تفسير سورة الأحقاف (8)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فها نحن مع سورة الأحقاف سابعة آل حم، ومع هذه الآيات، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:29-32].

سبب انصراف الجن لاستماع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بعدما بين تعالى لكفار قريش ومن وراءهم كيف أهلك عاداً وثمود وغيرهم لما أشركوا في عبادة ربهم وأصروا على الكفر والعناد والفسق والفجور، بعد ذلك عرض عليهم عرضاً آخر لعلهم يفيقون، لعلهم يرجعون، لعلهم ينتبهون، عرض عجب ألا وهو عرض الجن؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم في بطن نخل بين مكة والطائف، وهو واد، كان يصلي بعدما ذهب إلى ثقيف يطلب عونهم بعد وفاة عمه، فرجع وما استفاد شيئاً من الطائف، فالجن في نصيبين وفي نينوى شاهدوا عجباً في السماء، ما هذا العجب؟

شاهدوا أن الشياطين تطرد في السماء بشهب، وما كانوا يرون هذا، فتعجبوا فقالوا: هذا أمر حدث.

فالذين يستمعون القول من الملائكة في السماء أصبحت ترسل عليهم الشهب ويطردون ولا يسمعون، لا شك أن هناك أمراً عجباً، فقال بعضهم: لنذهب إلى تهامة وننظر ماذا حصل فيها، وتهامة منها الحجاز وعلى رأسها مكة، فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الصبح في وادي بطن نخلة فاستمعوا كما سيأتي بيانه، ولما استمعوا آمنوا وعرفوا الحق واهتدوا، ورجعوا إلى أقوامهم فبلغوهم كذلك، فجاء منهم أكثر من سبعين جنياً ومن ثم انتشرت دعوة الإسلام بين الجن، فلنسمع الآيات الكريمات.

يقول تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف:29] صرفناهم من أي مكان؟ من نصيبين ونينوى في شمال العراق، ونينوى بلد كان فيها يونس بن متى عليه السلام، والذي صرفهم هو الله تعالى بتدبيره، لما شاهدوا الأحداث في السماء قالوا: لنبحث عن السبب فنأتي إلى تهامة. فعثروا عليه صلى الله عليه وسلم، فالله هو المتصرف.

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ [الأحقاف:29] يا رسولنا، من القائل؟ الله، اذكر لقريش إذ صرفنا إليك نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف:29] والنفر: من الثلاثة إلى التسعة، ما بين سبعة إلى تسعة أنفار، يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف:29] أرسلهم لأجل أن يستمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حال الجن وقت سماع القرآن وانطلاقهم لنذارة قومهم

فَلَمَّا حَضَرُوهُ [الأحقاف:29] حضروا مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول يصلي الصبح، أخذ بعضهم يتكلم ويتحدث، قَالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف:29] اسكتوا ولا تتكلموا حتى نفهم ما يقول هذا الرجل، فأنصتوا، واستنصت القوم حيث طلب منهم أن يسكتوا.

فسمعوا ووجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين لهم الطريق، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ [الأحقاف:29] بنصيبين ونينوى مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29]، رجعوا دعاة هداة يدعون إلى الإسلام، ولوا إلى قومهم منذرين لهم، وقومهم من معهم من الجن من ذكور وإناث.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بعدما بين تعالى لكفار قريش ومن وراءهم كيف أهلك عاداً وثمود وغيرهم لما أشركوا في عبادة ربهم وأصروا على الكفر والعناد والفسق والفجور، بعد ذلك عرض عليهم عرضاً آخر لعلهم يفيقون، لعلهم يرجعون، لعلهم ينتبهون، عرض عجب ألا وهو عرض الجن؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم في بطن نخل بين مكة والطائف، وهو واد، كان يصلي بعدما ذهب إلى ثقيف يطلب عونهم بعد وفاة عمه، فرجع وما استفاد شيئاً من الطائف، فالجن في نصيبين وفي نينوى شاهدوا عجباً في السماء، ما هذا العجب؟

شاهدوا أن الشياطين تطرد في السماء بشهب، وما كانوا يرون هذا، فتعجبوا فقالوا: هذا أمر حدث.

فالذين يستمعون القول من الملائكة في السماء أصبحت ترسل عليهم الشهب ويطردون ولا يسمعون، لا شك أن هناك أمراً عجباً، فقال بعضهم: لنذهب إلى تهامة وننظر ماذا حصل فيها، وتهامة منها الحجاز وعلى رأسها مكة، فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الصبح في وادي بطن نخلة فاستمعوا كما سيأتي بيانه، ولما استمعوا آمنوا وعرفوا الحق واهتدوا، ورجعوا إلى أقوامهم فبلغوهم كذلك، فجاء منهم أكثر من سبعين جنياً ومن ثم انتشرت دعوة الإسلام بين الجن، فلنسمع الآيات الكريمات.

يقول تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف:29] صرفناهم من أي مكان؟ من نصيبين ونينوى في شمال العراق، ونينوى بلد كان فيها يونس بن متى عليه السلام، والذي صرفهم هو الله تعالى بتدبيره، لما شاهدوا الأحداث في السماء قالوا: لنبحث عن السبب فنأتي إلى تهامة. فعثروا عليه صلى الله عليه وسلم، فالله هو المتصرف.

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ [الأحقاف:29] يا رسولنا، من القائل؟ الله، اذكر لقريش إذ صرفنا إليك نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف:29] والنفر: من الثلاثة إلى التسعة، ما بين سبعة إلى تسعة أنفار، يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف:29] أرسلهم لأجل أن يستمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فَلَمَّا حَضَرُوهُ [الأحقاف:29] حضروا مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول يصلي الصبح، أخذ بعضهم يتكلم ويتحدث، قَالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف:29] اسكتوا ولا تتكلموا حتى نفهم ما يقول هذا الرجل، فأنصتوا، واستنصت القوم حيث طلب منهم أن يسكتوا.

فسمعوا ووجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين لهم الطريق، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ [الأحقاف:29] بنصيبين ونينوى مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29]، رجعوا دعاة هداة يدعون إلى الإسلام، ولوا إلى قومهم منذرين لهم، وقومهم من معهم من الجن من ذكور وإناث.

قال تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30] أي: سمعنا قرآناً يقرأ من كتاب أنزل من بعد موسى.

قال أهل العلم: هؤلاء كانوا يهوداً، هؤلاء الجن كانوا يومئذ يهوداً مؤمنين بموسى والتوراة، ما كانوا يؤمنون بعيسى، كالبشر منهم اليهود والنصارى والمشركون.

قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30] وهو القرآن العظيم، مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [الأحقاف:30] من الكتب التي تقدمته كالتوراة، الإنجيل، الزبور، صحف إبراهيم وموسى.. كلها هذا الكتاب مصدق لها، وهو كذلك.

يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [الأحقاف:30] لا إلى الباطل، والحق هو ما ينفع الناس ويسعدهم ويكملهم في حياتهم ويهيئهم للدار الآخرة.

وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:30] ألا وهو الإسلام، الإسلام هو الطريق المستقيم، سالكه ينجو من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم يمل يميناً وشمالاً، فأدى الواجبات عن يمينه، وتخلى عن المحرمات عن شماله، وواصل مسيره ليلاً ونهاراً حتى يتوفاه الله، فنهاية مساره إلى باب الجنة.

قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30] يعنون القرآن الكريم، مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ أي: من الكتب يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [الأحقاف:30] وهو العدل والرحمة والخير والصلاح في الأرض، وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:30] ألا وهو الإسلام، دين الله الذي أمرنا تعالى أن نسأله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ألا وهو الإسلام، ربنا اهدنا إلى الصراط المستقيم؛ لنسلم ونمشي في طريق الإسلام.

ثم قالوا لهم: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31] وهم قومهم الذين كانوا معهم من الجن، قالوا لهم: أجيبوا داعي الله، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل رسول الله داعي الله؟ أي نعم، فمن ساعة أن أوحي إليه وهو يدعو إلى الله، يدعو إلى أن يعبد الله تعالى وحده، يدعو إلى أن يذكر الله ولا ينسى، إلى أن يشكر ولا يكفر، يدعو إلى أن يُعبد الله بكل العبادات التي تعبَّد بها عباده.

أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ [الأحقاف:31]، اذهبوا إليه في مكة أو بين مكة والطائف وآمنوا به، لا مجرد الذهاب إليه فقط، وقد دعاهم إلى المجيء بهم: ادعوهم أنتم وائتوا بهم.

أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31] وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وَآمِنُوا بِهِ [الأحقاف:31]، والجزاء: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31].

وهنا لطيفة علمية: لم ما قالوا: يغفر لكم ذنوبكم، وإنما: من ذنوبكم؟ هذه قاعدة عامة، ونوح عليه السلام قال لقومه: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [نوح:4].

هذا معناه أن الذنب الذي هو معصية والخروج عن طاعة الله يغفر للتائب، أما ظلم الناس بأخذ أموالهم أو انتهاك أعراضهم أو النيل من حياتهم فهذا لا بد أن يؤخذ من صاحبه، فالذنب ذنبان:

ذنب متعلق بالرب تبارك وتعالى بمعصيته، فالغفور الرحيم يغفره لعبده التائب.

وذنب متعلق بالناس، ضرب هذا، أخذ مال هذا، جنى جناية مع هذا؛ فهذا الذنب لا بد أن يؤخذ من أصحابه يوم القيامة، فما يغفر أبداً، بل تؤخذ حسناتهم، فإذا لم تبق لهم حسنات ألقوا في جهنم.

هكذا قال هؤلاء العارفون من الجن: أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31] أجاره يجيره إجارة: إذا حفظه وأبعده من العذاب أو مما يخاف.

يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف:31] أي: بعض ذنوبكم، وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31] ألا وهو عذاب جهنم، هو العذاب الأليم، والأليم: الموجع الشديد الإيجاع.

قال تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31-32] وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الداعي لهذه الأمة البشرية، من لم يجبه ويأت إليه ويؤمن بين يديه ويعمل بطاعة الله وطاعة رسوله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ [الأحقاف:32] يعجز من؟ والله! إنه هو العاجز الضعيف، لا يقدر على شيء، ويعذبه الله ويسلط عليه البلاء والشقاء في الدنيا قبل الآخرة.

وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ [الأحقاف:32] أبداً وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ [الأحقاف:32] ينصرونهم، يدفعون عنهم العذاب، يصرفون عنهم الشر والبلاء، والله! ما كان.

وصدق هؤلاء المؤمنون، فهؤلاء آمنوا وعرفوا الطريق إلى الله وقالوا: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31]، هذه الكلمة يجب أن نقولها الآن للكفار في الشرق والغرب: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31] محمداً صلى الله عليه وسلم، هذا كتابه بين أيديكم، هذه سننه وشرائعه بين أيديكم، أجيبوا.

وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31] أبيض كان أو أصفر فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ [الأحقاف:31] أبداً، بل الله قاهره ويذله ويعذبه ويشقيه، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ [الأحقاف:31] أبداً والعياذ بالله تعالى.

أُوْلَئِكَ [الأحقاف:31] البعداء الأشقياء المعرضون عن دعوة الله الذين ما استجابوا لداعي الله، وأقبلوا على شهواتهم ودنياهم معرضين عن ذكر ربهم؛ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:32]، والله! إنهم لفي ضلال هو أوضح الضلال، ضلال واضح بين، وإلى جهنم.