أرشيف المقالات

وماذا بعد الهرج ؟

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
وماذا بعد الهرج؟!

أما وقد طاشت الأحلام، وكثُر اللئام، وغُمِدت في قلب الحقيقة ما لا نهاية من السهام، واعتلى منابرَ الحقيقة الكاذبون وصانعو الأوهام، وسالت دماءُ القِيَم على جِدران الزيف والتضليل والغش والتدليس والبُهتان؛ فقد حدثت الغفلة، فحدِّث ولا حَرَج عن خفاء الحلال، وتبدُّل الأدوار، والتباس المفاهيم، واختلاط الرؤى، وحدِّث ولا حَرَج عن اضطرابات الفِكْر والسلوك، ومظاهر الغفلة القميئة تُخرِج لسانَها وتَصُبُّ مِلْحَها على جراحنا، فلا نحن بَرَأنا، ولا نحن تبرَّأنا!
 
لقد شبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم العبادةَ في الهَرْج بالهجرة إليه عليه الصلاة والسلام؛ فعن مَعقِل بن يسار رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العبادة في الهَرْج كهجرةٍ إليَّ))[1].
 
قال النووي رحمه الله: "المراد بالهَرْج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يَغفُلون عنها، ويَشتغِلون عنها، ولا يتفرَّغ لها إلا أفراد".
 
وقال القرطبي: "المتنسِّك في ذلك اليوم، والمنقطع إليها المنعزِل عن الناس، أجره كأجر المهاجر إلى النبي؛ لأنه ناسبه من حيث إن المهاجر فرَّ بدينه ممن يَصُد عنه للاعتصام بالنبي، وكذا هذا المنقطع للعبادة، فرَّ من الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربه، فهو في الحقيقة قد هاجَر إلى ربّه وفَرَّ من جميع خَلْقه".
 
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: "كونوا ينابيعَ العلم، مصابيح الهدى، أحلاس[2] البيوت، سُرُجَ الليل، جُدُد القلوب، خُلْقان الثياب، تُعرَفون في السماء، وتَخْفون على أهل الأرض".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها ستكون فتنٌ، ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمَن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليَلحَق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه))، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض، قال: ((يَعمِد إلى سيفه فيَدُق على حدِّه بحجر، ثم لينجُ إن استطاع النجاءَ، اللهم هل بلَّغتُ، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت))، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أُكرِهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصَّفين أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه أو يجيء سَهْم فيقتلني قال: ((يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار))[3].
 
لقد أرشدنا المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكل ما فيه نجاتنا، وما يشهده الواقع من سيول الفتن لا مفرَّ منه إلا باللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وعدم الاستغراق في الواقع لدرجة تجعلنا نُحبَط ونيئس، بل نستعين بالله، ونستشعر جمالَ معيَّته سبحانه وتعالى بالدرجة التي تُحقِّق لنا (التعبئة الرُّوحية)، فتقوى عزيمتُنا على مواجهة مظاهر الانحراف والاعوجاج التي أصابت مجتمعنا، مع كلِّ اليقين أنه مهما زادت الفتن وعلا صوت الباطل والمُبطلين، فالنهاية ستكون حتمًا لصالح صوت الحق والمنصِفين، فتلك هي الحقيقة التي وضعنا عليها قرآننا: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]، فليس معنى الهجرة وقت الهَرْج أن نَنفصِل عن واقعنا المليء بالمشكلات، أو أن تتعطَّل عزيمتنا وتَعجِز إرادتنا، بل هي (استثمار لطاقاتنا الإيجابية في مواجهة مشكلات الواقع)، فتكون الهجرة بمثابة (محضن تأهيلي تربوي) يتم فيه شَحْذ الهمم وتعبئة النفوس رُوحيَّا، حتى تستطيع مواجهة ما يَعْتري واقعها من مشكلات؛ "فمعاناة الخَلْق، ومكابَدة مشاقِّ الحياة أصلٌ عظيم من أصول التربية الناجحة، وهو ما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ((المؤمن الذي يُخالِط الناسَ، ويَصبِر على أذاهم، أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يُخالِط الناس ولا يَصبِر على أذاهم))[4].
 
"إن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في القلب حتى يتعرَّض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان؛ لأنه يُجاهد نفسَه كذلك في أثناء مجاهدته للناس، وتتفتَّح في الإيمان آفاقٌ لم تكن لتتفتح أبدًا وهو قاعد آمن ساكن، وتتبيَّن له حقائق في الناس والحياة لم تكن لتتبيَّن له أبدًا بغير هذه الوسيلة، ويَبلُغ هو بنفسه وبمشاعره، وتصوُّراته، وبعاداته وطِباعه وانفعالاته واستجابته، ما لم يكن ليبلغه أبدًا بدون هذه التجرِبة الشاقة العسيرة"[5]، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



[1] مسلم (2948)، والإمام أحمد (20298)، والترمذي (220).



[2] حَلَس = لازَم.



[3] رواه مسلم في صحيحه.



[4] محمد ناصر الدين الألباني، صحيح سنن ابن ماجه: كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، مكتبة المعارف لنشر والتوزيع بالرياض ط.
1، سنة 1418هـ / 1997م ، (3: 320).


[5] سيد قطب، هذا الدين، دار القرآن الكريم، الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية ، 1398هـ / 1978م ، (ص: 10).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢