليماته -صلى الله عليه وسلم- أكبر التأثير على أصحابه، فالتزموا بها حتى ضربوا أروع الأمثلة في كل ذلك؛ فعن سليم بن عامر ـ رجل من حمير ـ قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو بِرْذَوْنٍ وهو يقول: الله أكبر ...
الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا؛ فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلّها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء، فرجع معاوية» (3) . فما أحسن أثر دعوته -صلى الله عليه وسلم- على العالمين جميعاً، وما أقبح موقف الكافرين منه، الذين ناصبوه العداء وعاندوا دعوته، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله! - احتماله -صلى الله عليه وسلم- الأذى في تبليغ الدعوة: وقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في التمسك بالحق والثبات عليه وعدم التضعضع أمام الباطل وسلطانه؛ فعن عقيل ابن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقالوا: إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي مجلسنا فانهه عن أذانا، فقال لي: يا عقيل! ائت محمداً.
قال: فانطلقت إليه، فجاء في الظهر من شدة الحر فجعل يطلب الفيء يمشي فيه من شدة حر الرمضاء، فأتيناهم، فقال أبو طالب: إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم، فانْتَهِ عن ذلك! فحلَّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببصره إلى السماء فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم! قال: ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تُشعلوا منها شعلة.
فقال أبو طالب: ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا» (4) ، يبين لهم شدة تمسكه بالحق الذي هداه الله إليه واستحالة تركه أو ترك الدعوة إليه؛ فكما أنهم عاجزون عن أن يشعلوا شعلة من الشمس فهو لا يمكنه ترك ما أوحاه الله إليه.
وإزاء هذا الإباء والثبات، عادته قريش وآذوه وصدوا الناس عنه، حتى بلغ بهم الأمر أن يتعاقدوا ويتعاهدوا على مقاطعة الرسول والمؤمنين ومن يسانده من أقربائه حتى لو كانوا على دين قريش، فقاطعوهم مقاطعة اجتماعية، لا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم ولا يكلمونهم ولا يجالسوهم، وقاطعوهم مقاطعة اقتصادية لا يبتاعون منهم ولا يبيعون لهم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلّقوها في سقف الكعبة، وظلت هذه المقاطعة ثلاث سنوات.
وانظر تصويراً لتلك الحالة الصعبة التي كان فيها المسلمون: يقول سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: لقد رأيتني مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة فخرجت من الليل أبول؛ فإذا أنا أسمع قعقعة شيء تحت بولي، فنظرت فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها، فرضضتها بين حجرين ثم استففتها، فشربت عليها من الماء فقويت عليها ثلاثاً» (5) ، «وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام لعياله، فيقوم أبو لهب عدو الله، فيقول: يا معشر التجار! غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئاً، فقد علمتم ما لي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً، حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يديه شيء يطعمهم به» (1) ؛ فما ردَّه ذلك عن دعوته، وقد بلغ الإيذاء بأصحابه مبلغه حتى اضطرهم ذلك إلى مغادرة الأوطان والهجرة منها، وترك التجارات والأموال والأهلين، وانتهى الأمر به -صلى الله عليه وسلم- إلى الهجرة وهو صابر محتسب صامد كالطود الأشم، تميد الجبال الشم وهو -صلى الله عليه وسلم- ثابت لا ينحني، ولم يقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يساوم على دعوته، أو يقبل بما يدعونه من الحلول الوسط، بأن يكتم بعض ما أنزل الله إليه في سبيل أن يمتنع الكافرون عن معاداته أو محاربته، أو أن يلين في الحق مقابل أن يلينوا معه في مواقفهم، بل رفض كل ذلك وظل صامداً فصلى الله تعالى عليه وسلم، وقد سجل القرآن الكريم هذا الموقف بقوله ـ تعالى ـ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] ، وقال لهم في قوة وصلابة في الحق كما أمره ربه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1ـ 6] ، وعرضوا عليه الأموال والنساء والملك، فيأبى كلَّ ذلك ولسان حاله يقول: واللهِ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله ـ تعالى ـ أو أهلك دونه. ولما مكّنه الله ـ تعالى ـ وأظهره لم يطغَ أو يظلم أحداً ولم يبغ العلو في الأرض، وإنما جاهد في الله حق جهاده، وبذل نفسه في سبيل ذلك، وسنَّ في ذلك سنناً هي في غاية العدل والكمال، فلا ظلم ولا اعتداء ولا إفساد، ولا رغبة في العلو في الأرض بالباطل، ولا رغبة في التوسع على حساب الشعوب، بل كان يدعوهم إلى الله ـ تعالى ـ لا إلى نفسه ولا إلى قومه، حتى كان العربي والعجمي في كنفه سواء؛ فهذا بلال الحبشي مؤذنٌ لصلاة المسلمين بين يدي رسول الله، وهذا صهيب الرومي الذي ترك ماله لقريش حتى لا يمنعوه من الهجرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلقاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول له: ربح البيع أبا يحيى! وهذا سلمان الفارسي الذي يقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «سلمان منا أهل البيت» ، وكان يدعو الناس فمن قَبِلَ منهم دعوة الله كان واحداً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، من غير تفرقة بلون أو لغة أو جنس، وهذه هي وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن خرج مجاهداً في سبيل الله تعالى؛ مما يبين بكل وضوح نبل غاية الجهاد، وأنه جهاد لإحقاق الحق وليس للعلو في الأرض أو الإفساد؛ فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً! وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال؛ فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية؛ فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم!..
الحديث» (2) فبأبي أنت وأمي يا رسول الله! - الأمانة في تبليغه -صلى الله عليه وسلم- الدعوة: حيثما توجهت مع الرسول الكريم لا تجد إلا الطهر والنقاء، والثبات والقوة، والصدق والأمانة، يبلِّغ ما أوحاه الله إليه، ولا يُخفي منه شيئاً، حتى لو كان فيما أمر بتبليغه ما يدل على معاتبته على أحد التصرفات، فبلّغ قوله ـ تعالى ـ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 1ـ4] .
قال ابن كثير: «ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديماً، فجعل يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء ويلحّ عليه، وودّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لو كفّ ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعاً ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله ـ تعالى ـ: {عَبَسَ وَتَولَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 1 ـ 3] » (3) ؛ فما انصرف عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعبس رغبة عنه أو استهانة به، وإنما حمله على ذلك رغبته في إسلام أولئك العظماء؛ ليعزّ بهم المسلمون، ومع ذلك فقد بلّغها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يكتمها. وكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مولى اسمه زيد بن حارثة ـ رضي الله تعالى عنه ـ تبناه الرسول قبل البعثة، وكانت عادة العرب أن زوجة الابن تحرم على الوالد، ولو لم يكن ابناً للصلب، وإنما كان ابناً بالتبنّي، وأراد الله ـ تعالى ـ أن يهدم هذا العرف الجاهلي، فلما طُلقت زينب بنت جحش زوجة زيد ـ رضي الله تعالى عنها ـ شرع الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- زواجها ليكون هو أول من يهدم هذا العرف الجاهلي؛ لكن هذا الأمر كان صعباً على تلك البيئة؛ لتأصّل تلك العادة فيهم، فأخفى -صلى الله عليه وسلم- في نفسه هذه المشروعية، فقال الله ـ تعالى ـ له في شأن زينب بنت جحش وزوجها زيد بن حارثة مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] فبلّغها ولم يكتمها، قال أنس: «جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك! قال أنس: لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتماً شيئاً لكتم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: زوّجكن أهاليكن، وزوّجني الله ـ تعالى ـ من فوق سبع سموات» (1) ؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أمين على وحي الله ـ تعالى ـ يبلغه كما أنزله الله عليه، لا يزيد فيه ولا ينقص منه. - رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالعالمين: قال الله له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، فما أرسله ـ تعالى ـ إلا ليكون إرساله رحمة للعالمين جميعاً، فمن قَبِلَ رسالته فهو ممن رحمه الله ـ تعالى ـ ومن أعرض فعلى نفسه جنى، ولقد شملت رحمته -صلى الله عليه وسلم- حتى الحيوانات؛ فعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: «كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرَة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من فجع هذه بولدها؟ رُدُّوا ولدها إليها! ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: من حرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن ُيعذِّب بالنار إلا ربُّ النار» (2) فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يرقّ لحال هذا الطائر الذي فقد ولديه، ويرحمه ويأمر من أخذهما بإطلاقهما، مع أن صيد البر حلال، لكن الرحمة التي ملأت جوانح الرسول الكريم لم يقدر معها على رؤية هذا الطائر المسكين المفجوع في ولده، حتى أمر بإطلاقه.
وها هو ذا -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى رحمة كل ما فيه روح، ويحث على ذلك ببيان ما فيه من الأجر فيقول: «بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفّه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر» (3) وكان -صلى الله عليه وسلم- يرحم الصبية الصغار ويقبّلهم؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قبّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: مَنْ لا يَرحم لا يُرحم» (4) ، ودعا أمته إلى رحمة الخلق جميعهم ـ من في الأرض ـ من يعقل كالإنس، ومن لا يعقل كالحيوانات، فقال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» (5) .
وقد سجلت لنا السيدة خديجة ـ رضي الله تعالى عنها ـ شمائله التي طبعه الله ـ تعالى ـ عليها حتى من قبل أن تأتيه الرسالة، فقالت له لما جاءه الوحي: «واللهِ ما يخزيك الله أبداً: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» (6) فكانت هذه خِلالُه -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه، فلما جاءه الوحي زادت نوراً وتلألؤاً وجلالاً، فصلى الله عليك يا من أرسلك ربك رحمة للعالمين! - الحلم والعفو والصفح من شمائله -صلى الله عليه وسلم-: كان الحلم والعفو والصفح شيمة هذا الرسول الكريم، حتى إنه لم ينتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حدود الله تعالى؛ فقد كان لرجل من اليهود دَيْن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتاه يتاضاه منه وأغلظ له في الكلام، فردَّ عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحلم وصفح على ما يتبين من هذه الرواية حتى أدّاه ذلك إلى الإسلام؛ فقد كان زيد بن سعنة من أحبار اليهود وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- «يتقاضاه فجبذ ثوبه عن منكبه الأيمن، ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل، وإني بكم لعارف.
فانتهره عمر، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عمر! أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج: أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، انطلق يا عمر أوفه حقه، أما أنه قد بقي من أجله ثلاث [أي: لم يحن أجل الدَّيْن بعدُ، بل بقي منه ثلاثة أيام] فزِدْه ثلاثين صاعاً، لتزويرك عليه» (7) ، ورواه ابن حبان وفيه: «فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة رجل من الأنصار، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه، فأخذت بمجامع قميصه ونظرت إليه بوجه غليظ، ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب بمُطْل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، قال: ونظرت إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره، وقال: أيْ عدوَّ الله! أتقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أسمع وتفعل به ما أرى؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي هذا عنقك؛ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: إنَّا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر! أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعاً من غيره، مكان ما رعته، قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أزيدك مكان ما رعتك، فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحَبْر؟ قلت: نعم! الحَبْر، قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قلت وتفعل به ما فعلت؟ فقلت: يا عمر! كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه: يسبق حِلمُه جهلَه، ولا يزيده شدةُ الجهل عليه إلا حِلماً، فقد اختبرتهما، فأشهدك يا عمر! أني قد رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً، وأشهدك أن شطر مالي ـ فإني أكثرها مالاً ـ صدقة على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر: أو على بعضهم؟ فإنك لا تسعهم كلهم، قلت: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده..
الحديث» (1) فحلم عليه، ولم يردّ عليه بمثل ما قال، بل زاده في حقه من أجل انتهار عمر له.
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء» (2) فلم يقابل جفاء الأعرابي وغلظته وقسوته عليه إلا أن التفت إليه وضحك، ثم أعطاه ما سأل؛ فما أحلمك يا رسول الله! وقد حاربته قريش أشد المحاربة، وألَّبوا عليه القبائل وآذوه وآذوا أصحابه، فلما أمكنه الله منهم وأظهره عليهم ودخل مكة فاتحاً في عام الفتح في موقف النصر والعزة والتمكين، لم يعاملهم بما يستحقونه من العقاب البليغ، بل عفا عنهم «وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانع بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» (3) . - شجاعته -صلى الله عليه وسلم-: كان لرسول -صلى الله عليه وسلم- في الشجاعة القِدح المعلَّى، فكان أسرع الناس إلى العدو وأقربهم إليه، ولم يفرّ -صلى الله عليه وسلم- من أية معركة رغم شدتها والتحام الصفوف؛ فعن أبي إسحاق قال: «جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم ولّيتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ما ولَّى، ولكنه انطلق أخِفَّاء من الناس وحُسَّر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب ...
أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزِّل نصرك، قال البراء: كنا والله إذا احمرّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للَّذي يحاذي به، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-» (4) ، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا دهم المدينةَ خطر يكون أسرع الناس لاستجلائه، فعن أنس قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: لن تُراعوا، لن تُراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: لقد وجدته بحراً أو إنه لبحر» (5) فلفرط شجاعته -صلى الله عليه وسلم- كان أول من انطلق حتى يستجلي الأمر، حتى إن أسرع الناس من بعده لم يلحقه إلا وهو راجع، وذهب على فرس عري ليس عليه سرج والسيف في عنقه، فأي شجاعة هذه التي تجعل من صاحبها يقدم بمفرده ولا ينتظر من يعاونه أو يساعده على هذا الوضع الصعب؟! وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أخبر: «أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قِبَلَ نجد؛ فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت سَمُرة فعلَّق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة، ثم إذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صَلْتاً، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله؛ فها هو ذا جالس، ثم لم يعاقبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» (1) ، في هذا الوضع الصعب حيث الرجل ممسك بالسيف، والرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس معه سلاح، لكنه ظلَّ رابط الجأش واثقاً من معية الله، ولم يظهر منه خوف أو جزع، بل ثبات ويقين.
قال ابن حجر: «وفي الحديث فرط شجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقوة يقينه وصبره على الأذى وحلمه عن الجهال» (2) . - وجوب نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-: نصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من لوازم الإيمان، وقد ضمن الله ـ تعالى ـ الفلاح لمن آمن برسوله ونَصَرَه، فقال ـ تعالى ـ: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] ، فالذين عزّروه هم الذين وقَّروه، والذين نصروه هم الذين أعانوه على أعداء الله وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب لهم، وقد مدح الله ـ تعالى ـ المهاجرين الذين نصروا رسوله وشهد لهم بالصدق في إيمانهم فقال ـ تعالى ـ: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] ، كما شهد لمن آوى المهاجرين ونصر الرسول بأنهم هم المؤمنون حقاً فقال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74] ، فكان البذل والعطاء في سبيل الله سواء بالهجرة أو بالنصرة دليل الإيمان الحق. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في مكة قبل الهجرة يطوف على الناس يطلب النصرة حتى يتمكن من إبلاغ رسالة الله ـ تعالى ـ للعالمين؛ فعن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: «مكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى، يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة؟ ..» الحديث (3) ، وعندما أراد الهجرة إليهم في المدينة أخذ البيعة عليهم أن ينصروه وأن يمنعوه مما يمنعون منه أهليهم، ففي الحديث المتقدم قال لهم: «وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة» (4) . وقد أخذ الله ـ تعالى ـ الميثاق على من تقدّمنا من الأمم بنصرة الرسول الكريم؛ فما أتعس قوماً أخذ عليهم الميثاق بنصرته -صلى الله عليه وسلم-؛ فإذا هم يسخرون ويستهزئون! قال الله ـ تعالى ـ في أخذه الميثاق على من سبق من الأمم: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] ، فأخذ الميثاق على النبيين كلهم وأممهم تبع لهم فيه.
قال ابن كثير: «قال علي ابن أبي طالب وابن عمه ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ: «ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أُخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به وينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه» (5) . وقد بين الله ـ تعالى ـ أنه ناصر رسوله، وأن رسوله ليس في حاجة إلى نصرهم، والمسلم عندما ينصر الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- فإنما يسعى لخير نفسه، وإذا تقاعس فلن يضر إلا نفسه، وقد نصر الله رسوله في أحلك الظروف وأصعب الأوقات عندما هاجر من مكة إلى المدينة وقريش كلها تطارده بخيلها ورجلها تأمل العثور عليه، لكن الله أنجاه منهم مع ضعف الإمكانات وقلة الزاد والمعين، قال الله ـ تعالى ـ يبين ذلك: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] فمن تقاعس عن نصرة الرسول فلا يُزري إلا بنفسه، وهي منزلة من العز والشرف قد حرم منها. وإذا كانت هناك وسائل كثيرة لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والانتصار له ممن سخر أو استهزأ من الكفرة والملحدين، فإن من النصرة التي يقدر عليها كل مسلم، ولا يعذر في التخلف عنها: محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وموالاته واتباع سنته، وترك الابتداع في الدين؛ إذ لا يستقيم أن يكون المسلم ناصراً حقاً للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في الوقت الذي يعصيه فيه ويخالف سنته، ويبتدع في دينه، أو يوالي أعداءه، ويناصرهم ويقف معهم في ملماتهم، وكيف تكون هناك موالاة بين المسلم وبين الكافر الذي يسخر أو يسب الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وقد قال الله ـ تعالى ـ: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ؟ [المجادلة: 22] . - وجوب تعزيره وتوقيره -صلى الله عليه وسلم-: التعزير: النصرة والحماية، والتوقير: التعظيم والإجلال، وكل ذلك يستحقه الرسول الكريم، وبذلك أمرنا رب السماوات والأرضين.
قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 8 - 9] ، ومحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره يرجع إلى أمرين: أمر إلى صفاته الشخصية وشمائله التي تحلّى بها، والتي لا تدع لأي منصف اطلع عليها إلا أن يحب هذا الرسول ويوقره ويعظمه، وهذه تكون من المسلمين كما تكون من المنصفين من غير المسلمين، وهناك كمٌّ كبير من أقوالهم في ذلك، وآخر: إلى أمر الله بذلك وإيجابه على المسلمين، وهذه يختص بها الذين آمنوا بالله ورسوله، حتى يفديه المؤمن بأبيه وأمه، بل يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من كل شيء، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (1) ، بل لا بد أن يكون الرسول أحب إلى المسلم من نفسه التي بين جوانحه، فيؤْثر مرضاة الرسول على ما تطمح إليه نفسه، ويقدم أمره وسنته على محبوباته ورغباته، فعن عبد الله بن هشام قال: «كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحبُّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر!» (2) ، وقد كان المسلمون من محبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرِّضون أنفسهم للمهالك والردى في سبيل حفظ الرسول ونجاته، فعن أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: «لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو طلحة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- مجوب به عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد القد يكسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة، فأشرف النبي -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبْك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك» (4) .
وإزاء كل ما تقدم لم يكن من المسلمين لرسولهم إلا الحب والإجلال والإكبار والرغبة في فدائه بكل ما يملكون، ولم يكن أحد من أصحابه يطيق أن يسمع شيئاً مما قد يكون فيه أدنى نقص من قدره -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: «استبَّ رجلان: رجل من المسلمين ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تخيِّروني على موسى؛ فإن الناس يُصعقون يوم القيامة فأُصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله» (5) ، فلم يحتمل الصحابي الجليل أن يسمع من اليهودي تفضيل موسى ـ عليه السلام ـ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (5) ، وقد روى ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قصة تبين مدى حب الصحابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعنه «أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي -صلى الله عليه وسلم- وتشتمه فأخذ المِغْوَل فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ألا اشهدوا أن دمها هدر» (6) . ولم يكن يتصور أن يقوم أحد ممن آمن به بانتقاصه أو سبّه أو السخرية منه أو الاستهزاء به، وقد أجمع علماء المسلمين على أن من سبّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أحداً من أنبياء الله ورسله أنه مرتد ويجب قتله، كما أن من سبّه من أهل العهد والذمة فإن عهده ينتقض بذلك ويجب قتله، فإنَّا لم نعاهدهم على سب رسولنا أو الانتقاص منه.
قال محمد بن سحنون: «أجمع العلماء على أن شاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر» (7) وقال ابن تيمية: «وتحرير القول فيه: أن السابَّ إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذمياً فإنه يقتل ـ أيضاً ـ في مذهب مالك وأهل المدينة، وقد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة.
قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: «كل من شتم النبي -صلى الله عليه وسلم- أو تنقَّصه ـ مسلماً كان أو كافراً ـ فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يستتاب» (8) . وبعد: فهل وفيتُ حق الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ لا، وألف لا، بل ولا قطرة في بحر حقه وفضله، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله! اللهم إنَّا قد أحببنا نبيك وأصحاب نبيك، فاللهم احشرنا في زمرتهم!

شارك الخبر

المرئيات-١