أرشيف المقالات

بحث لغوي آُنُف

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
للأستاذ عبد القادر المغربي كنت ألقيت في ردهة المجمع العلمي العربي بدمشق محاضرة في غريب اللغة قصصت في آخرها خبر الأميرة العمانية (ابنة الجلندي)، وكانت تحمق، أي تنسب إلى الحمقى.
وقد ذكروا من حمقها أنها أرادت يوماً أن تلهو، فألبست سلحفاة لها حليّ زينتها، ونزلتها تسرح في حديقة قصرها.
وكانت الحديقة على شاطئ البحر، فانسابت السلحفاة إلى الشاطئ وغاصت في الماء بما عليها من الحلي.
فأمرت الأميرة جواريها أن يغترفن ماء البحر بأكفهن، ويصببنه على رمل الساحل.
وكانت تقول لهن منشطة (نزافِ نزافِ، لم يبق غير قُدافِ) أي لم يبق غير غرفة؛ فعيروها بحمقها، وضربوا به المثل.
فتخيلت أنها دافعت عن نفسها بقولها: إن الحروب البشرية التي يقع فيها التغريق والتدمير، لم ينسبوا أهلها إلى الحمقى، فكيف يحمقونها هي؟ ثم قلت على لسانها (أنا غرّقت وهم غرّقوا، وشتان بين ما محَّقت ومحَّقوا، أفيكون من العدل أن أحمّق ولا يحمّقوا؟) فاستعملت فعل (محّق) من باب (التفعيل)، وعلى أثر ذلك كتب الأستاذ صلاح الدين المنجد في مجلة الرسالة الزاهرة (العدد 441 من السنة التاسعة) مقالاً أثنى فيه على المحاضرة، ولكنه أنتقد استعمالي لفعل (التمحيق مكان (المحق) وسأل عما إذا كان يصح هذا الاستعمال، فأحببت أن أجيبه على نقده بالكلمة التالية: حقاً إن فعل المحق لا يجيء في كلام العرب إلا ثلاثياً، ونقل بعضهم مجيئه من باب الإفعال، لكنهم اتفقوا على أنه لغة رديئة بل أنكرها الأصمعي بالمرة.
هكذا قال أصحاب اللسان والصحاح ومختار الصحاح والمصباح، فإنهم جميعهم ذكروا (المحق والإمحاق) ولم يذكر التمحيق.
وقد خالفهم في ذكره صاحب القاموس وشارحه وهذه عبارتهما: (محقه كمنعه محقاً أبطله ومحاه، كمحّقه تمحيقاً للمبالغة.
ومنه قراءة عبد الله بن الزبير (يمحق الله الرّبا، ويُرِّبي الصدقات، يمحق من التمحيق ويربي بتشديد الباء من التربية) هـ وظاهر هذا القول أن التشديد لغة في التخفيف وأرى أن قول أرباب المعاجم هو الحق، وأنه لا (تمحيق) في اللغة، وإنما الذي فيها هو (المحق) وقد سها صاحب القاموس فقال بالتمحيق، وما استشهد به من قراءة ابن الزبير محلاً للاستشهاد، وإن صحّت القراءة. وبين ذلك أنّ (يمحّق الله الربا) المشدّد الحاء في قراءة ابن الزبير إنما جاء مشدداً للمزاوجة بين فعلي (يمحِّق) و (يرِّبي) فيصبحان كلاهما مشددين والتزاوج بين كلمات اللغة في الكلام الفصيح مذهب للبلغاء معروف وطريق مطروق.
ومنه الحديث الشريف (إرجعن مأزورات غير مأجورات) فقوله (مأزورات) إنما هُمزَ ليواخي ويُزاوج (مأجورات) فلا يُقال إن الفعل من (مأزورات) هو (أزر) بالهمز وإنه بمعنى (وزر).
ثم لا يجوز استعمال أزر في الكلام من دون غرض المزاوجة المذكورة، كما لا يجوز تدوين فعل (أزر) في المعاجم في مادة (أ.
ز.
ر).
ومثله (محَّق) بالتشديد فهو إنما ورد في قراءة ابن الزبير لغرض المزاوجة وليس هو لغة للعرب.
ولذا لا يجوز استعماله في جملة لا ازدواج فيها، كما لا يجوز تدوينه في المعاجم.
وهذا ما جعل أرباب المعاجم يهملونه فأستنتج من كلِّ ما مر أنه تجوز تخطئة صاحب القاموس في تدوينه فعل التمحيق وتخطئة شارحه في عدم الإشارة إلى أمر المزاوجة، كما يجوز لي أن أعتذر لنفسي في استعمال فعلي (محَّقتُ ومحَّقوا) بالتشديد، أعتذر بأني إنما ذكرته مزدوجاً بأشباهه من الأفعال المشددة قبله وبعده، (أنا غرَّقتُ وهؤلاء غرّقوا، وشتان بين ما محَّقت ومحَّقوا، أفيكون من العدل أن أحمَّق وما يحمقوا!): وهناك وجه آخر لصحة فعل التمحيق ربما ذهب بعضهم إليه، وهو أن علماء الصرف ذكروا أنه يأتي بالفعل الثلاثّي من باب التفعيل لإفادة المبالغة تارة والتعدية تارة؛ فلم لا يكون محق إنما شُدد لهذا الغرض، أي غرض المبالغة لا غرض المزاوجة؟ والجواب على ما يذهبون إليه هو أن هذه المسألة، أي مسألة ما يقوله علماء الصرف في قياسية صيغ الأفعال المزيدة على اختلافها، وما تفيده تلك الزيادات من الدلالة على التعدية والمبالغة وغيرها - هذه المسألة ما زالت ولا تزال موضعاً للأخذ والرد بين العلماء وبين أعضاء مجامعنا العلمية خاصة.
وكل ما فعل مجمع مصر من التوسعة والترخيص في زيادات الأفعال المزيدة، أنه قرر قياسية تعدية الفعل الثلاثي بالهمزة (مجلة المجمع ج 1 ص 230) ولم يبت الرأي في ما وراء ذلك بعد.
ولعله يعود إلى الترخيص في قياسية التضعيف لإفادة المبالغة في مثل أفعال (حَلّل، برَّر، عضَّد، نقّد، وصَّف) فإن في الترخيص بذلك سداً للثلمة، ووفاء للحاجة، وتأدية لأغراض المتكلمين في العلوم العصرية والفنية وماله اتصال بها من صناعات واختراعات وما قلناه في عدم جواز استعمال (التمحيق) هو رأينا، ما دمنا لم نجد نصّاً على جوازه غير قراءة ابن الزبير فإذا وُجد النص فنحن له تَبع. (دمشق) عبد القادر المغربي نائب رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية (دمشق)

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١