تفسير سورة الفتح (4)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

وها نحن مع سورة الفتح المدنية، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات منها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:15-17].

تخلف الأعراب عن رسول الله في الحديبية

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! سبق أن علمنا في سياق الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سنة ست من الهجرة بعد غزوة الخندق وانهزام المشركين وعودتهم خاسئين ذليلين، وعلى رأسهم كفار قريش في مكة؛ رأى صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فاستنفر من معه فاستجاب ألف وأربعمائة، ولم يستجب من قبائل جهينة ومزينة وأسلم وأشجع إلا القليل فقط، لماذا؟

يريدون أن يهلك الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون على أيدي المشركين، ويتخلصوا من الإسلام، وذلك لنفاقهم، بل لجهلهم، ما عرفوا الله، ادعوا الإيمان صورياً.

وخرج صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية مع رجاله ونزلوا بالحديبية تحت شجرة من السمر، وجرت مفاوضات بينه وبين أهل مكة، وانتهت المفاوضات بعقد صلح على أن يعود صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة هذا العام، وفي العام المقبل يأتون معتمرين وتفتح لهم مكة ويحمون ويحرسون، ولا شك أنها كانت هموماً وغموماً وآلاماً؛ لأنهم جاءوا يسوقون هديهم يريدون العمرة، فيصدونهم عن سبيل الله، يمنعونهم من دخول مكة، بل بعثوا حوالي ثلاثين شاباً ليغتالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الله فضحهم وسلط عليهم أصحاب رسول الله فأخذوهم أسرى، ثم عفوا عنهم وتركوهم.

فلما ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الغم وهذا الكرب والهم ورجاله معه عوضهم الله بنعم عظيمة، فقال: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] فتحنا لك فتحاً واضحاً بيناً، ألا وهو فتح خيبر وفتح مكة، خيبر في هذه السنة ومكة في السنة الثامنة، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح:2-4]، ثم قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:8-10].

هذا السياق الكريم إذا عشناه في هذه الدقائق فمعنى ذلك أننا مع الله ورسوله، فكيف نصل إلى هذا المستوى؟ وصلنا إليه بفضل الله علينا بالإيمان بالله وكتابه، بالإيمان بالله ورسوله، وها نحن نتدارس كتاب الله، فالحمد لله.

رغبة الأعراب في المسير إلى خيبر طمعاً في المغنم وجواب الرسول لهم

قال تعالى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ [الفتح:15] من هم المخلفون؟ الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة للعمرة، لماذا تخلفوا؟ لأنهم منافقون مرضى القلوب، يظنون أن المشركين سيقتلون رسول الله والمؤمنين، ولن ينتصر عليهم رسول الله والمؤمنون، فقالوا: نحن لنا أشغال وأعمال وإصلاحات في أموالنا وفي أهلينا ولا نتمكن من الخروج، واعتذروا للرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأعذار الباطلة، هؤلاء هم المخلفون الذين خلفهم رسول الله والمؤمنون وراءهم في المدينة واتجهوا نحن مكة، فماذا يقولون؟

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ [الفتح:15] متى؟ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ [الفتح:15]، هذه الآيات أخبر الله بها وقالها للمؤمنين قبل أن يقولها المشركون والمنافقون في المدينة؛ إذ نزلت هذه السورة في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة، وهذه الأقوال التي ذكرها تعالى والله! لقد قالها أهل النفاق في المدينة.

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ [الفتح:15] في المستقبل حين تصلون إلى المدينة، سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا [الفتح:15]، والانطلاق هنا من المدينة إلى خيبر، وخيبر ذات مال وأغنام، ويملكها اليهود عليهم لعائن الله، والله عز وجل أعلن لرسوله بالفتح: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ [الفتح:1] وفيها مغانم كثيرة.

فلما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمشي إلى خيبر وخرج معه المؤمنون قال أولئك المخلفون والعياذ بالله تعالى: نريد أن نخرج معكم، ائذن لنا بالخروج. فلم يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج، وإن أذن لهم فلا حق لهم في الغنيمة ولا يتخذون منها قليلاً ولا كثيراً، ما هم بأهل لذلك؛ لأنهم يودون أن يهلك رسول الله والمؤمنون.

إذاً: فقال تعالى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا [الفتح:15] أي: إلى خيبر، ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ [الفتح:15] اسمحوا لنا واتركونا لنمشي معكم!

فأيام كانوا خائفين من قريش والمشركين هربوا وتنصلوا، والآن لما علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم منتصر على اليهود قالوا: ذرونا واسمحوا لنا لنمشي معكم!

قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15]، الله أخبر بأن هؤلاء المنافقين سوف يقولون لكم كذا، وسيقولون: اسمحوا لنا، وأعطونا من الغنائم ولا تحسدونا، أخبر بهذا في أول هذه السورة قبل وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقالوا كما أخبر تعالى عنهم كلمة بكلمة.

يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15] ويغيروه، وذلك مستحيل.

قال تعالى: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا [الفتح:15] قل لهم يا رسول الله، يا نبي الله، قل لهم: لن تتبعونا، ولن تخرجوا معنا، ولن تمشوا معنا، وإن فرضنا أنكم نسيتم وخرجتم فلن تنالوا من الغنيمة شيئاً أبداً؛ إذ هذه خاصة بأهل الحديبية، عطية الله عز وجل ومنته لهم مقابل جهادهم وما عانوا من آلام في الحديبية.

معنى قوله تعالى: (فسيقولون بل تحسدوننا)

قال تعالى: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح:15] بالفعل قالوا: لماذا لا نمشي معكم إلى خيبر وهناك الإمكان لأن تملكوها وتأخذوا الغنائم، اسمحوا لنا، فقالوا: لا. فقالوا: إذاً: لم تحسدوننا، هذا الحسد فقط فيكم!

أرأيتم طباع البشر في ذلك الزمن؟ فكيف باليوم، قالوا: تريدون أن تحسدونا فقط، وإلا فلماذا لا نخرج معكم ونأخذ مما تأخذون أنتم من الغنائم؟ بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح:15]، وهذا باطل وكذب وخطأ، فهم منافقون ما زالوا وما تابوا، والآيات -والله- لفي توبتهم وبيان الطريق لهم وهدايتهم، حتى يهتدوا ويسلموا ويؤمنوا الإيمان الصحيح.

معنى قوله تعالى: (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً)

قال تعالى: بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الفتح:15]، أي: هؤلاء المخلفون المتنطعون المطالبون بالخروج إلى خيبر والقائلون: حسدتمونا، منعتمونا من خيبر حتى لا نأخذ الغنيمة معكم؛ هؤلاء قضى الله تعالى وحكم بأنهم كانوا لا يفقهون إلا قليلاً.

وهنا -معشر المستمعين والمستمعات- بيان فضل الفقه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وأكثر الويلات والمصائب والهزائم التي تصيبنا سببها عدم الفقه، ما هناك بصيرة، ما هناك نور، وإنما الحسد والكبرياء والخداع، هذه الأمراض كلها ناتجة عن ظلمة قلب، عن ظلمة الجهل.

لو كانوا مبصرين مشرقة قلوبهم ومضيئة لهم الحياة فلن يقولوا هذا الكلام ويتخبطوا أمام رسول الله والمؤمنين، ويقولوا: بل تحسدوننا.

قال تعالى: بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الفتح:15] والفقه هو العلم، وفهم أسرار العلم، علمت أن يد من سرق تقطع، والسر في ذلك ما هو؟ تأمين حال المؤمنين والمسلمين، علمت أن الزنا حرام، لكن ما السر في ذلك؟ ما فقه هذه الحرمة؟ حتى لا تختلط الأنساب وتفسد القلوب.

فالعلم علم والفقه فهم أسرار العلم، فلو كانوا يفقهون وعرفوا لاستحوا أن يقولوا هذه الكلمة، أما يخجلون؟ بالأمس ما يخرجون مع رسول الله ويتمنون قتلهم على يدي المشركين، والآن يقولون: اتركونا واسمحوا لنا وما إلى ذلك، لما رفضوا ذلك قالوا: حسدتمونا، فالحسد هو الذي منعنا من المشي معكم.

بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الفتح:15] معنى هذا -معشر المستمعين والمستمعات- أنه يجب أن نتفقه، أن نعرف أسرار الشرع ومقاصده الكريمة، لسنا كالبهائم الجاهلين، وحسبنا هذا الحديث: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، من أراد الله به خيراً منا فقهه في الدين، علمه الدين وأسراره، وأصبح من أولي البصائر والنهى، اللهم اجعلنا منهم.. اللهم اجعلنا منهم.

ومن لم يرزق هذا فوالله! إنه يعيش على الحسد والبغضاء والعداء وما إلى ذلك من حيرة الجهال وتخبطهم والعياذ بالله تعالى.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! سبق أن علمنا في سياق الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سنة ست من الهجرة بعد غزوة الخندق وانهزام المشركين وعودتهم خاسئين ذليلين، وعلى رأسهم كفار قريش في مكة؛ رأى صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فاستنفر من معه فاستجاب ألف وأربعمائة، ولم يستجب من قبائل جهينة ومزينة وأسلم وأشجع إلا القليل فقط، لماذا؟

يريدون أن يهلك الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون على أيدي المشركين، ويتخلصوا من الإسلام، وذلك لنفاقهم، بل لجهلهم، ما عرفوا الله، ادعوا الإيمان صورياً.

وخرج صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية مع رجاله ونزلوا بالحديبية تحت شجرة من السمر، وجرت مفاوضات بينه وبين أهل مكة، وانتهت المفاوضات بعقد صلح على أن يعود صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة هذا العام، وفي العام المقبل يأتون معتمرين وتفتح لهم مكة ويحمون ويحرسون، ولا شك أنها كانت هموماً وغموماً وآلاماً؛ لأنهم جاءوا يسوقون هديهم يريدون العمرة، فيصدونهم عن سبيل الله، يمنعونهم من دخول مكة، بل بعثوا حوالي ثلاثين شاباً ليغتالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الله فضحهم وسلط عليهم أصحاب رسول الله فأخذوهم أسرى، ثم عفوا عنهم وتركوهم.

فلما ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الغم وهذا الكرب والهم ورجاله معه عوضهم الله بنعم عظيمة، فقال: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] فتحنا لك فتحاً واضحاً بيناً، ألا وهو فتح خيبر وفتح مكة، خيبر في هذه السنة ومكة في السنة الثامنة، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح:2-4]، ثم قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:8-10].

هذا السياق الكريم إذا عشناه في هذه الدقائق فمعنى ذلك أننا مع الله ورسوله، فكيف نصل إلى هذا المستوى؟ وصلنا إليه بفضل الله علينا بالإيمان بالله وكتابه، بالإيمان بالله ورسوله، وها نحن نتدارس كتاب الله، فالحمد لله.

قال تعالى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ [الفتح:15] من هم المخلفون؟ الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة للعمرة، لماذا تخلفوا؟ لأنهم منافقون مرضى القلوب، يظنون أن المشركين سيقتلون رسول الله والمؤمنين، ولن ينتصر عليهم رسول الله والمؤمنون، فقالوا: نحن لنا أشغال وأعمال وإصلاحات في أموالنا وفي أهلينا ولا نتمكن من الخروج، واعتذروا للرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأعذار الباطلة، هؤلاء هم المخلفون الذين خلفهم رسول الله والمؤمنون وراءهم في المدينة واتجهوا نحن مكة، فماذا يقولون؟

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ [الفتح:15] متى؟ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ [الفتح:15]، هذه الآيات أخبر الله بها وقالها للمؤمنين قبل أن يقولها المشركون والمنافقون في المدينة؛ إذ نزلت هذه السورة في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة، وهذه الأقوال التي ذكرها تعالى والله! لقد قالها أهل النفاق في المدينة.

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ [الفتح:15] في المستقبل حين تصلون إلى المدينة، سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا [الفتح:15]، والانطلاق هنا من المدينة إلى خيبر، وخيبر ذات مال وأغنام، ويملكها اليهود عليهم لعائن الله، والله عز وجل أعلن لرسوله بالفتح: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ [الفتح:1] وفيها مغانم كثيرة.

فلما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمشي إلى خيبر وخرج معه المؤمنون قال أولئك المخلفون والعياذ بالله تعالى: نريد أن نخرج معكم، ائذن لنا بالخروج. فلم يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج، وإن أذن لهم فلا حق لهم في الغنيمة ولا يتخذون منها قليلاً ولا كثيراً، ما هم بأهل لذلك؛ لأنهم يودون أن يهلك رسول الله والمؤمنون.

إذاً: فقال تعالى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا [الفتح:15] أي: إلى خيبر، ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ [الفتح:15] اسمحوا لنا واتركونا لنمشي معكم!

فأيام كانوا خائفين من قريش والمشركين هربوا وتنصلوا، والآن لما علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم منتصر على اليهود قالوا: ذرونا واسمحوا لنا لنمشي معكم!

قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15]، الله أخبر بأن هؤلاء المنافقين سوف يقولون لكم كذا، وسيقولون: اسمحوا لنا، وأعطونا من الغنائم ولا تحسدونا، أخبر بهذا في أول هذه السورة قبل وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقالوا كما أخبر تعالى عنهم كلمة بكلمة.

يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15] ويغيروه، وذلك مستحيل.

قال تعالى: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا [الفتح:15] قل لهم يا رسول الله، يا نبي الله، قل لهم: لن تتبعونا، ولن تخرجوا معنا، ولن تمشوا معنا، وإن فرضنا أنكم نسيتم وخرجتم فلن تنالوا من الغنيمة شيئاً أبداً؛ إذ هذه خاصة بأهل الحديبية، عطية الله عز وجل ومنته لهم مقابل جهادهم وما عانوا من آلام في الحديبية.

قال تعالى: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح:15] بالفعل قالوا: لماذا لا نمشي معكم إلى خيبر وهناك الإمكان لأن تملكوها وتأخذوا الغنائم، اسمحوا لنا، فقالوا: لا. فقالوا: إذاً: لم تحسدوننا، هذا الحسد فقط فيكم!

أرأيتم طباع البشر في ذلك الزمن؟ فكيف باليوم، قالوا: تريدون أن تحسدونا فقط، وإلا فلماذا لا نخرج معكم ونأخذ مما تأخذون أنتم من الغنائم؟ بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح:15]، وهذا باطل وكذب وخطأ، فهم منافقون ما زالوا وما تابوا، والآيات -والله- لفي توبتهم وبيان الطريق لهم وهدايتهم، حتى يهتدوا ويسلموا ويؤمنوا الإيمان الصحيح.




استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الأحقاف (8) 3862 استماع
تفسير سورة الفتح (8) 3473 استماع
تفسير سورة الأحقاف (7) 3331 استماع
تفسير سورة ق (6) 3236 استماع
تفسير سورة الفتح (1) 3128 استماع
تفسير سورة الأحقاف (1) 3061 استماع
تفسير سورة ق (2) 3049 استماع
تفسير سورة الفتح (3) 3023 استماع
تفسير سورة الأحقاف (4) 2964 استماع
تفسير سورة الفتح (6) 2892 استماع