أرشيف المقالات

مبادرة ومسابقة الصحابة رضي الله عنهم إلى الإنفاق في سبيل الله

مدة قراءة المادة : 26 دقائق .
مبادرة ومسابقة الصحابة رضي الله عنهم
إلى الإنفاق في سبيل الله


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد:
فالإنفاق في سبيل الله يدلُّ على صحة الإيمان، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله علية الصلاة والسلام: (الصدقة برهان) [أخرجه مسلم].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الصدقة برهان على صحة الإيمان، وسببُ هذا: أن المال تحبُّه النفوس، وتبخل به، فإذا سمحت بإخراجه لله، دلَّ على صحة إيمانها بالله، ووعده ووعيده.
 
والمُتصدق به صاحب الولاية من أصحاب الجنة، فعن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقسط مُتصدق موفق ) [أخرجه مسلم]
 
للإنفاق في سبيل الله فضائل كثيرة، ومنافع عديدة، قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 18] وقال الله جل جلاله ﴿ نْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245] وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 11]
 
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: سمى..
الإنفاق قرضاً حثاً للنفوس وبعثاً لها على البذل، لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بدّ، طوَّعت له نفسه بذله، وسهًل عليه إخراجه، فإن علم أن المستقرض مليّ وفيّ محسن كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه، فإن علم أنَّ المستقرض يتَّجر له بما أقرضه.
وينميه له، ويثمّره حتى يصير أضعاف ما بذله، كان بالقرض أسمح وأسمح، فإن علم أنه مع ذلك كلّه يزيده من فضله وعطائه أجراً آخر من غير جنس القرض، وأن ذلك الأجر حظ عظيم، وعطاء كريم، فإنه لا يتخلف عن قرضه، إلا لآفة في نفسه من البخل، والشح، أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه، ولهذا كانت الصدقة برهاناً لصاحبها، وقال رحمه الله: في الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها إلا الله، فمنها: أنها تقي مصارع السوء، وتدفع البلاء، حتى أنها لتدفع عن الظالم، وتطفئ الخطيئة، وتحفظ المال، وتجلب الرزق، وتفرح القلب، وتوجب الثقة بالله، وحسن الظن به، وترغم الشيطان، وتزكى النفس وتنميها، وتُحببُ العبد إلى الله، وإلى خلقه، وتستُر عليه كل عيب، وتزيد في العمر، وتستجلب أدعية الناس ومحبتهم، وتدفع عن صاحبها عذاب القبر، وتكون عليه ظلاً يوم القيامة، وتشفع له عند الله، وتهون عليه شدائد الدنيا، والآخرة، وتدعوه إلى سائر أعمال البر، فلا تستعصي عليه، وفوائدها ومنافعها أضعاف ذلك.
 
والمتصدق مغبوط على هذه النعمة التي وفقها الله لها، فعن سالم عن أبيه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا علي اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) [متفق عليه] قال الإمام النووي رحمه الله: والراد بالحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما.
 
من فوائد الصدقة ومنافعها:
إذا كانت وقفاً فإن ثوابها يلحق صاحبها بعد وفاته:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو ) [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له، إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها.الصدقة الجارية وهي الوقف...وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه.
 
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الصدقة الجارية من أوسعها وأعمِّها وأنفعها وأفضلها: بناء المساجد، لأن المسجد تُقام فيه الصلوات، وقراءة القرآن، ودروس العلم، ويُؤوى الفقراء في الحرِّ والبرد، وفيه مصالح كثيرة ليلاً ونهاراً، ثم هو أدوم من غيره..كذلك الماء حيث يحفر الإنسان عيناً يشرب منها الناس، فهذه صدقة جارية...وكذلك الأربطة -وهي مساكن لطلاب العلم- وكتبُ العلم.
 
دواء للمرضى:
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة) [حسنه الباني في صحيح الجامع].
 
تدفع ميتة السوء وتكون سبباً لحسن الخاتمة:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام: ( يا معشر النساء تصدقن، فإني أُريتكن أكثر أهل النار ) [متفق عليه] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: إنما أمرهن بالصدقة لأمور...أن الصدقة من فوائدها أنها تدفع ميتة السوء، وتكون سبباً لحسن الخاتمة.
 
حلول البركة في المال وزيادته:
قال الله عز وجل: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ومن فوائد الآية: البشرى لمن أنفق...بالزيادة لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ﴾ فإن قال قائل: كيف يزيد الله تعالى المنفِق فضلاً ونحن نشاهد أن الإنفاق ينقص المال حساً فإذا أنفق الإنسان من العشرة درهماً صارت تسعة فما وجه الزيادة ؟ فالجواب: أما بالنسبة لزيادة الأجر في الآخرة فالأمر ظاهر، فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.وأما بالنسبة للزيادة الحسية في الدنيا فمن عدة أوجه:
الوجه الأول: أن الله قد يفتح للإنسان باب رزق لم يخطر له على بال، فيزداد ماله.
 
الوجه الثاني: أن هذا المال ربما يقيه الله سبحانه وتعالى آفات لولا الصدقة لوقعت فيه، وهذا مشاهد فالإنفاق يقي المال الآفات.
 
الوجه الثالث: البركة في الإنفاق بحيث ينفق القليل وتكون ثمرته أكثر من الكثير، وإذا نُزعت البركة من الإنفاق فقد ينفق الإنسان شيئاً كثيراً في أمور لا تنفعه أو تضره.
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال) [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: ذكروا فيه وجهين:
أحدهما: معناه أنه يبارك فيه، ويندفع عنه المضرات، فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، وهذا مدرك بالحسِّ والعادة.
الثاني: أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المترتب عليه جبر لنقصه وزيادة إلى أضعاف كثيرة.
 
سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات والوقاية من النار:
قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 267، 268] قال العلامة السعدي رحمه الله: لما حثهم على الإنفاق النافع ونهاهم عن الإمساك الضار بيّن لهم أنهم بين داعيين داعي الرحمن.وداعي الشيطان فمن كان مُجيباً لداعي الرحمن وأنفق مما رزقه الله، فليبشر بمغفرة الذنوب.
 
وقال الله جل جلاله: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271] قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: ومن فوائد الآية أن الصدقة سبب لتكفير السيئات.
 
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصدقة تُطفئ الخطيئة، كما يُطفئُ الماءُ النار ) [أخرجه الترمذي] قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: وفي الحديث أن الذنوب والمعاصي يكفرها الله بما يفعله الإنسان من الطاعات ومن أعظمها الصدقات، وظاهر هذا أن الخطيئة تشمل الكبيرة والصغيرة، وجمهور أهل العلم على أن الخطايا الكبار والذنوب والمعاصي العظيمة لا يكفرها إلا التوبة.
 
والصدقة ستر ووقاية من النار مهما كانت، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل ) وفي رواية: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ) [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه الحثُّ على الصدقة، وأنه لا يمتنع منها لقلتها، وأن قليلها سبب للنجاة من النار.
 
أجرها عظيم وثوابها كبير:
أنها تُضاعف لصاحبها أضعافاً كثيرةً:
قال الله عز وجل: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245] وقال الله جل جلاله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف...وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف...
قال الإمام أحمد حدثنا...
عن حريم بن وائل قال: ( من أنفق نفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف ) وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أنت إذا أنفقت درهماً فجزاؤه سبعمائة درهم، ثواباً من عند الله عز وجل، والله فضله أكثر من عدله وأوسع، ورحمته سبقت غضبه، فيضاعفه له إلى سبعمائة بل إلى أكثر.
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعدُ إلى الله إلا الطيبُ فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يُربِّيها لصاحبها كما يُربى أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل) [متفق عليه].
 
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله (فلوه) هو المهر لأنه يفلى أي يفطم...وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة...فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل
 
أن الله جل جلاله يظل صاحبها يوم القيامة في ظله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتى يُقضى بين الناس) [أخرجه أحمد] وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) [متفق عليه] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: فإن قال قائل: إذا تصدق رجل بصدقة فرأى من المصلحة أن يُعلنها حتى يُقتدى بها فهل يخرج من هذا الثواب أو لا ؟
فالجواب: الظاهر أنه لا يخرج لأنه بينها لمصلحة.
 
أنَّ الله عز وجل يخلف عليه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي ( بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يُحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله ما اسمك ؟ قال: فلان.
للاسم الذي سمع في السحابة فقال له: يا عبد الله لما سألتني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول:اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها.
قال: أما إذ قُلتَ هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثُلثاً وأردُّ فيها ثلثه وفي رواية (وأجعلُ ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: وفي الحديث فضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل.
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله عز وجل: أنفق أُنفق عليك ) [متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهو وعد بالخلف.
 
تسابق وتنافس الصحابة رضي الله عنهم للإنفاق في سبيل الله:
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون ويتسابقون في الإنفاق والصدقة في سبيل الله، ولهم مواقف في ذلك، منها:
وقف بني النجار أرضهم لمسجد رسول الله علية الصلاة والسلام:
عن أنس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا بني النجار ثامنوني بحائطكم ) قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.
[متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله ( لا نطلب ثمنه إلا إلى الله ) أي لا نطلب ثمنه من أحد، لكن هو مصروف إلى الله.
 
تصدق أبو بكر الصديق بماله وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله رضي الله عنهما:
عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) فقلتُ: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قُلتُ: لا أُسابقك إلى شيءٍ أبداً.
[أخرجه أبو داود] قال المحدث السهارنفوري رحمه الله: قوله:( ما أبقيت لأهلك ؟ ) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، يعني لم أترك لهم شيئاً من المال، ولكن بقيت لهم ما يرضي به الله ورسوله...ففي الحديث تصريح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر التصدق بجميع ماله، ولم ينكر عليه لعلمه بقوة صبره على المشاق، وتوكله على الله تعالى.
 
وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأرضه بخيبر في سبيل الله:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أصبت أرضاً من أرض خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أصبت أرضاً لم أصب مالاً أحبُّ إلي ولا أنفس عندي منها فما تأمرني به ؟ قال: ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ) قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها و لا تورث ولا توهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: قوله " أنفس " معناه أجود، والنفيس الجيد...وفي هذا الحديث دليل على صحة أصل الوقف....وفيه فضيلة الوقف وهي الصدقة الجارية، وفيه فضيلة الإنفاق مما يحب، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ينبغي لنا أن نتأسى بهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي جعل هذه الشروط في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإقراره، وألاً نخُصَّ الأوقاف بالأولاد والذُّرية وما أشبه ذلك كما يوجد – الآن – في أكثر أوقاف الناس، بل نجعلها في هذه المصالح العامة.
 
حفر عثمان بن عفان رضي الله عنه لبئر رومه وتجهيزه لجيش العسرة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يحفر بئر رومه فله الجنة ) فحفرها عثمان، وقال: ( من جهز جيش العسرة فله الجنة) فجهزهُ عثمان.
[أخرجه البخاري] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: المراد بجيش العسرة: تبوك...وأخرج أحمد والترمذي من حديث عبدالرحمن بن حباب السلمي أن عثمان أعان فيها بثلاثمائة بعير، ومن حديث عبدالرحمن بن سمرة أن عثمان أتى فيها بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم.
 
تصدق أبي الدحداح بحائطه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لفلان نخله، وأنا أقيم حائطي بها، فمره يعطيني أقيم بها حائطي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أعطه إياها بنخلة في الجنة ) فأبى، فأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلتك بحائطي ففعل، فأتى أبو الدحداح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي فاجعلها له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كم من غدق دواح لأبي الدحداح في الجنة ) "مراراً" فأتى أبو الدحداح امرأته، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فقد بعته بنخلة في الجنة فقالت: ربح البيع [أخرجه ابن حبان]
 
كان مرثد بن عبدالله لا يجيء المسجد إلا ومعه شيء يتصدق به:
عن يزيد بن أبي حبيب قال: كان مرثد بن عبدالله لا يجيءُ إلى المسجد إلا ومعه شيء يتصدقُ به، فجاء ذات يوم إلى المسجد ومعه بصل، فقلتُ له: أبا الخير، ما تريدُ إلى هذا يُنتنُ عليك ثوبك ؟ قال: يا ابن أخي، إنه والله ما كان في منزلي شيء أتصدق به غيره، إنه حدثتي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ظلُّ المؤمن يوم القيامة صدقته) [أخرجه أحمد].
 
قال الشيخ أحمد عبدالرحمن البانا الساعاتي رحمه الله: والمعنى أن الرجل إذا لم يجد ما يتصدق به إلا الشيء الحقير فليتصدق به، فإنه يكون كبيراً عند الله عز وجل، وينفعه الله به يوم القيامة، ويكون فوق رأسه كالظلة في الموقف، إلى أن يقضى بين العباد، والعبرة بالإخلاص في العمل لا بالكثرة والقلة.
 

تصدق كعب بن مالك رضي الله عنه ببعض ماله لتوبة الله عز وجل عليه:
عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ) [متفق عليه] قال الإمام النووي رحمه الله: معنى أنخلع منه: أخرج منه وأتصدق به، وفيه استحباب الصدقة شكراً للنعم المتجددة، لاسيما ما عظم منها.
 
تصدق ابن عمر رضي الله عنهما بما يحبُّ من ماله:
قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه " حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه كان لا يعجبه شيء من ماله إلا خرج منه لله عز وجل، قال: وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفاً..وعن نافع قال: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد، وعن مجاهد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت: ) لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبون [ دعا ابن عمر رضي الله تعالى عنه، جارية له فأعتقها.
 
مبادرة نساء الصحابة إلى الصدقة بحليهن:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد..فصلى وخطب..ثم أتى النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن يدفعن إلى بلال.
[متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن مع ضيق الحال في ذلك الوقت دلالة على رفيع مقامهن في الدين، وحرصهن على امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن.
وفق الله نساء المسلمات وخصوصاً منهن الموسرات للإقتداء بالصحابيات في الصدقة.
 
عدم إمساك أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق لشيءٍ جاءها وتصدقها به:
قال عروة بن الزبير رضي الله عنه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كانت لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله تصدقت.
[أخرجه البخاري] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أي لا تدخر شيئاً مما يأتيها من المال.
 
قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه " حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: عن هشام بن عروة عن أبيه أن معاوية بعث إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، بمائة ألف، فوالله ما غابت الشمس عن ذلك اليوم حتى فرقتها، قالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهم لحماً، فقالت: لو قلت قبل أن أفرقها لفعلت.
 
محبّة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها للصدقة:
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً ) قالت: فكانت أطولنا يداً زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وتحبُّ الصدقة [متفق عليه] قالت رضي الله عنها كما جاء في رواية الحاكم في المناقب من مستدركه – كما نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح -: وكانت زينب لمرأة صناعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدق في سبيل الله.
 
تسمية أم المؤمنين زينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها بأم المساكين لكثرة صدقتها:
عن الزهري قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة، وهي أم المساكين، سميت لكثرة إطعامها للمساكين،..توفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي لم تلبث معه إلا يسيراً.[أخرجه الطبراني]
رضي الله عنها وأكثر من مثيلاتها من نساء المسلمين.
 
تصدق زينب زوج ابن مسعود بحليها:
عن أبي هريرة رضي الله عنها قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى النساء في المسجد فوقف عليهن فقال: ( يا معشر النساء إني قد أريت أنكن أكثر أهل النار يوم القيامة فتقربن إلى الله ما استطعن ) وكان في النساء امرأة عبدالله بن مسعود فأتت إلى عبدالله فأخبرته بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت حُليّاً لها فقال ابن مسعود: أين تذهبين بهذا الحُلي ؟ فقالت: أتقربُ به إلى الله ورسوله لعلَّ الله أن لا يجعلني من أهل النار.
[أخرجه أحمد].
 
وفي الختام فهناك أمور ينبغي أن تراعي في الصدقة والإنفاق في سبيل الله حتى تقع موقعها، ويثاب العبد عليها، منها:
• أن تكون لوجه الله عز وجل، قال جل جلاله: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114] وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها) [أخرجه البخاري]
 
• ألا تكون من أجل الرياء والسمعة، قال الله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴾ [النساء: 38]
 
• أن تكون من كسب طيب، قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267].
 
• أن لا تكون بمنٍّ ولا أذى حتى لا يبطل أجرها، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 262] وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 264].
 
• أن تُخفى ولا يُجهرُ بها، إلا أن تكون هناك مصلحة راجحة في إظهارها، قال الله جل جلاله: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271]

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢