(31) بعيني رأيتُ رجلَ الثلج - مسلكيات - جمال الباشا
مدة
قراءة المادة :
3 دقائق
.
إن لم تكن رأيت رجل الثلج في حياتك فلعلك سمعت بالأخبار المتواترة عن أناس في بلاد الغرب سجَّلوا رؤيتهم له عيانًا يتجول بين الثلوج بأوصافٍ متوافقة.ومن الناس من لا يزال يعتقد بأنه مجرد أوهام وأنه من أساطير الأولين وخُرافاتهم ولا حقيقة له في الواقع المحسوس.
لكني رأيت رجل الثلج بالفعل عند إقامتي في شمال ألبانيا وتحدّثتُ إليه وعجبتُ من بساطته ودماثة خُلقه.
إن كنت من أصحاب القلوب القوية فواصل القراءة وإلا فدع.
كان ذلك في شتاء عام ألف وتسعمئة وأربعة وتسعين وكنت أحاضر في معهد العلوم الشرعية، الذي يبعد عن منزلي نحو مئتي متر، وكنت أجد حرجًا ومشقة في الوصول إليه، لأن درجة الحرارة كانت تصل أحيانا إلى عشرين درجة تحت الصفر.
والثلوج لا تكاد تغيب عن المدينة في فصل الشتاء، وترتفع لتبلغ المتر في بعض المناطق.
لم يكن جميع الطلاب من مدينة "بشكوبيا" بل بعضهم كان يأتي من قرىً مجاورة حرصًا منهم على طلب العلم ، فقد كان المعهدَ الشرعي الوحيد في المنطقة.
سألتُ أحدهم يومًا وقد جاء مُتأخرًا عن الحصة الأولى: أين تسكن؟
فكانت الإجابة صادمةً لي!!
كان بيته يبعد مسيرةَ ساعةٍ مشيًا على الأقدام!!
لم أستطع أن أُخفي مشاعر الاستغراب، وظهرت الدهشةُ على وجهي، فتبسم الطلاب وقالوا لي: يا أستاذ، قرية هذا تُعدُّ قريبةً بالنسبة لقرية الطالب "ساي مير"، -وكان طالبًا خجولًا يجلس في المقعد الأمامي مباشرة- نظرتُ إليه وقلتُ له: أخبرني كم يبعد منزلك أنت يا "ساي مير"؟ فكان الجواب الصادمُ حقًا هذه المرة، والذي لا يكاد يُصدَّق، خمس ساعات يا أستاذ.
سألته: في أي ساعة تخرج من بيتك؟ ومتى ترجع إليه؟
قال: أخرج في الساعة الثالثة قبل الفجر لأصل في الثامنة، وبعد نهاية الدوام عند الواحدة أسيرُ حثيثًا حتى أصل منزلي في السادسة مساءً!!
يا الله..
عشرُ ساعات من السير على الأقدام يوميًا في الثلوج وبين الجبال بلا كلل ولا استكانة، وبلا تذمُّر أو شكوى، بل ولا حتى تأخر في يوم عن وقت الحصة الأولى..
كل هذا لأجل طلب العلم الشرعي وحفظ القرآن!!
أيَّةُ همةٍ كانت في قلب هذا الشاب المجاهد في طلب العلم؟!
وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِبارًا *** تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ
كانت المرةَ الأولى التي أشعر فيها بالتضاؤل أمام طالب من طلابي، فقد كنت أستغرق كل يوم قبل خروجي من المنزل نحو عشرين دقيقة في التجهيزات اللازمة لملاقاة البرد الثلجي القارس لأسير مسافةَ مئتي متر فقط، وأنا أحسب أني أقوم بإنجاز عظيم لأجل ديني!!
كنتُ أوليه بعدها عناية خاصة وأداعبه قائلًا: لعلك أنت رجل الثلج الذي شاهده الناس فدوَّنوا شهاداتهم ؟!
نعم، أنت درسٌ كبير في علو الهمة ، وقصتك مُلهمة للمتقاعسين أمثالي، وتستحق أن تكتب في النوادر، شكرًا لك على إلهامك يا رجل الثلج.