شرح الترمذي - باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

انتهينا من مدارسة الباب الثالث من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى جميع المسلمين رحمات رب العالمين، وندخل الآن في الباب الرابع إن شاء الله: [باب ما يقول إذا دخل الخلاء].

قال الإمام أبو عيسى الترمذي عليه رحمة الله: [ حدثنا قتيبة وهناد قالا: حدثنا وكيع عن شعبة ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك -قال شعبة وقد قال مرةً: أعوذ بك- من الخبث والخبيث، أو الخبث والخبائث).

قال أبو عيسى : وفي الباب عن علي وزيد بن أرقم وجابر وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

قال أبو عيسى : حديث أنس أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وحديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب، روى هشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، فقال سعيد : عن القاسم بن عوف الشيباني ، عن زيد بن أرقم ، وقال هشام الدستوائي : عن قتادة ، عن زيد بن أرقم ، ورواه شعبة ومعمر عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، فقال شعبة : عن زيد بن أرقم ، وقال معمر : عن النضر بن أنس عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى : سألت محمداً عن هذا؟ فقال: يحتمل أن يكون قتادة روى عنهما جميعاً ].

الحديث التالي في هذا الباب وهو الحديث السادس من أحاديث سنن الإمام الترمذي ، قال أبو عيسى عليه رحمة الله: [ أخبرنا أحمد بن عبدة الضبي البصري ، قال: حدثنا حماد بن زيد ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). قال أبو عيسى : هذا حديثٌ حسنٌ صحيح ].

إخوتي الكرام! قوله: (ما يقول إذا دخل الخلاء)، الخلاء: هو الموضع الخالي الذي ليس فيه أحد، قال أئمتنا: وفي هذا اللفظ دلالة على البعد أيضاً؛ لأن المكان الخالي الذي ليس فيه أحد يكون بعيداً في الغالب، والمراد من الخلاء هنا: مكان التغوط، وسمي خلاءً لوجود هذين الأمرين فيه: ليس في مكان قضاء الحاجة أحد، والمكان في الغالب يكون بعيداً، لا سيما في العصر الأول عندما لم تكن الكنف والحمامات في البيوت، فكان من أراد قضاء الحاجة في الخلاء والفضاء يبتعد ميلاً أو ميلين، فإذاً بعد مع خلو، يقال لمكان قضاء الحاجة.

والحمام في البيت يكون في طرف البيت، وما اعتاده الناس في هذه الأيام من أن يجعلوا الحمام في داخل الغرفة عادة غربية خبيثة، وكان العرب يتأففون من وجود الحمام داخل السكن غاية التأفف، فكيف إذا كان بابها على الحجرة، يعني عندما جعلوا في بيوتهم المراحيض والكنف، والأولى أن تكون في آخر شيء في البيت، أو في مكان متطرف من البيت مستور ومعزول، وهذا ما أدركت عليه آباءنا الكرام عليهم جميعاً رحمات ذي الجلال والإكرام وخال، وأما ما هو الآن فهذه الحياة الغربية الإفرنجية ما كان يعرفها سلفنا.

وقال أئمتنا: الخلاء هو موضع التغوط عند قضاء حاجة الغائط، ويقال له: المذهب، يعني الذي يذهب بعيداً ليصل إلى هذا المكان، ويقال له: المرفق كما في كتب اللغة، كل ما يرتفق به من مطبخ وكنوف ومصاب المياه يقال لها: مرفق. ويقال له: مرحاض، من رحض بمعنى غسل؛ لحصول الاستنجاء فيه، وأكمل أحوال الاستنجاء أن يغسل الإنسان مكان قضاء الحاجة.

ويقال له: غائط، والغائط في الأصل: المكان المنخفض المطمئن في الأرض؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجةً لا يصعد على جبل، إنما ينزل إلى منخفض، فيبحث عن مكان منخفض يكون فيه من أجل أن يتوارى، وأما إذا ارتفع فيبدو منه ما يكرهه الإنسان.

ويقال أيضاً لذلك المكان: حُشٌ وحَشٌ بفتح الحاء وضمها، والحُش والحَش في الأصل: البستان، وأطلق على الكنيف وعلى الخلاء حَشٌ وحُش؛ لأنه كانت عادة كثير من الناس إذا أرادوا قضاء الحاجة أن يذهبوا إلى البستان لحصول الستر فيه والتواري، ولذلك يتوارى الإنسان بشجرةٍ أو أكمة، ويقال له: الكنيف أيضاً مكان قضاء الحاجة من الستر، والكنيف هو الشيء الساتر، ويقال له في تعبير الناس في هذه الأيام: دورة المياه وحمام على حسب اصطلاح بني الإنسان في هذا الزمان، وكل هذه ألفاظٌ لمسمى واحد، وهو المكان الذي يحصل فيه قضاء الحاجة.

إخوتي الكرام! قبل أن نتدارس إسناد هذين الحديثين في هذا الباب أحب أن أقدم مقدمةً ضروريةً لهذا الأمر، وهذه المقدمة مرتبطة بهذا المبحث: (باب ما يقول الإنسان إذا دخل الخلاء) والخلاء يكون لقضاء الحاجة، والحاجة في الأصل إما أن تكون طعاماً أو شراباً، وشهوات الإنسان آلت في نهاية الأمر إلى فضلات.

أولاً: ينبغي أن نعي هذا، وأن نتدبره، وأن نقف عنده وقفةً، فهذه الدنيا بلذائذها وشهواتها ومغرياتها تستحيل إلى شيء يتأفف منه الإنسان، ويستحي من رؤيته وذكره، وهذا الشيء موجود في بطن الإنسان على الدوام، فينبغي أن نأخذ من ذلك العبر.

والأمر الثاني: أن هذا الدين الواسع الشامل لجميع شئون الحياة من أعظم نعم الله علينا، فقد من علينا ربنا ببعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهدانا للتي هي أقوم في جميع شئون الحياة كما سيأتينا، فشرع الإله شاملٌ لجميع أمور الحياة، كيف نتعامل مع ربنا، كيف نتعامل مع أنفسنا، كيف نتعامل مع بعضنا، وهذا لا يوجد في نظامٍ من أنظمة البشر على الإطلاق، فليس في النظام الأمريكي ولا البريطاني ولا الفرنسي أحكام قضاء الحاجة، فلو أراد أن يمسك ذكره بيمينه أو بشماله، أو أن يبول على فخذه أو ثيابه أو أن يشرب بوله، أو أن يدهن نفسه بغائطه أو أن يدخل إلى مكان قضاء الحاجة بيمينه أو بشماله أو أن يمد رأسه قبل أن يدخل بيمينه أو بشماله، كل هذا كله لا علاقة لهم به على الإطلاق، إنما هو نظام عام فقط يضبط شئون الناس ببعضهم، أما صلتك بربك أو بنفسك فلك أن تفعل ما شئت، إنما فقط أنظمتهم تضبط الأمور العامة؛ لئلا يحصل اعتداء ورفض وإكراه.

فهذا الدين الذي ننتمي إليه من أعظم نعم الله علينا كما سيأتينا، ولا يوجد تشريعٌ على وجه الأرض يحتوي هذه الأخلاق والآداب إلا هذا التشريع الذي من الله به علينا، وهو دين الإسلام، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

إخوتي الكرام! لذات الدنيا -وهذا هو التنبيه الأول- خسيسة، وشهواتها رخيصة، من حيث التمتع بها، ومن حيث تغيرها واستحالتها؛ فعندما تتمتع بها وتأكلها صورتها خسيسة، وعندما تستحيل بعد ذلك إلى شيء معلوم خسيسة، هذه هي شهوات الدنيا، نعم.. هذه الشهوات الخسيسة الرخيصة تناسب هذه الدار التي ليس لها عند الله أي اعتبار، أما في الجنة -كما سيأتينا- لا يوجد معك لا مخاط ولا بصاق، ولا بول ولا غائط، والفضلات تتحول إلى ريح أطيب من ريح المسك، وهذا يناسب دار الكمال، أما هنا دار الذل والنقص والعار والافتقار تناسب هذه الدار، والله جعل فيها هذا لئلا تعبد من دونه ولئلا يركن الناس إليها، ومع ذلك غروا بها وعبدوها من دون الله وركنوا إليها، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198].

أئمتنا الأبرار يقولون في قول العزيز الغفار: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]، في حق المؤمنين في جنات النعيم، يقول المفسرون عند هذه الآية: ما عند نساء الدنيا بمثل هذه الآية، وأرى هذا من باب الإجحاف بحق النساء، ما عند أهل الدنيا نساءً ورجالاً بمثل هذه الآية، في هذه الحياة الدنيا عندك امرأة لكن ليست مطهرة، لا حساً ولا معنى؛ حيض، ونفاس، ومخاط، وبصاق، وصداع، وبول، وغائط، ولو دهنت نفسها بغائطها لهربت من البيت الذي تسكنه، هذا حال الدنيا، لكن هذه تناسبك، يعني أنت ليس فيك هذه الصفات؟ هذه الصفات أنت تحملها من رأسك إلى رجليك، فالذم للاثنين وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25]، أما هناك ليس كذلك، وهكذا الطهارة المعنوية هناك؛ لا غيبة، ولا حسد، ولا خصومة، ولا مشاجرة، وما أكثر الخصومات التي تجري بين الأحداث في هذه الحياة فضلاً عن غيرهم! ما أكثر الخصومات والخلافات! فمثلاً: زوجته يحبها أحياناً أكثر من نفسه لكن يرى منها ما لا يليق له، وهي ترى منه ما لا يليق لها، وهذا في حال المتحابين، فكيف في حال المتعادين؟!

إذاً: هنا في هذه الحياة لا يوجد طهارة كاملة لا حساً ولا معنى، أما هناك حساً ومعنى؛ فالنعيم الذي أنت فيه لا يحسدك عليه أحد من خلق الله، ولا يطلع عليه إلا زوجتك، ولا إلى ما من الله به عليك في دار كرامته، حقيقةً هناك حياة كاملة، وأما هنا كما قلت -إخوتي الكرام-: شهوات خسيسة رخيصة من حيث التمتع بها، ومن حيث استحالتها وتغيرها، تناسب هذه الدار دار الذل، دار الاحتقار، دار النقص، فهذه الحياة الدنيا، ولذلك ليس لهذه الحياة عند الله أي قدر ولا اعتبار.

ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه الحاكم في مستدركه والإمام أبو نعيم في حلية الأولياء والحافظ الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة، والحديث صحيح من رواية سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى منها كافراً شربة ماء)، وفي رواية (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء)، وهذا من هوان الكافر على ربه؛ فلو كانت الدنيا من أولها لآخرها بقضها وقضيضها وجميع شهواتها ومغرياتها ودسائسها وخيراتها تعدل جناح بعوضة لما أمكن الله الكافر في هذه الحياة من أن يشرب قطرة ماء، من هوانه على ربه، وجحوده لخالقه، واستكباره عليه؛ إذاً لا وزن لها ولا اعتبار، يعطيها للذي يحب والذي لا يحب، أما دار كرامته لا يعطيها إلا لمن رضي عليه وأحبه.

هذه الدنيا -إخوتي الكرام- شهواتها -كما قلت- خسيسة رخيصة، والحياة فيها بجميع جهاتها تعيسة إلا من زكى قلبه بشرع الله، ولا يوجد شيء في الحياة تزكو به وتستريح إلا معرفتك لربك وعبادتك له أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]. وعبادة الإنسان لخالقه ضروريٌ له في هذه الحياة، كما هو الحال في الماء للسمك تماماً، فإذا خرج السمك من الماء هلك وعطب، وإذا ابتعد الإنسان عن شرع ربه في هذه الحياة هلك وشقي.

إذاً هذه الحياة وهذه منغصاتها، شهواتها خسيسة رخيصة، سبحان الله! إذا افتقر الإنسان فيها حزن، سبحان الله! إذا اغتنى الإنسان فيها فتن، سبحان الله! إذا صح الإنسان فيها سقم، سبحان الله! حلالها حساب، وحرامها عداوة، ومتشابهها عتاب، هذا حال الدنيا، فهذه الشهوات التي فيها رخيصة خسيسة، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]. ومن أراد أن يعرف قدر الدنيا فلينظر إلى ما يخرج منه في اليوم مرة أو مرتين، فهذه هي الدنيا كما سيأتينا.

هذه الحياة والشهوات التي فيها قرر أئمتنا نقصها وامتهانها بأمور سأذكرها وأضيف عليها ما فتح به العزيز الغفور.

شهوات الدنيا سريعة الزوال

أولها: قال أئمتنا: شهوات الدنيا من أولها لآخرها سريعة الزوال، ومشرفة على الفناء والانتقال، والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها، هذه حال لذائذ الدنيا، أي أول عيب فيها أن هذه الشهوات ليست بدائمة، بل مشرفة على الفناء والزوال، أي أن الغني عندما يفتقر حقيقةً حزنه عند فقره لا يعدله سروره عند غناه.

شهوات الدنيا ليست خالصة

الأمر الثاني الذي يبين حقارة شهواتها، وخسة شهواتها، وعدم وزن هذه الحياة وما فيها إلا ما كان لله منها: أن شهواتها ليست خالصة، وإنما هي ممزوجة بالمنغصات والمكدرات، محفوفة بالأخطار، مشوبة بالأضرار، وحتى الشهوات التي تتمتع بها ليست شهوات خالصة، كم من إنسان صار سبب موته أكله، أكل كثيراً فمات، وكم من إنسان تزوج حبيبةً ليسعد معها فخنقته وهو نائم، وكم من إنسان كان يداعب حبيبه وهذه المداعبة أدت إلى موته وقتله، فهذا يزيد أحد خلفاء بني أمية كان يداعب زوجته ويلاعبها، فألقى حبة عنب في فمها من باب المداعبة هي تفتح وهي يلقي، فدخلت في مجرى الهواء فماتت، فحزن عليها وما أراد أن يدفنها، فتركها أياماً وليالي حتى تفسخت وأنتنت فاضطر إلى دفنها.

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر

شهوات لكن محفوفة بالأخطار، فالذي يجمع المال عندما يفكر في كيفية حفظه وحراسته أحياناً يستيقظ في الليل عدة مرات خشية أن يأتي السراق وقطاع الطريق مع أنه في الأصل سبب السعادة، وإذا المال ما وضعه في البيت وخشي عليه أخذه إلى البنك، ثم يقول: حيل البنوك ما أكثرها في هذه الأيام، ولعله في نهاية الشهر يعلن البنك عن إفلاسه فتذهب الفلوس من أولها لآخرها، تراه يجلس مهموماً، شهوات لكن فيها منغصات، هذه الشوائب والأكدار، لا يوجد شهوة خالصة في الدنيا أبداً، إنما توجد هذه في الجنة.

وحتى الطعام عندما تأكله يوجد شيء من التعب، والطعام عندما يكون في فمك لو نظر الإنسان إليك وأنت تأكل لترك الطعام، ولو تقيأت وأنت تأكل لقام كل من على المائدة، هذه شهوات، لكن فيها -كما قلت- منغصات، فيها شوائب، فيها مكدرات، هذه شهوات الدنيا من أولها لآخرها، لا يوجد شهوة فيها سالمة.

تجد من يتزوج زوجة يخشى أن تخونه، ويخشى أن تقتله، ويخشى أن تسرق فلوسه، أعرف عدداً يعلم الله وليس واحداً -ولعلكم تعرفون أكثر مني- يقول لي: يا شيخ! فلوسي أضعها في البيت وأخشى أن تسرقها زوجتي، أخاف أن تأخذها وتهرب، أعوذ بالله من هذه الزوجة! هذا وضع الحياة الذي نعيش فيه، وإن وضعتها في البنك ابتليت بتعاملهم بالربا، وإذا وضعتها بدون فائدة ساعدتهم على الربا، وقد يعلن في يوم من الأيام عن إفلاسه، وكم من بعض إخواننا أعرفهم وضعوا فلوساً في بعض المؤسسات وما حصلوا منها ريالاً واحداً، قد أعلنوا الإفلاس وانتهت، فهذه هي الدنيا وشهواتها، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198].

شهوات الدنيا يشاركك فيها الأراذل

الأمر الثالث: هذه الشهوات الخسيسة الرخيصة يشاركك فيها الأراذل، وربما كان حظهم منها أكثر من حظك بكثير، بل هذا هو الغالب، وهذا ينقص من درجة التمتع بها، أما هناك أبداً أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، هناك الكافر لا يتمتع كما نتمتع نحن، أما هنا حقيقةً الكفار يتمتعون بنعيم الدنيا أضعاف ما يتمتع الأبرار، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]. وهذه الأمور مزهدة للإنسان حقيقةً في هذه الدار؛ أي: إذا كان شيء اختص بالنصيب الأكبر منه الأرذال والكفار والفجار فهذا لا يتنافس فيه، وأفضل وأعقل الناس زهدوا فيما ترى؛ إذ نبذوا الدنيا لعلمهم بها، ورغبوا في أختها لقربها، وهي الدار الآخرة. هذه أحوال الدنيا يشاركك فيها الأراذل، وهذا كافٍ لإسقاط كل شهوةٍ ومتعةٍ عن درجة الاعتبار؛ فما تتمتع به أنت يتمتع به أكدر خلق الله، ونصيبهم من المتعة أكثر من نصيبك بكثير، إذاً هذه ليست بدار كرامة، إنما دار الكرامة جنة الله التي لا يدخلها إلا المؤمن.

شهوات الدنيا على التحقيق لا حقيقة لها

الأمر الرابع: قال أئمتنا: شهوات الدنيا ولذائذها ومغرياتها ونعمها على التحقيق لا حقيقة لها، سبحان الله! تأكل ولا حقيقة لهذه الشهوة؟! نعم، هذه ما تكون إلا لدفع آلام، أنت تأكل لم؟ لتدفع الجوع أو ليس كذلك؟ وإذا شبعت هل تستطيع أن تأكل؟ قلت: لا، إذاً هذه الشهوات من أجل دفع آلام، ثم سيترتب عليها آلام تذهب للحمام، وأحياناً تجلس نصف ساعة وأنت في إخراج ما أكلته ويشق عليك، وإذا لم ترتاح تذهب إلى المستشفى للعلاج، وكما قال أئمتنا الكرام: أصبحت في دار البليات أدفع آفاتٍ بآفات، يعني تدفع آفة الجوع بأي شيء؟ بالطعام، والطعام يترتب عليه آفة، قد يؤدي بك إلى موتك، آفة بآفة، وهذه -كما قلت إخوتي الكرام- تبين لنا حقيقة الدنيا، وهي كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث في المسند وغيره بسندٍ صحيح من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها: (دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له)، زاد البيهقي في روايته (ومال من لا مال له)، فالدنيا دار من لا دار له، شهواتها على التحقيق لا حقيقة لها، فهي خلاف ما عند الآخرة.

انظر لهذه الإشارة في سورة الطور في قول العزيز الغفور: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الطور:17-18]، فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ [الطور:18]، قال أئمتنا: لأن جميع أكلهم من باب التفكه والتلذذ لا أن أبدانهم بحاجة إلى الطعام، يأكلون ترفاً، ولا يعقب هذا آفةً كما هي في الدنيا، تذهب إلى الحمام وتضع يدك على أنفك من شدة ما يخرج منك، بل تأكل للتلذذ، ويتصبب جبينك وجسمك عرقاً أطيب من المسك للتلذذ.

وأما هنا كما قلت: أصبحت في دار البليات أدفع آفاتٍ بآفات، هذا حال الدنيا وهذا وضعها، والله جل وعلا يقول في كتابه: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]. قال أئمتنا: شهوات الدنيا هي كلذة الحك عندما يصاب في الدنيا بداء الجرب، يفرح بالحك ويتلذذ عندما يحك لكن هذه لذة؟ ليست لذة.

وأحياناً قد يخدش جلده ويسيل دمه ويتلذذ به، هذه حال شهوات الدنيا من أولها لآخرها.

شهوات الدنيا صورتها مستهجنة

الأمر الخامس: كما قال أئمتنا: شهوات الدنيا صورتها مستهجنة عند تناولها والتمتع بها والانتفاع بها؛ فشهوة النكاح وهي ألذ شهوات بني الإنسان عند الإنسان: مبال في مبال، لذلك لا تفعلها إلا سراً ويستر الإنسان نفسه حتى عن والده ووالدته وإخوته وأولاده، واسمها عورة، مع ما فيها من منغصاتٍ أخرى.

وشهوة الطعام صورتها: إفرازات من اللعاب والبصاق على الطعام ومضغ، فلو خرجت لقمة منك ونزلت يعني في القصعة لتأفف الحاضرون وقاموا، ولذلك تعلمون أولادكم في الأكل: يا ولدي! لا تخرج شيئاً من فمك عندما تأكل؛ لأن هذا الأمر الناس يتأففون منه، أما أنه يخرج شيئاً ويلقيه في نفس القصعة هذا لا ثم لا، إذاً صورتها بهذه الحالة ليست جميلة بل مستقبحة.

ينقل عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: أفضل مطعومات بني آدم العسل، وهو مذقة ذباب، يعني: هو فضلات النحل، وألذ شهوات بني آدم النساء، وهو مبال في مبال، وحقيقةً لولا ما يترتب عليه من طيب المعاشرة وإخراج الرجال الذين يعبدون ذا العزة والجلال لتأفف العاقل عن هذا وابتعد عنه، وكما قلت: هذه دار افتقار وظلمٍ وانكسار، فيها آفات لنعلم أنها ليست بدار بقاء، ليست بدار تمتع، نفعلها بحكم ضعفنا، فإذا رجعنا إلى ربنا أعطانا: (ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، ومن ركن إلى هذه الشهوات وعبدها من دون رب الأرض والسموات أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].

شهوات الدنيا الحيوانات تشاركك لذاتها

الأمر السادس: اللذة التي تحصلها من الشهوات في هذه الحياة يشاركك فيها أناس أراذل، واقتناؤها يشاركنا فيها الأراذل، وربما كان حظهم منها أكثر من حظنا، واللذة عند التمتع بالنعم يشاركك فيها جميع الحيوانات الخسيسة، فلا يوجد حيوان إلا ويشاركك فيما تتمتع به في هذه الحياة من مغريات الدنيا وشهواتها، واللذة عند الحيوان تعدل لذتك لطعامك إن كان الطعام يختلف، فمثلاً: الجعل وهو دودة صغيرة معروفة يأكل الروث ويتلذذ به كما تتلذذ أنت بالعسل، والحمار عندما يأكل التبن يتلذذ به كما يتلذذ الكلب بأكل العظام، فكل واحدٍ له شهوة يتلذذ بها، لكن هذه اللذة موجودة لدينا، والجميع كلهم يتلذذون بما يتمتعون، فليست إذاً لذة خاصة بك.

وهذه اللذة اعتبارية؛ فأنت جعل الله لك لذة بهذا الأمر، أي لو أكلت الروث لا تتلذذ، ويأتي الجعل يأكل منه ويطير فرحاً، يضربها برأسه ويرقص حولها ويأكل منها وكأنه حصل على نعمةً ليس بعدها نعمة، هكذا شهواتنا بالنسبة لشهوة الجعل، لكن هو لا يشتهي ما نأكل، ونحن لا نشتهي ما يأكله وهكذا.

إذاً: شهوات -كما قلنا- حاصلٌ منها لذة وهذه اللذة اعتبارية على حسب المخلوقات، لكن الكل يتلذذون، فالدود الذي يتسول في المزابل ويتغذى منها يتلذذ غاية التلذذ بهذا الزبل الذي يعيش فيه، فإذاً اللذة اختلفت من واحدٍ لآخر؛ فليست إذاً لذة حقيقية يتمتع بها الإنسان.

شهوات الدنيا لا تبقى

الأمر السابع: هذه الشهوات وما يترتب عليها من لذات في هذه الحياة لا تبقى؛ فمن شبع لم يبق له شوقٌ إلى الأكل، وهذا يختلف عن الأمر الأول؛ لأنها سريعة الزوال، مثلاً: عندك قصعةٌ من طعام أكلت حتى شبعت نقول لك: كل، فتقول: لا أستطيع؛ إذاً لذة لا تبقى، أي: ليست مستمرة تأكل تأكل إلى ما لا نهاية، وهكذا الشهوات الأخرى تفعلها مرة ثم تبتعد عنها فترات طويلة ثم بعد ذلك ترجع لها، فما تستطيع أن تديمها وأن تكثر منها بخلاف الآخرة؛ فهذه اللذائذ يتناولها باستمرار، والرجل الواحد يعطى قوة مائة في الشهوة والجماع والأكل والشرب، ومع ذلك لا يفتر ولا يضعف، إذاً هذه شهوات يقينية، ولذاتٌ حقيقية.

شهوات الدنيا لا تحصل إلا بتعب

الأمر الثامن: هذه اللذات لا تحصل إلا بتعب، فلا بد من تعب في تحصيل هذه الشهوة، ولو قدر أنه جاءك شيءٌ من غير تعب فلا بد من أن تبذل تعباً فيه ولو في مضغه، وهذا تعب يتعبك، وأحياناً يكون سن من أسنانك أو ضرس من أضراسك فيه ألم فتقول: ما أستطيع أن آكل، وإذا أكلت يؤلمك، ثم بعد ذلك تعب آخر في الإخراج، شهوة لا بد من حصول تعبٍ فيها، وشهوات الآخرة ليست كذلك.

شهوات الدنيا لا تطيب إلا عند الحاجة

الأمر التاسع: هذه الشهوات في الدنيا لا تطيب إلا عند اشتداد الحاجة إليها، وذلك علامة النقص فيها، وعليه كلما اشتدت حاجتك إلى الشيء تفرح به إذا حصل لك، أما إذا لم تكن محتاجاً إليه لا تسأل عنه، فمثلاً: التراب إذا احتجت إليه تبحث عنه، ولو ذهبت حاجتك إلى التراب انتهى، فماذا تفعل فيه؟ أنت تريده من أجل الحاجة، فلو أن الذهب جعله الله كالتراب لزهد الناس في الذهب، فما أحد كلما يرى التراب في طريقه يحتاج إليه، هذا عبث، إذاً هذا الدافع للذة دافع نقص وحاجة، ويدل على أن اللذة كلها دافعها النقص وهي نقص إلى نقص.

استحالة شهوات الدنيا

آخر الأمور وهو الأمر العاشر من الأمور التي تبين خسة شهوات الدنيا وعدم طيبها على وجه التمام والكمال: أن تلك الشهوات تستحيل في نهاية الأمر إلى ما ينفر منه، ولذلك قال أئمتنا: ما جاوز اللسان مكان، أي أن الطعام بمجرد ما يجاوز لسانك دخل إلى المعدة نعوذ بالله بعد ذلك من رائحته ومن منظره وقبح شكله، وأحياناً قيء الإنسان رائحته على الغائط، ما جاوز اللسان مكان.

وقد اغتصب مرةً أحد المكاس امرأةً وأراد أن يفجر بها، فمن خوفها تغوطت في ملابسها، فلما فاحت منها تلك الروائح الخبيثة تركها وهرب عنها، فمن لطف الله بها أنها قضت الحاجة في ملابسها، فما بقي عنده نفس إلى رؤيتها والتمتع بها، فهذه هي شهوات الدنيا ومغرياتها.

أولها: قال أئمتنا: شهوات الدنيا من أولها لآخرها سريعة الزوال، ومشرفة على الفناء والانتقال، والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها، هذه حال لذائذ الدنيا، أي أول عيب فيها أن هذه الشهوات ليست بدائمة، بل مشرفة على الفناء والزوال، أي أن الغني عندما يفتقر حقيقةً حزنه عند فقره لا يعدله سروره عند غناه.

الأمر الثاني الذي يبين حقارة شهواتها، وخسة شهواتها، وعدم وزن هذه الحياة وما فيها إلا ما كان لله منها: أن شهواتها ليست خالصة، وإنما هي ممزوجة بالمنغصات والمكدرات، محفوفة بالأخطار، مشوبة بالأضرار، وحتى الشهوات التي تتمتع بها ليست شهوات خالصة، كم من إنسان صار سبب موته أكله، أكل كثيراً فمات، وكم من إنسان تزوج حبيبةً ليسعد معها فخنقته وهو نائم، وكم من إنسان كان يداعب حبيبه وهذه المداعبة أدت إلى موته وقتله، فهذا يزيد أحد خلفاء بني أمية كان يداعب زوجته ويلاعبها، فألقى حبة عنب في فمها من باب المداعبة هي تفتح وهي يلقي، فدخلت في مجرى الهواء فماتت، فحزن عليها وما أراد أن يدفنها، فتركها أياماً وليالي حتى تفسخت وأنتنت فاضطر إلى دفنها.

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر

شهوات لكن محفوفة بالأخطار، فالذي يجمع المال عندما يفكر في كيفية حفظه وحراسته أحياناً يستيقظ في الليل عدة مرات خشية أن يأتي السراق وقطاع الطريق مع أنه في الأصل سبب السعادة، وإذا المال ما وضعه في البيت وخشي عليه أخذه إلى البنك، ثم يقول: حيل البنوك ما أكثرها في هذه الأيام، ولعله في نهاية الشهر يعلن البنك عن إفلاسه فتذهب الفلوس من أولها لآخرها، تراه يجلس مهموماً، شهوات لكن فيها منغصات، هذه الشوائب والأكدار، لا يوجد شهوة خالصة في الدنيا أبداً، إنما توجد هذه في الجنة.

وحتى الطعام عندما تأكله يوجد شيء من التعب، والطعام عندما يكون في فمك لو نظر الإنسان إليك وأنت تأكل لترك الطعام، ولو تقيأت وأنت تأكل لقام كل من على المائدة، هذه شهوات، لكن فيها -كما قلت- منغصات، فيها شوائب، فيها مكدرات، هذه شهوات الدنيا من أولها لآخرها، لا يوجد شهوة فيها سالمة.

تجد من يتزوج زوجة يخشى أن تخونه، ويخشى أن تقتله، ويخشى أن تسرق فلوسه، أعرف عدداً يعلم الله وليس واحداً -ولعلكم تعرفون أكثر مني- يقول لي: يا شيخ! فلوسي أضعها في البيت وأخشى أن تسرقها زوجتي، أخاف أن تأخذها وتهرب، أعوذ بالله من هذه الزوجة! هذا وضع الحياة الذي نعيش فيه، وإن وضعتها في البنك ابتليت بتعاملهم بالربا، وإذا وضعتها بدون فائدة ساعدتهم على الربا، وقد يعلن في يوم من الأيام عن إفلاسه، وكم من بعض إخواننا أعرفهم وضعوا فلوساً في بعض المؤسسات وما حصلوا منها ريالاً واحداً، قد أعلنوا الإفلاس وانتهت، فهذه هي الدنيا وشهواتها، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198].

الأمر الثالث: هذه الشهوات الخسيسة الرخيصة يشاركك فيها الأراذل، وربما كان حظهم منها أكثر من حظك بكثير، بل هذا هو الغالب، وهذا ينقص من درجة التمتع بها، أما هناك أبداً أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]، هناك الكافر لا يتمتع كما نتمتع نحن، أما هنا حقيقةً الكفار يتمتعون بنعيم الدنيا أضعاف ما يتمتع الأبرار، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]. وهذه الأمور مزهدة للإنسان حقيقةً في هذه الدار؛ أي: إذا كان شيء اختص بالنصيب الأكبر منه الأرذال والكفار والفجار فهذا لا يتنافس فيه، وأفضل وأعقل الناس زهدوا فيما ترى؛ إذ نبذوا الدنيا لعلمهم بها، ورغبوا في أختها لقربها، وهي الدار الآخرة. هذه أحوال الدنيا يشاركك فيها الأراذل، وهذا كافٍ لإسقاط كل شهوةٍ ومتعةٍ عن درجة الاعتبار؛ فما تتمتع به أنت يتمتع به أكدر خلق الله، ونصيبهم من المتعة أكثر من نصيبك بكثير، إذاً هذه ليست بدار كرامة، إنما دار الكرامة جنة الله التي لا يدخلها إلا المؤمن.

الأمر الرابع: قال أئمتنا: شهوات الدنيا ولذائذها ومغرياتها ونعمها على التحقيق لا حقيقة لها، سبحان الله! تأكل ولا حقيقة لهذه الشهوة؟! نعم، هذه ما تكون إلا لدفع آلام، أنت تأكل لم؟ لتدفع الجوع أو ليس كذلك؟ وإذا شبعت هل تستطيع أن تأكل؟ قلت: لا، إذاً هذه الشهوات من أجل دفع آلام، ثم سيترتب عليها آلام تذهب للحمام، وأحياناً تجلس نصف ساعة وأنت في إخراج ما أكلته ويشق عليك، وإذا لم ترتاح تذهب إلى المستشفى للعلاج، وكما قال أئمتنا الكرام: أصبحت في دار البليات أدفع آفاتٍ بآفات، يعني تدفع آفة الجوع بأي شيء؟ بالطعام، والطعام يترتب عليه آفة، قد يؤدي بك إلى موتك، آفة بآفة، وهذه -كما قلت إخوتي الكرام- تبين لنا حقيقة الدنيا، وهي كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث في المسند وغيره بسندٍ صحيح من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها: (دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له)، زاد البيهقي في روايته (ومال من لا مال له)، فالدنيا دار من لا دار له، شهواتها على التحقيق لا حقيقة لها، فهي خلاف ما عند الآخرة.

انظر لهذه الإشارة في سورة الطور في قول العزيز الغفور: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الطور:17-18]، فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ [الطور:18]، قال أئمتنا: لأن جميع أكلهم من باب التفكه والتلذذ لا أن أبدانهم بحاجة إلى الطعام، يأكلون ترفاً، ولا يعقب هذا آفةً كما هي في الدنيا، تذهب إلى الحمام وتضع يدك على أنفك من شدة ما يخرج منك، بل تأكل للتلذذ، ويتصبب جبينك وجسمك عرقاً أطيب من المسك للتلذذ.

وأما هنا كما قلت: أصبحت في دار البليات أدفع آفاتٍ بآفات، هذا حال الدنيا وهذا وضعها، والله جل وعلا يقول في كتابه: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]. قال أئمتنا: شهوات الدنيا هي كلذة الحك عندما يصاب في الدنيا بداء الجرب، يفرح بالحك ويتلذذ عندما يحك لكن هذه لذة؟ ليست لذة.

وأحياناً قد يخدش جلده ويسيل دمه ويتلذذ به، هذه حال شهوات الدنيا من أولها لآخرها.

الأمر الخامس: كما قال أئمتنا: شهوات الدنيا صورتها مستهجنة عند تناولها والتمتع بها والانتفاع بها؛ فشهوة النكاح وهي ألذ شهوات بني الإنسان عند الإنسان: مبال في مبال، لذلك لا تفعلها إلا سراً ويستر الإنسان نفسه حتى عن والده ووالدته وإخوته وأولاده، واسمها عورة، مع ما فيها من منغصاتٍ أخرى.

وشهوة الطعام صورتها: إفرازات من اللعاب والبصاق على الطعام ومضغ، فلو خرجت لقمة منك ونزلت يعني في القصعة لتأفف الحاضرون وقاموا، ولذلك تعلمون أولادكم في الأكل: يا ولدي! لا تخرج شيئاً من فمك عندما تأكل؛ لأن هذا الأمر الناس يتأففون منه، أما أنه يخرج شيئاً ويلقيه في نفس القصعة هذا لا ثم لا، إذاً صورتها بهذه الحالة ليست جميلة بل مستقبحة.

ينقل عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: أفضل مطعومات بني آدم العسل، وهو مذقة ذباب، يعني: هو فضلات النحل، وألذ شهوات بني آدم النساء، وهو مبال في مبال، وحقيقةً لولا ما يترتب عليه من طيب المعاشرة وإخراج الرجال الذين يعبدون ذا العزة والجلال لتأفف العاقل عن هذا وابتعد عنه، وكما قلت: هذه دار افتقار وظلمٍ وانكسار، فيها آفات لنعلم أنها ليست بدار بقاء، ليست بدار تمتع، نفعلها بحكم ضعفنا، فإذا رجعنا إلى ربنا أعطانا: (ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، ومن ركن إلى هذه الشهوات وعبدها من دون رب الأرض والسموات أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].