طالب الحق كناشد ضالة يفرح بظهورها على أي يد كانت ومن أي جهة أتت
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
طالب الحق كناشد ضالَّة يفرح بظهورها على أي يد كانت ومن أي جهةٍ أتت
طالب الحق الشغوف بمعرفته لا يهمُّه من الواجد له بقدر ظفره بضالَّته وبما غاب عنه من العلم والفهم، ولا يتردَّد أبدًا في أن يتراجع عن رأيه إذا تبيَّن له صحة رأي غيره، فالتجرُّد في طلب الحق يُعين في الوصول إليه.
لذا؛ لا يستقيم الأمر للمنصف حتى يكون "في طلبه للحق كناشد ضالَّة، لا يُفرِّق بين أن تظهر الضالَّة على يده أو على يد من يُعاونه، ويرى رفيقه معينًا لا خَصْمًا، ويشكره إذا عرفه الخطأ، وأظهر له الحق كما لو أخذ طريقًا في طلب ضالَّته، فنبَّهه صاحبه على ضالَّته في طريق آخر، فإنه كان يشكره ولا يذمُّه ويُكرمُه، ويفرح به، فهكذا كانت مشاورات الصحابة رضي الله عنهم، حتى إن امرأة ردَّت على عمر رضي الله عنه ونبَّهَتْه على الحق، وهو في خطبته على ملأ من الناس، فقال: أصابَتِ امرأةٌ وأخطأ رجلٌ"[1].
"فإذا كان التأصيل العلمي والمنهجي في الحوار ذا أهمية كبيرة، فإن الجانب السلوكي والتربوي له أثر كبير جدًّا في هذا الباب؛ إذ إن الممارسة الناضجة والتخلُّق الكريم بأخلاق القرآن العظيم، هما الترجمان الحقيقي والأثر الحي الصادق للعلم الصحيح، فليست المشكلة في قضية الحوار علمية فحسب وإن كان لها أثر كبير؛ وإنما هي تربوية ونفسية كذلك.
والتجرُّد في طلب الحق يُعين في الوصول إليه، والهوى داء خطير يُعمي بصيرة الإنسان، فلا يرى حقًّا إلَّا ما وافق هواه، والعلم وحده لا يكفي في ساحة الحوار؛ بل لا بد معه من الإخلاص والتجرُّد، فقد يضلُّ المرء على علم والعياذ بالله؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ [الجاثية: 23].
وعلى المحاور الصادق أن يقصد بمحاورته وجْهَ الله تعالى وحده لا شريك له، فلا يرجو الغلبة والانتصار، كما لا يرجو ثناء الناس أو حمْدَهم، فما عندهم ينفد وما عند الله باق؛ قال الله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ [الجاثية: 23]؛ قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في ذكر آداب الجدل والمناظرة: "ويخلص النية في جداله بأن يبتغي به وجه الله تعالى ...
وليكن قصده في مناظرته إيضاح الحق وتثبيته دون المغالبة للخَصْم".
فصاحبُ الهوى ليست له قواعد مُطَّردة، أو موازين منضبطة، يعتمد عليها في البحث عن الحق؛ بل تراه يدور مع هواه حيث دار، وحينما يتَّصِف المحاور بهذه الصفة، فلا يمكن أن يصل المتحاوران إلى النتيجة المرجوَّة بحال، ومن مقتضيات التجرُّد في طلب الحق: أن يدخل المرء ساحة الحوار باحثًا عن الحق، حتى لو كان عند خَصْمه، ولا يتردَّد أبدًا في أن يتراجع عن رأيه إذا تبيَّن له صحة رأي غيره؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24].
كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: "ما ناظرتُ أحدًا قطُّ فأحببتُ أن يخطئ"، وقال أيضًا: "ما كلمت أحدًا قطُّ إلَّا أحببت أن يُوفَّق ويُسدَّد ويُعان، وما كلمت أحدًا قطُّ إلَّا ولم أبال بَيَّنَ الله الحق على لساني أو لسانه"[2]، وقارن هذه النفس المخبتة الصادقة التي تعلو على الأهواء ولا تتطلَّع إلَّا إلى الحق، بتلك النفوس المريضة التي تراوغ هنا وهناك حتى لا يظهر ويعلو إلَّا قولها، سواء أكان ذلك حقًّا أو باطلًا؛ قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: "فانظر إلى مناظري زمانِكَ اليوم كيف يسودُّ وجْهُ أحدهم إذا اتَّضح الحقُّ على لسان خَصْمه، وكيف يخجل به، وكيف يجهد في مجاحدته بأقصى قُدْرته، وكيف يذمُّ مَنْ أفحَمَه طول عمره..؟[3]"[4].
ولقد وصف الله تعالى ثُلَّةً من أهل الكتاب آمنوا وصدقوا بما جاء به نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى لين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام، دون حقد أو حسد مع ما هم عليه من الهيمنة على شعوبهم؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ﴾ [المائدة: 83، 84].
إن طريق الوصول إلى الحق عبر الحوار هو الاتصاف بالعدل والعلم وحسن القصد، وأما الجهل والظلم وسوء القصد، فهو الطريق إلى التنازع والفرقة والقطيعة بين أهل المنهج الواحد؛ بل بين ذوي الرحم، ولا تزال قلة الإنصاف قاطعةً بين الأنام وإن كانوا ذوي رحم.
ولا يضُرُّ المرء أن يحب ظهور الحق على يديه، أو يحصل الخير بسببه، فإن ذلك طبعٌ جبلي فطره الله تعالى عليه، ولقد فرِح عمر بن الخطاب رضي الله عنه لَما فطن ابنه النجيب عبدالله سؤالَ رسول الله عن الشجرة التي لا يسقط ورقُها؛ فقال رضي الله عنه: "لئن قلتَها، لكان أحَبَّ إليَّ من كذا وكذا"؛ لكن أن يكره ظهور الحق على يدي غيره، ويجد في قلبه من ذلك حرجًا أو في صدره ضيقًا أو في حلقه غصة؛ فإنها الآفة التي طالما حذَّر منها الشارع في غير موضع من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، "فإن الرجل قد يكون له بصيرة وحُسْن إدراك ومعرفة بالحق ورغوب إليه، فيُخطئ في المناظرة، ويحمله الهوى ومحبَّة الغلب، وطلب الظهور على التصميم على مقاله، وتصحيح خطئه، وتقويم مُعوجه بالجدال والمراء.
وهذه الذريعة الإبليسية والدسيسة الشيطانية، قد وقع بها مَنْ وقع في مهاوٍ من التعصُّبات ومزالق من التعسُّفات عظيمة الخطر مخوفة العاقبة، وقد شاهدنا من هذا الجنس ما يقضي منه العجب"[5]؛ يقول ابن رجب رحمه الله: قال بعض السَّلف: التَّواضُعُ أنْ تَقْبَلَ الحقَّ مِن كلِّ مَنْ جاء به، وإنْ كان صغيرًا، فمَنْ قَبِلَ الحقَّ ممَّن جاء به، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، وسواء كان يحبُّه أو لا يحبُّه، فهو متواضع، ومَنْ أبى قَبُولَ الحقِّ تعاظُمًا عليه، فهو متكبِّرٌ [6].
وقال ابن القيم: "...
فما وجدت فيه من صواب وحق، فاقبَلْه ولا تلتفت إلى قائله؛ بل انظر إلى ما قال لا إلى مَنْ قال، وقد ذمَّ الله تعالى مَنْ يردُّ الحقَّ إذا جاء به مَنْ يبغضُه، ويقبله إذا قاله مَنْ يحبُّه، فهذا خلقُ الأمة الغضبية، قال بعض الصحابة: اقبَل الحقَّ ممن قاله وإن كان بغيضًا، وردَّ الباطل على من قاله وإن كان حبيبًا، وما وجدت فيه من خطأ، فإن قائله لم يألُ جُهدَ الإصابة، ويأبى الله إلا أن يتفرَّد بالكمال كما قيل:
والنقصُ في أصلِ الطبيعة كامنٌ *** فبنو الطبيعة نقصُهم لا يُجحَد[7]
والحاصل أن من أسباب ما تعانيه أمَّتُنا في هذا الزمان من الضَّعف والتمزُّق، وتداعي أعداؤها عليها، هو نفرة البعض من قَبول الحق من إخوانه وأقرانه؛ بل يصرُّون على باطلهم وضلالهم مع قيام الحجة عليهم، وظهور الحق لهم، فلكي نصل إلى الغاية من المعنى السابق، لا بد من توافر أصلين:
الأول: التجرد في طلب الحق، والحذر من التعصب والهوى، وإظهار الغلبة والانتصار للنفس بالمجادلة بالباطل.
الثاني: الاتفاق على أصلٍ يُرجع إليه، والمرجعية العليا عند كل مسلم هي: الكتاب والسنة، وطرائق السلف في الأخذ بهما، وكذلك الضوابط المنهجية، وقد أمر الله بالرد إليهما؛ فقال سبحانه: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59].
[1] إحياء علوم الدين 1/ 57.
[2] مناقب الشافعي؛ للرازي (ص 36) والفقيه والمتفقه (2/ 26).
[3] إحياء علوم الدين (1/ 44).
[4] عن مقال: التجرد في الحوار.
[5] "أدب الطلب ومنتهى الأرب "؛ للشوكاني، (ص:110).
[6] "جامع العلوم والحكم"؛ لابن رجب الحنبلي، الحديث رقم (13).
[7] "مدارج السالكين" (3-522).