عنوان الفتوى : خطأ الزعم أن الجن يدخلون في لفظ الناس
ما هي الآيات التي فيها أن كلمة الناس تشمل الجن والإنس؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المعروف في استعمال القرآن أن لفظ الناس لا يدخل فيه الجن.
لكن ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {الناس:5}، قد أريد فيه بالناس: الإنس والجن. وهو قول ضعيف.
قال ابن تيمية: وأما قول الفراء: إن المراد من شر الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس: الطائفتين من الجن والإنس، وأنه سمى الجن ناسا كما سماهم رجالا، وسماهم نفرا، فهذا ضعيف، فإن لفظ الناس أشهر وأظهر وأعرف من أن يحتاج إلى تنويعه إلى الجن والإنس، وقد ذكر الله تعالى لفظ الناس في غير موضع.
وأيضا فكونه يوسوس في صدور الطائفتين صفة توضيح وبيان، وليس وسوسة الجن معروفة عند الناس، وإنما يعرف هذا بخبر، ولا خبر هنا. اهـ
ثم قد قال: {من الجنة والناس} فكيف يكون لفظ الناس عاما للجنة والناس؟ وكيف يكون قسيم الشيء قسما منه؟ فهو يجعل الناس قسيم الجن، ويجعل الجن نوعا من الناس، وهذا كما يقول: أكرم العرب من العجم والعرب، فهل يقول هذا أحد؟
وإذا سماهم الله تعالى رجالا لم يكن في هذا دليل على أنهم يسمون ناسا، وإن قدر أنه يقال جاء ناس من الجن فذاك مع التقييد، كما يقال إنسان من طين وماء دافق، ولا يلزم من هذا أن يدخلوا في لفظ الناس، وقد قال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} فالناس كلهم مخلوقون من آدم وحواء. مع أنه سبحانه يخاطب الجن والإنس، والرسول -صلى الله عليه وسلم- مبعوث إلى الجنسين ،لكن لفظ الناس لم يتناول الجن، ولكن يقول: يا معشر الجن والإنس .اهـ. من مجموع الفتاوى.
وقال ابن القيم: الجنة لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه لا أصلا ولا اشتقاقا ولا استعمالا، ولفظهما يأبى ذلك؛ فإن الجن إنما سموا جنا من الاجتنان وهو الاستتار، فهم مستترون عن أعين البشر فسموا جنا لذلك من قولهم جنه الليل وأجنه إذا ستره، ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه، قال تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} ومنه المجن لاستتار المحارب به من سلاح خصمه، ومنه الجنة لاستتار داخلها بالأشجار، ومنه الجنة بالضم لما يقي الإنسان من السهام والسلاح، ومنه المجنون لاستتار عقله.
وأما الناس فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى، وبينهما اشتقاق أوسط -وهو عقد تقاليب الكلمة إلى معنى واحد- والإنس والإنسان مشتق من الإيناس، وهو الرؤية والإحساس، ومنه قوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} أي رآها ومنه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} أي أحسستموه ورأيتموه، فالإنسان سمي إنسانا لأنه يونس أي يرى بالعين.
والمقصود أن الناس اسم لبني آدم فلا يدخل الجن في مسماهم، فلا يصح أن يكون من الجنة والناس بيانا لقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} وهذا واضح لا خفاء فيه.
فإن قيل لا محذور في ذلك، فقد أطلق على الجن اسم الرجال؛ كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم الناس.
قلت: هذا هو الذي غر من قال إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية، وجواب ذلك أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس، ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا.
وأنت إذا قلت إنسان من حجارة أو رجل من خشب ونحو ذلك لم يلزم من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب، وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس، وذلك لأن الناس والجنة متقابلان، وكذلك الإنس والجن، فالله تعالى يقابل بين اللفظين كقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ} وهو كثير في القرآن، وكذلك قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} يقتضي أنهما متقابلان، فلا يدخل أحدهما في الآخر بخلاف الرجال والجن، فإنهما لم يستعملا متقابلين، فلا يقال الجن والرجال، كما يقال الجن والإنس، وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ الناس؛ لأنه قابل بين الجنة والناس، فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر، فالصواب القول الثاني وهو أن قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيان للذي يوسوس، وأنهما نوعان: إنس وجن، فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس إلى الإنسي .اهـ. باختصار من بدائع الفوائد.
والله أعلم.