شرح الترمذي - باب النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول وباب الرخصة في ذلك [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين! سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا نتدارس البابين السادس والسابع من أبواب الطهارة من سنن الإمام الترمذي عليه وعلى أئمتنا والمسلمين أجمعين رحمة رب العالمين، وقد دار هذان البابان حول ما جاء في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وحول الترخيص في هذا الأمر.

وكما تقدم معنا إخوتي الكرام! أورد الإمام الترمذي في هذين البابين أربعة أحاديث، أولها حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، قال أبو أيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت مستقبل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله )، قال الإمام أبو عيسى الترمذي عليه رحمة الله: حديث أبي أيوب أحسن شيء في هذا الباب وأصح.

وقد انتهينا من مدارسة المبحث الأول المتعلق برجال أسانيد الأحاديث الأربعة، وشرعنا في مدارسة فقه الحديث، وقلت: إن فقهه يدور حول هذه الأحاديث المتعلقة بالنهي عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، ويتعلق بالأحاديث الأخرى التي دلت على الترخيص في هذا الأمر، وقلت: في ذلك عدة أقوال معتبرة لأئمتنا البررة ذكرت أربعة منها:

أولها: قلت: إنه قوي جداً، وثاني الأقوال من حيث القوة، أن ذلك يحرم مطلقاً، سواء كان الإنسان في صحراء أو في بناء، فلا يجوز أن يستقبل القبلة بغائط ولا بول، ونسبت هذا القول لمن قال به من أئمة الإسلام.

وثاني هذه الأقوال: عكسه يجوز ذلك في البناء وفي الصحراء؛ لأن أحاديث الترخيص ناسخة لأحاديث النهي والتحريم.

وثالث الأقوال: التفريق في كيفية حالة الإنسان عند قضاء الحاجة مع العموم في الأمكنة، فإذا استدبر القبلة جاز مطلقاً في الصحراء وفي البناء، وإذا استقبلها أثم وعصى، ويحرم عليه في الصحراء وفي البناء.

والقول الرابع: التفريق بين الأمكنة، مع التعميم في كيفية حالة الإنسان عند قضاء الحاجة، فإذا كان في البناء حل له أن يستقبل أو يستدبر، وإذا كان في الصحراء لا يجوز أن يستقبل ولا أن يستدبر عند قضاء الحاجة.

وهذا القول الرابع تقدم معنا تقريره بخمسة أدلة، ثم بعد ذلك أتبعته بالرد على ما يتوهم من معارضة لهذا القول، أيضاً ضمن خمسة أمور فصار المجموع عشرة في توجيه هذا القول وتقويته، وختمت الكلام بأنه أقوى الأقوال دليلاً، والقول الأول هو أحوط الأقوال.

وقد اتفق أئمة الإسلام قاطبة بلا نزاع على أن من الأدب أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها في أي حالة كانت، لكن هل عليه إثم أم لا؟ حسب التفصيل المتقدم، أما أن الأكمل لك أن لا تستقبل القبلة بغائط ولا بول في مطلق الأمكنة، وفي عموم الأحوال هذا لا خلاف فيه.

ولذلك خلاصة الأقوال أن القول الرابع أقوى من حيث الدليل؛ لأنه أعمل الأدلة كلها ولم يطرح شيئاً منها ولم يهمل شيئاً منها، ففي البنيان يرخص للإنسان أن يستقبل القبلة وأن يستدبرها بغائط أو بول، وفي الصحراء يحرم عليه ذلك، وأما القول الأول فقلت: إنه أحوط وأبرأ للذمة، والاحتياط دائماً مطلوب، وينبغي للإنسان أن يفعله إلا إذا كان منه حرج.

والأمر في هذه المسألة كالأمر في زكاة الحلي المباح بالنسبة للنساء، فالأقوال في ذلك قولان لأئمتنا الكرام، فعند الجمهور وهم الأئمة الثلاثة المالكية والشافعية والحنابلة، لا زكاة في الحلي المباح للنساء، وعند الحنفية فقط يجب فيه الزكاة، قال أئمتنا بعد البحث المستفيض في هذه المسالة: دليل الجمهور أقوى، وقول الحنفية أحوط، فإذا أخرجت المرأة الزكاة عن الحلي المباح فهو أبرأ لذمتها، أما إذا كان ذلك واجباً فقد قامت به، وإذا لم يكن واجباً فهو صدقة تثاب عليها، لكن فيما يظهر قول الجمهور أقوى، فإذا لم تخرج فلا إثم عليها.

وقد حقق شيخنا عليه رحمة الله الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي هذه المسألة في كتاب أضواء البيان، وطلبة العلم بحاجة للنظر فيها، فأورد فيها ثلاث عشرة صفحة، في أقوال هذين الفريقين في الجزء الثاني من صفحة أربعمائة وخمس وأربعين إلى ما بعدها من الصفحات المتتابعة كما قلت، عند تفسير قول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، وختم الكلام بأن قول الحنفية أحوط، وقول الجمهور أقوى، وهي نظير المسألة التي معنا، قول الإمام أبي حنيفة، والإمام أحمد في المشهور من مذهبهما أحوط؛ لأن المنع مطلقاً من عموم كيفيات الإنسان في جميع الأماكن، فلا تستقبل ولا تستدبر، سواء كنت في صحراء أو في بناء، هذا حقيقة أحوط، وقول الإمام الشافعي ومالك وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد -عليهم جميعاً رحمة الله- أنه يرخص لك في البناء أن تستقبل وأن تستدبر بالأدلة التي ذكرت، وتمنع من ذلك في الصحراء، هذا من حيث قوة الدليل فيما يظهر أقوى، والعلم عند الله جل وعلا.

وبعد هذه الأقوال الأربعة التي تقدمت معنا قلت: هناك أقوال ثلاثة أخرى أذكرها على وجه الإيجاز ثم نكمل بقية مباحث هذه المسألة بعون الله جل وعلا.

القول بجواز الاستدبار في البنيان دون الصحراء ومنع الاستقبال مطلقاً.. نسبته ودليله

القول الخامس: وهو أحد الأقوال الثلاثة، أولها: ذهب إليه الإمام أبو يوسف، وهو تلميذ الإمام الجليل المبارك أبي حنيفة رحمة الله عليهم جميعاً، فقال: يجوز استدبار القبلة عند قضاء الحاجة -انتبه، ليس هذا كالقول الثاني- يجوز الاستدبار في البنيان فقط، أما القول الثاني عمم قال: في البنيان وفي الصحراء، هنا قيده، قال: الاستدبار يجوز إذا كنت في بناء، وأما الاستقبال فلا يجوز لا في بناء ولا في صحراء، والاستدبار في الصحراء لا يجوز أيضاً، فالاستقبال تمنع منه مطلقاً، واستدبار القبلة يرخص لك في البناء دون الصحراء، هذا قول الإمام أبي يوسف عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

ودليله حديث عبد الله بن عمر الذي تقدم معنا، وهو استدبار نبينا عليه الصلاة والسلام للكعبة والقبلة المشرفة عند قضاء الحاجة كما تقدم معنا في حديث عبد الله بن عمر وكان ذلك في البنيان، نستثني هذه الصورة وما عداها يبقى على التحريم، فيحرم أن تستقبل في البنيان، ويحرم أن تستدبر وأن تستقبل في الصحراء.

وهذا القول مع قوة الدليل الذي اعتمد عليه يورد عليه ما تقدم معنا من حديث جابر بن عبد الله ففيه أيضاً الاستقبال، فلا بد إذاً من أن نجمع بين الأحاديث، وأن نعود إلى القول الرابع، والعلم عند الله جل وعلا.

القول بتحريم الاستقبال والاستدبار مطلقاً للقبلتين .. نسبته ودليله والجواب عنه

القول الثاني من الأقوال الثلاثة، ذهب إليه إمامان مباركان من أئمة التابعين، الإمام إبراهيم النخعي وشيخ الإسلام محمد بن سيرين عليهم جميعاً رحمة رب العالمين، فقالوا: التحريم مطلقاً، في البناء وفي الصحراء استقبالاً واستدباراً، فإن قيل: هذا كالقول الأول؟ نقول: لا، التحريم مطلقاً للقبلتين، أي: للقبلة المشرفة وهي الكعبة المعظمة المباركة، ولبيت المقدس، يحرم عليك أن تستقبل القبلة وأن تستدبرها، وأن تستقبل بيت المقدس وأن تستدبره لحاجة البول أو الغائط في البنيان وفي الصحراء، أما القول الأول فهو خاص بالكعبة المشرفة، أما هنا يقول: عام في القبلتين في جميع أحواله، هذا ذهب إليه إمامان من أئمة التابعين الإمام النخعي وابن سيرين عليهم جميعاً رحمة الله.

وعندهم في الحقيقة دليل قوي، وهو حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإن اختلف في درجته فقد حسنه الإمام النووي كما سأذكر لكم إن شاء الله عند تخرج الحديث، ومن باب بيان قيمة هذا القول أن أذكر دليلهم، ومن أدلتهم حديث معقل بن أبي معقل الذي أشار إليه الإمام الترمذي ، وقال بعد حديث أبي أيوب : وفي الباب حديث أيضاً معقل بن أبي معقل .

حديث معقل الأسدي رواه أبو داود وابن ماجه ، ورواه الإمام البيهقي أيضاً، ولفظ الحديث قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط )، والقبلتان: القبلة الأولى وهي بيت المقدس، والقبلة الثانية الكعبة المشرفة.

قال الحافظ في التلخيص، أعني: في التلخيص الحبير، وقلت لكم إخوتي الكرام! كثير من طلبة العلم يلحنون ويصحفون في النطق به وضبطه عندما ينطقون به يقولون: تلخيص الحبير، هذا يوجد في الكتب بكثرة، وهذا خطأ، تلخيص الحبير يفيد أن هذا تلخيص لكتاب اسمه الحبير، وليس كذلك، إنما هذا الحبير معك للتلخيص، التلخيص الحبير يعني التلخيص الجيد، والتلخيص الحبير للحافظ ابن حجر أربعة أجزاء في مجلدين في تخريج أحاديث الرافعي الكبير في فقه الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله، وهو من الكتب النافعة في تخريج أحاديث الأحكام، وكنت ذكرت هذا الكتاب وقلت: له قيمة، وقبله كتاب أعظم منه ألا وهو نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، والإمام ابن حجر استفاد من كتاب الإمام الزيلعي واختصره أيضاً في الدراية في اختصار نصب الراية.

يقول الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير في الجزء الأول صفحة واحد وتسعين، وفي الفتح أيضاً الجزء الأول صفحة ست وأربعين ومائتين: حديث معقل ضعيف فيه راوٍ مجهول الحال، وهو أبو زيد مولى بني ثعلبة، لكن الإمام النووي عليه رحمة الله في المجموع في الجزء الثاني صفحة ثمانين قال: إسناده جيد، ولم يضعفه أبو داود ، هذا كلام الإمام النووي؛ لأن الإمام أبا داود إذا روى حديثاً في سننه ولم يضعفه فهو حسن أو صالح على حسب شرطه واصطلاحه، فروى فيه الصحيح وما يشبهه، وما يقاربه، وما فيه وهم وضعف بينه، وعليه ما سكت عنه فهو صالح أو حسن، والأدق والأحوط في التعبير كما قال الإمام ابن كثير أن نقول: صالح، يعني: يصلح للاحتجاج به وللاستشهاد به ولأخذ الحكم منه، سواء كان فيه ضعف يتقوى بالشواهد فهو صالح أو حسن، فالتعبير بأنه صالح أدق كما قال الإمام ابن كثير عليهم جميعاً رحمة الله، فالإمام النووي يقول: إسناده جيد، ولم يضعفه أبو داود .

في هذا الحديث السادس من رواية معقل بن أبي معقل رواه الطبراني أيضاً من طريق آخر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، لكن في الرواية عبد الله بن نافع وهو ضعيف كما قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء (2/ 205).

إذاً حديث معقل فيه النهي عن استقبال القبلتين وهذا يفيد تحريم استقبال القبلتين واستدبارهما ببول أو غائط، وإلى هذا ذهب الإمامان النخعي وابن سيرين ، ومعنى هذا الحديث ..لأئمتنا فيه ثلاثة أقوال، قولان قالهما من قبل الإمام النووي، وأضاف إلى القولين قولاً ثالثاً، والقول الثالث هو الأظهر في معنى الحديث، فقيل: النهي كان عندما كان يتوجه المسلمون إلى بيت المقدس في صلاتهم، فكأن معقلاً يقول: نهينا عن استقبال بيت المقدس واستدباره عند قضاء الحاجة عندما كنا نتوجه إليه، فلما وجهنا إلى الكعبة نهينا عن استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط، فذاك كان، ثم عندما تحولت القبلة نهينا كما نهينا سابقاً عن استقبال بيت المقدس واستدباره، وعليه التحريم زاد أن هذا عندما كان بيت المقدس قبلة للمسلمين يصلون إليه ويتوجهون إليه، وقد توجه إليه نبينا عليه الصلاة والسلام سنة ونصف ثمانية عشر شهراً عندما ذهب إلى بيت المقدس، ثم حوله الله جل وعلا إلى استقبال القبلة المشرفة، قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].

إذاً: معنى الحديث أنه عندما كان المسلمون يصلون إلى بيت المقدس، فكأن معقلاً يقول: نهانا النبي عليه الصلاة والسلام عن استقبال واستدبار بيت المقدس عندما كنا نصلي إليه، فلما وجهنا إلى الكعبة نهينا عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، والنهي الأول زال.

المعنى الثاني للحديث قيل: المراد بالنهي خصوص أهل المدينة، لأنه لو استقبل بيت المقدس استدبر الكعبة، من استقبل بيت المقدس استدبر الكعبة؛ لأن قبلة أهل المدينة عندما يتوجهون إلى الكعبة لا يستقبلون بيت المقدس، لكن لو استقبلوا الكعبة لقضاء حاجة البول فقد استدبروا بيت المقدس، يعني: لو أن أهل المدينة استدبروا الكعبة عند قضاء حاجتهم يستقبلون بيت المقدس، واضح هذا؟ ولو استقبلوا الكعبة يستدبرون بيت المقدس، فمن أجل ذلك نهي أهل المدينة عن استقبال بيت المقدس ببول أو غائط، فبعض العلماء يقول: لأنهم لو استقبلوا بيت المقدس استدبروا الكعبة، ولو استدبروا بيت المقدس استقبلوا الكعبة، ولذلك في حديث عبد الله بن عمر تقدم معنا: ( أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام مستقبل الشام مستدبر الكعبة )؛ لأن من استدبر الكعبة وهو في المدينة يستقبل الشام، فقال بعض العلماء الكرام: هذا خاص بأهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

قال الإمام النووي وهو القول الثالث: المعتمد الظاهر المختار أن النهي وقع في وقت واحد لكلتيهما في مكان واحد، لكن النهي هنا ليس للتحريم إنما هو للتنبيه وللأدب، فالنهي عن استقبال القبلة واستدبارها للتحريم، وإما لبيت المقدس فهو للتنبيه وللأدب، قال الإمام النووي: للإجماع على أن الاستقبال والاستدبار لبيت المقدس لا يحرم، قال: ولا نعلم في ذلك أحداً خالف، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر وقال: الإجماع ليس بمسلم مع وجود قول إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين كما تقدم معنا.

وخلاصة الكلام القول الثاني من الأقوال الثلاثة، وهو القول السادس: الثابت أن التحريم مطلقاً حتى في القبلة منسوخ، يعني: يحرم علينا أن نستقبل القبلة وهي الكعبة، وأن نستدبرها، وهكذا الحال لبيت المقدس استقبالاً واستدباراً، الجمهور قالوا: النهي بالنسبة لبيت المقدس للتنبيه وللأدب، والنخعي وابن سيرين قالا بالتحريم كما هو الحال في حق الكعبة المشرفة، ودليلهم ما جاء في أبي داود وابن ماجه وسنن البيهقي من حديث معقل بن أبي معقل، وقد اختلف في درجته، وقد مال الإمام النووي إلى تحسينه والعلم عند الله جل وعلا.

هذا القول معارض لما تقدم معنا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام استدبر الكعبة، واستقبل الشام، مما يدل على أن هذا القول على عمومه وحاله كحال القول الأول، فيعمل بعض الأحاديث ويلغي بعضها، فنجمع بينه وبين القول الرابع، نقول: هذا كان ثم نسخ، نسخ ما كان منه في العمران وفي البنيان رخص، وما عدا ذلك سيبقى المنع، والمنع بالنسبة للقبلة على سبيل التحريم، أي: في الصحراء، والمنع بالنسبة لبيت المقدس على سبيل الكراهة للتنزيه عند المذاهب الأربعة أيضاً في الصحراء، وأما في البنيان فلا تمنع في استقبال القبلة واستدبارها، وهكذا الحال بالنسبة لبيت المقدس والعلم عند الله جل وعلا.

القول باختصاص النهي عن استقبال القبلتين واستدبارهما بأهل المدينة .. نسبته ودليله والجواب عنه

القول الثالث وهو السابع من الأقوال العامة، وهو آخر الأقوال: قال بعض العلماء وهو أبو عوانة صاحب الإمام المزني عليهم جميعاً رحمة الله: النهي في جميع الأحوال عن استقبال القبلة واستدبارها، وعن استقبال بيت المقدس واستدباره، النهي في جميع الأحوال التي تقدمت هذا خاص بأهل المدينة المنورة ومن كان في جهتهم، يعني: ممن يأتون جهة الشمال والجنوب؛ لأن قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( شرقوا أو غربوا )، هذا خاص بالمدينة، فمن كان في جهة الشمال أو الجنوب عندما يشرق أو يغرب لا يستقبل القبلة، لكن من كانت قبلته الغرب أو الشرق عندما يشرق استدبر القبلة، وعندما يغرب استقبل القبلة، هذا من كانت قبلته في جهة الغرب، ومن كانت قبلته في جهة الشرق، والنبي عليه الصلاة والسلام ماذا قال؟ قال: (شرقوا أو غربوا)، مما يدل على أن هذا النهي خاص بأهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه؛ لأنهم إذا شرقوا أو غربوا لا يستقبلون القبلة ولا يستدبرونها، وأما كما قلت من قبلته الغرب أو قبلته الشرق، هذا عندما يشرق أو يغرب فقد استقبل استدبر، فـأبو عوانة صاحب الإمام المزني يقول: هذا خاص بأهل المدينة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( شرقوا أو غربوا ).

قال أئمتنا: قوله: (شرقوا أو غربوا) أي: التشريق والتغريب خاص بهم، ومن كان في جهتهم، لكن النهي عام لكل أحد، وعليه من كان قبلته الشرق لا يقال له: شرق أو غرب، إنما يقال له: انحرف جنوباً أو شمالاً.

إذاً: (شرقوا أو غربوا) هذا لأهل المدينة ومن كان في جهتهم، أما من قبلته الغرب فلا يقال له: شرق، ولا يقال له: غرب، واضح هذا؟ ففي هذه الحالة يقال: شمال أو جنوب، فالآن نحن قبلتنا جهة الغرب أليس كذلك؟ فإذا قيل لنا: غربوا استقبلنا القبلة، فإذاً هذا خاص بأهل المدينة ومن هو في جهتهم، والحكم عام، (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا).

يبقى معنا الفصل، (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول)، ولكن شمالاً أو جنوباً إذا كانت قبلتكم في جهة الغرب أو جهة الشرق، فهنا بدل شرقوا أو غربوا وضعنا ما يناسبها، فالنهي واحد، لكن شرقوا أو غربوا على حسب أهل المدينة، لكن من عداهم نقول له: خذ شمالاً أو جنوباً، أما إذا شرقت أو غربت فبالنسبة لمن قبلته الغرب عندما يغرب يستقبل القبلة، وعندما يشرق يستدبرها، فعليه شرقوا أو غربوا هذه خاص بأهل المدينة، أما النهي فهو عام لكل أحد، وكل واحد بعد ذلك يتوجه على حسب جهته بحيث لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها.

فـأبو عوانة صاحب الإمام المزني أخذ من كلمة: (شرقوا أو غربوا)، قال: هذا يفيد أن هذا الحكم خاص بأهل المدينة المنورة على نبينا ومنورها صلوات الله وسلامه، ومن كان في سمتهم، أي: ممن إذا انحرف شرقاً أو غرباً لا يستقبل القبلة، أما من كان إذا انحرف شرقاً أو غرباً سيستقبلها فليس معني بهذا؛ لأنه عندما يشرق أو يغرب سيستقبل أو يستدبر.

وعليه؛ فهذا الحكم خاص بأهل تلك البقعة الطاهرة المطهرة، والقول حقيقة في منتهى الغرابة؛ ولأن الحكم عام، وليس خاصاً بأهل بقعة، فلا داعي لقصر هذا الحكم على أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

ورد في أحاديث كثيرة النهي عن استقبال القبلة واستدبارها مطلقاً كما في حديث سلمان : ( نهانا النبي عليه الصلاة والسلام أن نستقبل القبلة بغائط أو بول )، ولم يقل: (شرقوا أو غربوا)، فالنهي مطلق، وهنا قال: (شرقوا أو غربوا)؛ لأنه يخاطب الحاضرين أمامه، فأرشدهم إلى الانحراف عن جهة القبلة إما للشرق وإما للغرب، وأما غيرهم -فكما قلت- سيتجه شمالاً أو جنوباً، والعلم عند الله جل وعلا.

القول الخامس: وهو أحد الأقوال الثلاثة، أولها: ذهب إليه الإمام أبو يوسف، وهو تلميذ الإمام الجليل المبارك أبي حنيفة رحمة الله عليهم جميعاً، فقال: يجوز استدبار القبلة عند قضاء الحاجة -انتبه، ليس هذا كالقول الثاني- يجوز الاستدبار في البنيان فقط، أما القول الثاني عمم قال: في البنيان وفي الصحراء، هنا قيده، قال: الاستدبار يجوز إذا كنت في بناء، وأما الاستقبال فلا يجوز لا في بناء ولا في صحراء، والاستدبار في الصحراء لا يجوز أيضاً، فالاستقبال تمنع منه مطلقاً، واستدبار القبلة يرخص لك في البناء دون الصحراء، هذا قول الإمام أبي يوسف عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

ودليله حديث عبد الله بن عمر الذي تقدم معنا، وهو استدبار نبينا عليه الصلاة والسلام للكعبة والقبلة المشرفة عند قضاء الحاجة كما تقدم معنا في حديث عبد الله بن عمر وكان ذلك في البنيان، نستثني هذه الصورة وما عداها يبقى على التحريم، فيحرم أن تستقبل في البنيان، ويحرم أن تستدبر وأن تستقبل في الصحراء.

وهذا القول مع قوة الدليل الذي اعتمد عليه يورد عليه ما تقدم معنا من حديث جابر بن عبد الله ففيه أيضاً الاستقبال، فلا بد إذاً من أن نجمع بين الأحاديث، وأن نعود إلى القول الرابع، والعلم عند الله جل وعلا.

القول الثاني من الأقوال الثلاثة، ذهب إليه إمامان مباركان من أئمة التابعين، الإمام إبراهيم النخعي وشيخ الإسلام محمد بن سيرين عليهم جميعاً رحمة رب العالمين، فقالوا: التحريم مطلقاً، في البناء وفي الصحراء استقبالاً واستدباراً، فإن قيل: هذا كالقول الأول؟ نقول: لا، التحريم مطلقاً للقبلتين، أي: للقبلة المشرفة وهي الكعبة المعظمة المباركة، ولبيت المقدس، يحرم عليك أن تستقبل القبلة وأن تستدبرها، وأن تستقبل بيت المقدس وأن تستدبره لحاجة البول أو الغائط في البنيان وفي الصحراء، أما القول الأول فهو خاص بالكعبة المشرفة، أما هنا يقول: عام في القبلتين في جميع أحواله، هذا ذهب إليه إمامان من أئمة التابعين الإمام النخعي وابن سيرين عليهم جميعاً رحمة الله.

وعندهم في الحقيقة دليل قوي، وهو حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإن اختلف في درجته فقد حسنه الإمام النووي كما سأذكر لكم إن شاء الله عند تخرج الحديث، ومن باب بيان قيمة هذا القول أن أذكر دليلهم، ومن أدلتهم حديث معقل بن أبي معقل الذي أشار إليه الإمام الترمذي ، وقال بعد حديث أبي أيوب : وفي الباب حديث أيضاً معقل بن أبي معقل .

حديث معقل الأسدي رواه أبو داود وابن ماجه ، ورواه الإمام البيهقي أيضاً، ولفظ الحديث قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط )، والقبلتان: القبلة الأولى وهي بيت المقدس، والقبلة الثانية الكعبة المشرفة.

قال الحافظ في التلخيص، أعني: في التلخيص الحبير، وقلت لكم إخوتي الكرام! كثير من طلبة العلم يلحنون ويصحفون في النطق به وضبطه عندما ينطقون به يقولون: تلخيص الحبير، هذا يوجد في الكتب بكثرة، وهذا خطأ، تلخيص الحبير يفيد أن هذا تلخيص لكتاب اسمه الحبير، وليس كذلك، إنما هذا الحبير معك للتلخيص، التلخيص الحبير يعني التلخيص الجيد، والتلخيص الحبير للحافظ ابن حجر أربعة أجزاء في مجلدين في تخريج أحاديث الرافعي الكبير في فقه الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله، وهو من الكتب النافعة في تخريج أحاديث الأحكام، وكنت ذكرت هذا الكتاب وقلت: له قيمة، وقبله كتاب أعظم منه ألا وهو نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، والإمام ابن حجر استفاد من كتاب الإمام الزيلعي واختصره أيضاً في الدراية في اختصار نصب الراية.

يقول الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير في الجزء الأول صفحة واحد وتسعين، وفي الفتح أيضاً الجزء الأول صفحة ست وأربعين ومائتين: حديث معقل ضعيف فيه راوٍ مجهول الحال، وهو أبو زيد مولى بني ثعلبة، لكن الإمام النووي عليه رحمة الله في المجموع في الجزء الثاني صفحة ثمانين قال: إسناده جيد، ولم يضعفه أبو داود ، هذا كلام الإمام النووي؛ لأن الإمام أبا داود إذا روى حديثاً في سننه ولم يضعفه فهو حسن أو صالح على حسب شرطه واصطلاحه، فروى فيه الصحيح وما يشبهه، وما يقاربه، وما فيه وهم وضعف بينه، وعليه ما سكت عنه فهو صالح أو حسن، والأدق والأحوط في التعبير كما قال الإمام ابن كثير أن نقول: صالح، يعني: يصلح للاحتجاج به وللاستشهاد به ولأخذ الحكم منه، سواء كان فيه ضعف يتقوى بالشواهد فهو صالح أو حسن، فالتعبير بأنه صالح أدق كما قال الإمام ابن كثير عليهم جميعاً رحمة الله، فالإمام النووي يقول: إسناده جيد، ولم يضعفه أبو داود .

في هذا الحديث السادس من رواية معقل بن أبي معقل رواه الطبراني أيضاً من طريق آخر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، لكن في الرواية عبد الله بن نافع وهو ضعيف كما قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء (2/ 205).

إذاً حديث معقل فيه النهي عن استقبال القبلتين وهذا يفيد تحريم استقبال القبلتين واستدبارهما ببول أو غائط، وإلى هذا ذهب الإمامان النخعي وابن سيرين ، ومعنى هذا الحديث ..لأئمتنا فيه ثلاثة أقوال، قولان قالهما من قبل الإمام النووي، وأضاف إلى القولين قولاً ثالثاً، والقول الثالث هو الأظهر في معنى الحديث، فقيل: النهي كان عندما كان يتوجه المسلمون إلى بيت المقدس في صلاتهم، فكأن معقلاً يقول: نهينا عن استقبال بيت المقدس واستدباره عند قضاء الحاجة عندما كنا نتوجه إليه، فلما وجهنا إلى الكعبة نهينا عن استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط، فذاك كان، ثم عندما تحولت القبلة نهينا كما نهينا سابقاً عن استقبال بيت المقدس واستدباره، وعليه التحريم زاد أن هذا عندما كان بيت المقدس قبلة للمسلمين يصلون إليه ويتوجهون إليه، وقد توجه إليه نبينا عليه الصلاة والسلام سنة ونصف ثمانية عشر شهراً عندما ذهب إلى بيت المقدس، ثم حوله الله جل وعلا إلى استقبال القبلة المشرفة، قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].

إذاً: معنى الحديث أنه عندما كان المسلمون يصلون إلى بيت المقدس، فكأن معقلاً يقول: نهانا النبي عليه الصلاة والسلام عن استقبال واستدبار بيت المقدس عندما كنا نصلي إليه، فلما وجهنا إلى الكعبة نهينا عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، والنهي الأول زال.

المعنى الثاني للحديث قيل: المراد بالنهي خصوص أهل المدينة، لأنه لو استقبل بيت المقدس استدبر الكعبة، من استقبل بيت المقدس استدبر الكعبة؛ لأن قبلة أهل المدينة عندما يتوجهون إلى الكعبة لا يستقبلون بيت المقدس، لكن لو استقبلوا الكعبة لقضاء حاجة البول فقد استدبروا بيت المقدس، يعني: لو أن أهل المدينة استدبروا الكعبة عند قضاء حاجتهم يستقبلون بيت المقدس، واضح هذا؟ ولو استقبلوا الكعبة يستدبرون بيت المقدس، فمن أجل ذلك نهي أهل المدينة عن استقبال بيت المقدس ببول أو غائط، فبعض العلماء يقول: لأنهم لو استقبلوا بيت المقدس استدبروا الكعبة، ولو استدبروا بيت المقدس استقبلوا الكعبة، ولذلك في حديث عبد الله بن عمر تقدم معنا: ( أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام مستقبل الشام مستدبر الكعبة )؛ لأن من استدبر الكعبة وهو في المدينة يستقبل الشام، فقال بعض العلماء الكرام: هذا خاص بأهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه.

قال الإمام النووي وهو القول الثالث: المعتمد الظاهر المختار أن النهي وقع في وقت واحد لكلتيهما في مكان واحد، لكن النهي هنا ليس للتحريم إنما هو للتنبيه وللأدب، فالنهي عن استقبال القبلة واستدبارها للتحريم، وإما لبيت المقدس فهو للتنبيه وللأدب، قال الإمام النووي: للإجماع على أن الاستقبال والاستدبار لبيت المقدس لا يحرم، قال: ولا نعلم في ذلك أحداً خالف، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر وقال: الإجماع ليس بمسلم مع وجود قول إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين كما تقدم معنا.

وخلاصة الكلام القول الثاني من الأقوال الثلاثة، وهو القول السادس: الثابت أن التحريم مطلقاً حتى في القبلة منسوخ، يعني: يحرم علينا أن نستقبل القبلة وهي الكعبة، وأن نستدبرها، وهكذا الحال لبيت المقدس استقبالاً واستدباراً، الجمهور قالوا: النهي بالنسبة لبيت المقدس للتنبيه وللأدب، والنخعي وابن سيرين قالا بالتحريم كما هو الحال في حق الكعبة المشرفة، ودليلهم ما جاء في أبي داود وابن ماجه وسنن البيهقي من حديث معقل بن أبي معقل، وقد اختلف في درجته، وقد مال الإمام النووي إلى تحسينه والعلم عند الله جل وعلا.

هذا القول معارض لما تقدم معنا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام استدبر الكعبة، واستقبل الشام، مما يدل على أن هذا القول على عمومه وحاله كحال القول الأول، فيعمل بعض الأحاديث ويلغي بعضها، فنجمع بينه وبين القول الرابع، نقول: هذا كان ثم نسخ، نسخ ما كان منه في العمران وفي البنيان رخص، وما عدا ذلك سيبقى المنع، والمنع بالنسبة للقبلة على سبيل التحريم، أي: في الصحراء، والمنع بالنسبة لبيت المقدس على سبيل الكراهة للتنزيه عند المذاهب الأربعة أيضاً في الصحراء، وأما في البنيان فلا تمنع في استقبال القبلة واستدبارها، وهكذا الحال بالنسبة لبيت المقدس والعلم عند الله جل وعلا.